الثلاثاء ١٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
بقلم الحسان عشاق

كلب الحزب

ترفع شارة النصر، تصفق بحرارة منتشيا بالإيقاع، تردد شعارات مبتذلة لمشروع سياسي ممسوخ، تمشي في المسيرات، تحضر الندوات، تسافر إلى المؤتمرات، تدخل في تحالفات،تخرج منها بأمر من الفوق، لا تتبع أية إيديولوجية ولا فلسفة، خليط من الماضي والحاضر،يستوي فيه العجائبي والغرائبي، الخرافة والدجل والشعوذة، السلفية والتقدمية، دهان سياسي يخدم لجميع المراحل والحقب، أربعون عاما تجتر في بلادة نفس الاسطوانة المشروخة، تقدم الوعود العظام، تمني النفس بمستقبل زاهر لك وللأهل والعشيرة، تعرضت لغسيل الدماغ، وتحشو بدورك أدمغة الآخرين بالترهات، بحثا عن قطيع مدجن، مستسلم ينسلخ عن ذاته،يذوب طوعا في ذوات الآخرين، مسلوب الإرادة، القمة تحرك القاعدة، الأتباع الأغبياء سجناء الهرم المقلوب.

تعيش تناقضا صارخا بين المرحلة والذات المغلفة والماسورة بثقافة الشيخ والمريد وأدوات الصراع المتجددة، سقط حائط برلين، انهار الاتحاد السوفيتي وتفتت، تلاشت ديكتاتوريات، ظهرت دويلات، وحركات تحرر وطني، حراك اجتماعي،ظللت جامدا متكلسا منعزلا متقوقعا، تعيش انكماشا وانفصاما، تخاف الخروج من القوقعة،لاستنشاق هواء ونسمات نقية، لا تخجل من الدفاع عن فكر أحادي منغلق تهاوى، يمنع القفز على الجاهز، هيكل فارغ بدون روح، بدون أفق، رغم الأزمات والانكسارات، تنامي سخط الشارع، تدني الشعبية، نزول المؤشر إلى الحضيض، تستمر في معاكسة الواقع بالانتظار الأجرب، كم حاجة قضيناها بتركها، شيء ما غير طبيعي يحركك، الإطار يتحول إلى جثة متعفنة، يدخل غرفة الإنعاش،تعاند، تزداد إصرارا وتمردا، تعتبر التنظيم في فترة كمون، سينهض من تحت الرماد مثل طائر الفينق، لكن النهوض المعجزة والأسطوري، طال انتظاره وترقبه، سالك احد الأتباع ببراءة مرة، هل سيكون النهوض بنفس الأفكار الجامدة والمتجاوزة أم بتبني تطلعات فكرية حداثية...؟كلمات كبيرة، ثقيلة، أحدثت طنينا كريها في أذنيك المشمعة، ومعنى بائسا وحزينا في الذاكرة، حارس المغارة لا يزال معتقلا في سراديب وأقبية الأمس، الزمن توقف في وعيك بعد الاستقلال، كان الانتماء إلى الحزب شرف كبير، شعارات بناء الوطن تدغدغ الأحاسيس، توزيع الثروة بشكل عادل، تجتذب الكادحين وأفواج الفقراء الحالمين بالفردوس المفقود، الانتظار ضريبة المتخاذلين الذين يضعون مصائرهم في أيدي الآخرين، إنهم أشبه بمن يسافر في زورق مثقوب إلى الضفة الأخرى، رغم المخاطر يغامر هربا من الفاقة والفقر بحثا عن مستقبل مشرق، يكتشف المقلب يثور في وجه سجانه، ضاعت سنوات عمره هباء، ينقلب إلى عدو لذود، تزول السكرة والمخدر، تهاوت النظريات انكمش الاستقطاب و التوسع في تجاويف الوطن، جاء الغضب والنفور، النضال المجاني غيب مند عقود، كل شيء له ثمن، تسلل الجفاف والنضوب إلى الأوعية، تحس بالتيهان و الشرود، كمن القي في صحراء قاحلة،المغارة فارغة إلا من صور باض عليها الذباب ونسج العنكبوت شباكه في جميع الأركان،الغبار يغسل الكراسي والطاولات الكسيحة الخسيفة ألوانها، ترنو بعينيك وقلبك، تتفرس صور وجوه باهتة معتقلة على الجدران، تفتر عن ابتسامات ماكرة وساخرة، أشبه بابتسامة الموناليزا، تحس بغصة، الحلق ينشف، وخز كالإبر في جميع مسامي البدن، داهمتك لحظة مشحونة بالوجع،غمرت الدموع عينيك أغمضتهما، ما أقبح الخسارة، نهاية ذميمة، خروج مذل أمر من العلقم من مسرح الحياة المتشعبة، تستحضر وجوه وأسماء طواها النسيان في غفلة، اختارت الرحيل في الأوج، صونا للتاريخ والكرامة، كانت لديها الجراة والحدس، الوساوس تتربص تحتل مساحات في المخيلة الجامدة.

 كل حزب يعيش فترة عقم وجدب
 لابد من تغيير السياسة العامة
 هذا ما يبحث عنه الجميع
 البداية تبدأ، من القاعدة الملزمة بتبني عملية تجديد النخب
 هل علينا أن نجهز على القيادات التاريخية ونفتح الباب للمبتدئين للقبض على التنظيم...؟
 انه الخيار المتبقي لإنعاش الحزب..
 أبدا لن يحصل هذا..؟

الزمن يتآمر، يخذلك في أرذل العمر، كسر على الصدر الأشرعة والمجاديف، عاجز، مكبل بإطلال نابتة في الجمجمة أشبه بالنباتات الوحشية، تقاوم بدون حيلة، التاريخ الحافل بالتضحيات بلا قيمة، الأوراق الرابحة هما الحاضر والمستقبل، لا تملك لهما مدخلا ومنفذا، وقع أقدام تثير جلبة في الإدراج، خطوات رشيقة لشاب في مقتبل العمر، تفتح الباب ناولك فاتورة الكهرباء، تحس بالمرارة والغبن، اعتقدت أن ثمة مناضل قديم، جاء لصلة الرحم، ما أحوجك إلى شخص تخوض معه الحديث، تجادله تشكو المخاوف والأحزان، تشرح وجهات النظر، تقدم الاعتذار، الإنسان بطبعه خطاء، قال المسيح ( من منكم بلا خطيئة فليرميها بحجر)، وقال الرسول (كل بني ادم خطاء وخير الخطائين التوابون...).

تذكر كيف كانت القاعة تجيش بالمنتسبين، خلية نحل حقيقية، الكل يهتف للزعيم الخالد، للمترشح الذي تنكر وخان العهد، الخيانة سمة السياسيين، يأتون في صفة ملائكة ويتحولون إلى شياطين، جميعهم يغرفون من نفس البركة الأسنة والمطحلبة، صفعة غير منتظرة، أفقدتك احترام الجماهير، الحزب تآكل من الداخل، يتوغل في أحشاء الصمت، أسدلوا عليه ستارا من الامتعاض، السياسة في الوطن لعبة مبتذلة وقذرة، التافهون يسقطون في الفخاخ، الطماع صيد سهل في مصيدة الكذاب، ما أكثر الكذابين والمنافقين، الأحزاب مجرد ديكور، زعماء كراكيز في مشهد مسرحي عبثي، فصوله الرديئة معدلة في مراكز القرار، كل واحد يلعب في الرقعة المحددة سلفا.

في الزقاق تشيع الأشجار الشامخة المخضرة، أشجار تشيع الحياة رغم الكبر، يمتد الحاضر أمامك بكامل وحشيته وكآبته، تتسربل بالاختناق والاشمئزاز والقرف من المدينة المتفسخة، صنعت لها اسما في الجريدة و المحافل، تنكرت لك، كل أسبوع يقرا الوطن أخبار المدينة المنسية، المدفونة تحت الوحل والرماد، في المقاهي وخلف دخان التبغ يستلذ الحالمون بغسيل وفضائح الإدارات، يتناولون بشره أخبار الجرائم والنهب والاختلاس،تسمع كلمات الإطراء والشكر والإعجاب، تعرف أن ثمة منافقين، الشمس تتوارى فجأة، دثرتها بشراسة سحابات سوداء، فكرت أنها ستمطر، تهب روح خفيفة باردة، غير بعيد يجلس متشرد يمد يده متوسلا المارة، جلباب ممزق تختلط فيه ألوان الرقع أشبه بجزر وسط البحر..؟ تجاوزت الشحاذ الأول ولاح لك آخر، لكل شحاذ لازمة خاصة، امرأة متلفعة بالبياض، تعترض سبيل المارة بنبرات مستعطفة، نظراتها الحزينة المنكسرة تنضح بالشفقة، تعرض دزينة وصفات أدوية، العلاج بات مكلفا، من لا يملك المال يموت بالتقسيط أمام المشافي، ملزم بحمل أمراضه والانتحار ليريح ويستريح، كل مؤسسات الدولة تخذل المسحوقين، الرشوة جواز سفر إلى الخدمات، المواطن مجرد رقم في المعادلات البخسة، انتابتك موجة من الخجل، وداهمتك جيوش الملل، الفقر يضغط على المدينة، لا معامل ولا مشاريع، العطالة تضرب بقوة، رائحة الازبال تزكم الأنوف،شيوخ يلعبون الورق، يفترشون الأرض، الضحكات والقهقهات العالية تلوي الأعناق، شيء مقرف أن يقضي الإنسان ما تبقى من عمره، في لعب الورق، هربا من سجن المنزل والطلبات التي لا تنتهي والجيوب المثقوبة، أمام إحدى المؤسسات، جمع غفير من الموظفين، أصواتهم تتعالى، تندد، تستنكر، تدين، خيل إليك أنهم يلوحون لك، ابتسمت ابتسامة فاترة وتابعت السير، لم تضع مخططا مسبقا للجولة، تهيم بدون اتجاه، في عيون الناس يأتي التذمر والقرف، في الكلمات ينبجس الغمز واللمز، تحاول الهرب تتحاشى النظرات القاسية، تنكس الرأس كالمحارب المهزوم، تساءلت إن كنت تعيش مخذولا، تلبس الوهم وتغوص فيه باشتهاء ورعونة، بالأمس القريب كنت تتلقى التحايا بالعشرات، تفتح النقاشات العقيمة بالجملة، لا تقنع أحدا بوجهة النظر الخاصة ولكنك متمرس في مضغ الكلام المعلب، ترمي الصنارة في البركة، تؤتمن عل مصالح الناس،دوام الحال من المحال، لا تدري كيف سقطت الفكرة في الدماغ،قال لك احد اليساريين مرة في المقهى.

 أتعرف أن حزبكم صنيع الاستعمار
 حزبنا فيه خيرة المناضلين الشرفاء
 انه حزب الخونة والمتآمرين على الشعب..اكبر انتهازيين درسوا في الخارج وتعاونوا
مع الاستعمار الذي عقد صفقة مع النظام تقضي بتمكينهم وأبنائهم من مناصب في أجهزة
الدولة

 تهم فضفاضة

 اعد قراءة مفاوضات اكس ليبان..حصلنا على استقلال ناقص وجميع الثروات بقيت في
يد المستعمر مع تمكين البرجوازية المحلية نصيب منها.

تدخل المنزل مثقلا بالأفكار الضبابية، صوت متقطع يخيم على الحجرات، تكسره بين الفينة والأخرى أبواق السيارات وبائعي مواد التنظيف، صور الأولاد معلقة على الحائط، تأوهت بحرقة وألم، كلهم هاجروا إلى مدن الحرية، أخبارهم انقطعت، المكالمات الهاتفية تباعدت،الخبز يسرق اعز الناس،سنة الحياة، شريكة العمر تغيب لأسابيع لرعاية الآباء، الوحدة تعتصرك، تزحف على المخيلة، تتوغل في القلب حسرة، شجرة الحزب ذابلة لم تعد مثمرة، تحتاج إلى التشذيب والتخصيب والارتواء من النبع الصافي، شريحة المغفلين بدأت في الانقراض، حقيقة تلطمك بقوة، المقر أصبح مقفرا، الناس تتجنبك، تنافقك، تسحب آلة لوطار، تسوي خيوطها، تدندن، تخرج النغمة مفعمة بالحزن، أغنية امازيغية تحكي عن الزمن الجميل الذي راح وحل محله وقت أكثر قبحا، وعن الحق الذي يشبه رجلا يتيما سقط أرضا ولم يستطع النهوض، تعشق الفنان الامازيغي محمد رويشة، تحفظ جميع أغانيه، لا تخجل من تنشيط حفلات المجون والعربدة، التنفيس عن لصوص المال العام لعبتك المفضلة، الدفاع عنهم بالكتابات المتملقة المنبطحة، بحثا عن الترقي،الأجر الشهري لا يكفي، التلاميذ الذين درست لهم عبر السنوات فاشلين، يمتهنون مهن وضيعة، ترى بعضهم يتسكعون أمام المقاهي والدكاكين، أجيال تم سحقها باللامبالاة والخديعة، الضمير عملة نادرة، صرخات التغيير إزعاج للعقليات المتكلسة، ظهور أحزاب أخرى في الساحة يزيد من ماساتك وعزلتك، تشكلت النهاية التعيسة، لكنك تصر على المقاومة، تصارع طواحين الهواء، دونكيشوط زمانك، تكبس في وعيك على بصيص أمل، تحلم باستعادة الأمجاد، الأحزاب الوطنية لا تموت، تتداخل الأصوات المزعجة في الرأس،تتدلي من النافذة، تنظر إلى المطر المنهمر على الإسفلت، البالوعات تقيئ المياه، الشارع يغرق، حركة المرور تتعطل، راكب دراجة نارية يبلله رشاش السيارات المسرعة، يسب السائق المتهور، يلوح بيده مهددا، يرسم حركة الخنق في الهواء، آخرون يرشقون مسؤولي المدينة بالسباب والشتائم، التذمر الجماعي وصل ذروته، دكاكين الدهانات في الوطن لم تعد فاعلة ومؤثرة في الوعي الجماعي، تراجع مفعولها، انكشفت مقاصدها الملتبسة، تأكل مع الذئب وتبكي مع الراعي، تفرمل تطلعات الشعب، فقدت الثقة في التنظيمات، في عيون الناس ألوان الطيف السياسي متشابهة، نسخ كربونية، القواسم المشتركة البحث عن المصلحة الشخصية.

تمشي الهوينى، تستبد بك تخيلات هلامية، تسند الكتف إلى عمود كهربائي، تلتقط الأنفاس، تمارس طقوسك في تفحص المارة، تمر أمامك شابة في العقد الثاني، أصابع مليئة بالخواتم والصباغة، معاصم مسورة بالأساور تحدث رنينا مبعثرا أشبه بالثريات المعلقة في مواجهة الريح، في انفها يرتاح قرط زجاجي، شعر ثائر بصخب مجنون،جسد مهيأ للركض والرقص،لاحقتها في حسرة حتى غابت، سقط بصرك على شاب سروال ممزق يتدلى بعبث، يظهر التبان وجزء من الإست، يصدر صوتا أشبه برغاء الجمال، رأس حليق تتوسطه شعيرات منتصبة أشبه بالقبرة، لعنته في الخيال. نعيش حالة من الاندحار الأخلاقي والتمرد على الوضع، فرطنا في الهوية، لا هي عربية ولا غربية، تمطر غيمات الحنين في فضاء الروح، الحنين إلى الماضي البعيد، يداهمك الحاضر بقبحه وقسوته وعنفه تترنح، هائما على الوجه، غريبا، منبوذا، تزحف مثل عضاية، تدفع المفتاح في القفل، تصعد الأدراج،الم ينبض بالرأس والجسم، انزلق على اللسان لفظ ( الشيخوخة) لأول مرة تشعر بالهزيمة، تبحلق في كومات الأوراق المستسلمة فوق الرفوف المتآكلة، تسحب ملفا ثقيلا، تنفض عنه الغبار، ضربتك رائحة الحموضة، تقرأ الأسماء،التاريخ، أسماء رحلت إلى العالم الآخر، أخرى تنتظر نوبتها، آخرون غيروا الوجهة السياسية، ارض الله واسعة، كثيرون تقاعدوا طلقوا العمل السياسي، تقليب الأوراق يثير فيك شعورا غريبا، مزيج من الرهبة والخوف، امرأة عجوز تعيد فتح الصناديق القديمة، بحثا عن شيء ما أضاعته في غفلة، تأتي الثرثرة بقسوة مثل صفعة مباغتة على الوجه، يطوقك الضجيج الأرعن فاردا جناحيه، القاعة تضيق، تغرق في العرق ودخان السجائر.

 ما موقف الحزب من الحراك الاجتماعي
 نتعاطى معه بناء على توجيهات القيادة
 الشعب يعاني البطالة والفقر وتوسع الهوة وضروري ان نكون بجانب الطبقات
المسحوقة ولا نحتاج الى تعليمات اية جهة.
 نحترم المواقف الوطنية الشجاعة لكنها تتعارض مع توجهات الحزب
 الحزب الذي ينظر خارج الإرادة الشعبية ليس حزبا بل مخفرا تابعا للدولة
 اسحب الكلام...؟
 لن اسحب ولسنا كلابا حزبية ولا قطيعا
 أنا كلب الحزب

خرجت الكلمة بدون استئذان، كانت لحظة من لحظات الضعف والانكسار والهزيمة، الضغط يولد الانفجار،انفجرت للهروب إلى الأمام، لحسم الموقف، خيم الغضب والنرفزة، تعالت الأصوات الباحثة عن موقف جماهيري، المطالب تصطدم بجدار من الاسمنت المسلح،تعاظمت قيمة الوجود والانتماء، صرخ احد الحاضرين، لسنا عبيدا في ضيعة الزعيم، ولسنا مفصولين عن المحيط العام، نحن جزء من الشعب وعلينا التفاعل مع المطالب المشروعة، أمام استحالة تسطير وتسييد موقف الأغلبية، بدأت الانسحابات، أفرغت القاعة، لم يبق سوى بضعة رؤوس خنوعة، تميل حيث العليق، عاد الهدوء المشوب بالحذر، لأول مرة تخسر حربا، تشعر بمرارة الهزيمة، جبل من الثلج يسقط فوق الجسد، القافلة تسير والكلاب تنبح، لطمك المعنى كقبضة شرطي، ملعون من أطلق هذه الفكرة البليدة والساذجة، الكلاب لا تنبح سوى على الغرباء واللصوص،هل رأيت يوما كلبا يهر أهل الدار...؟

أربعون عاما تحمل هيكل الحزب على الظهر،أصبحت ذاكرته المتنقلة، عرف صعودا وهبوطا، انتصارات وهزائم، أحلك اللحظات لم يعرف انقساما أو قلاقل، فكرت بصوت مسموع ما الذي حصل وكيف ولماذا...، يأتيك الجواب قاسيا، مقتحما، فتاكا، الأفكار المبسترة لم تعد صالحة...؟ تستعيد أدق تفاصيل ذلك اليوم الذي يعد نقطة تحول، الجماجم المعتقلة بالمسكنات والمنومات فكت من أسرها، زال التخدير، انزعجت وانتابتك المرارة، لم تستطع إيجاد تفسير للانقلاب على المفاهيم الراسخة، عن المرجعية الحزبية المتوارثة، تهدم المعبد، تلاشى الاحترام، مند سنين تحرس معبدا تسكنه الأوهام والذكريات، ترفض الاستسلام وابتلاع وهضم الحقيقة، أن جرعات الكذب والخداع وتوزيع الوعود لم تعد تجدي، زمنك أيضا انتهى، المرحلة التي أوجدتك اندحرت، عليك الانسحاب في هدوء صونا لما تبقى من الكرامة، تترك المشعل المنطفئ والراية المنكسة، لا حاجة للتمترس اليومي في مغارة مهجورة، تحرسها، تهويها، تعشق القيادة عشقا جنونيا، ومن العشق ما قتل، طرقت أبواب الدجالين، حرقت البخور ورش المحاليل، تطرد النحس،تعلق التمائم والأحجبة،(وإذا المنية أَنشبت أظفارها ألفيت كل تميـــمة لا تنفع) على حد قول عمك الشاعر أبو ذؤيب الهذلي، أية الكرسي ترتاح في جيب المعطف،لا فائدة من اجترار سيمفونية رديئة، الدوران في حلقات مفرغة لن يعيد البكارة للحزب،ولا الخراف إلى الحظيرة، الأحزاب تغرق مند سنوات في الجذب والعقم، رائحة التغيير منعدمة، التخشب فوق الكراسي مرض يصيب زعماء البطنة، الوطن العربي يستنسخ التجارب الحزبية، يخونون الخارج عن الصف، المغرد خارج الصرب ملعون إلى يوم القيامة،على المريد إطاعة الشيخ، لم تكن تؤمن بالاختلاف في الرأي، لا تستوعب إطلاقا أن الاختلاف ليس ضربا تحت الحزام بل دفعة لنشر الوعي، فسح المجال أمام الطاقات، لتجديد الدماء، تستفزك الوجوه المبهمة الغارقة في الغموض، ملامح باعثة على الشك، تتخيل أنها مدفوعة مندسة، تحوم حول الكرسي، الاحتراس حاضر في المخيلة، لا احد يعرف ما تخبئه الأدمغة، التنظيمات مكتظة بالمرتشين وعديمي الذمة، عندما لا تنفع الفراسة في كشف أسرار الآخر، ترمي ورقة (فرق تسد) على الوجوه، للتحكم في القطيع، المقالات التي تكتب لم يعد لها طعم ولا معنى، العالم الافتراضي أصبح الإعلام البديل،الخيارات أمامك معدومة،لا وسيلة لإعادة الروح لجسد يحتضر، في الليل نبتت في الدماغ فكرة بدت مستعصية على التنفيذ، قلبت الفكرة في الرأس آلاف المرات، تبينت الربح والخسارة، أربعون عاما تحمل يافطة على الظهر، أربعون عاما عشت مسلوب الإرادة، مكبل الدماغ، شعور غريب ينتابك، يدهسك، يفعصك، شعور المحارب المنكسر المهزوم، دخلت حروبا كلامية، خلقت العداوات، وخرجت بأشرعة ممزقة وعدة ندوب، طعنت في الظهر من اقرب المقربين، لم تغضب ولم تحقد على احد، لكنك حافظت على الكرسي، حميته بالقوة والكولسة، آن الأوان لتستريح من الضجيج والكلام المعلب، في الصباح دبجت رسالة بأنامل مرتعشة مترددة، في رأس الورقة البيضاء بانت عبارة استقالة من الحزب. عندما انتهيت أحسست بفرح طفولي، صخرة كبيرة تنزاح من على الظهر، تنفست الصعداء، الآن أصبحت حرا لتهتم بالمرض، تتصالح مع ذاتك، تجلس على قارعة الطريق للعب الورق وزيارة الأهل والأصدقاء، التقاعد نعمة ونقمة، استرخيت فوق السرير وغبت عن العالم المحسوس.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى