الخميس ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
بقلم مريم علي جبة

في حوار مع الأديبة سناء الشعلان

عوالم الرّواية تقدّم مساحات كاملة للرّؤية، والكشف، والجدال، والنّقاش

علم من أعلام الأدب العربي، واسم بارز في عالم القصة، والرواية. أديبة وأكاديميّة وإعلاميّة أردنيّة من أصول فلسطينيّة، ومراسلة صحفيّة لبعض المجلات العربيّة، وناشطة في قضايا حقوق الإنسان والمرأة والطّفولة والعدالة الاجتماعيّة، تعمل أستاذة للأدب الحديث في الجامعة الأردنية/الأردن، حاصلة على درجة الدّكتوراة في الأدب الحديث ونقده بدرجة امتياز، عضو في كثير من المحافل الأدبية والأكاديميّة والإعلاميّة والجهات البحثيّة والحقوقيّة المحليّة والعربيّة والعالميّة.
حاصلة على نحو ثلاث، وستين جائزة دوليّة وعربيّة ومحليّة في حقول الرّواية والقصّة القصيرة وأدب الأطفال والبحث العلميّ والمسرح، كما تمّ تمثيل الكثير من مسرحياتها على مسارح محليّة وعربيّة.

لها ٥٨ مؤلفاً منشوراً بين كتاب نقديّ متخصّص ورواية ومجموعة قصصيّة وقصّة أطفال ونصّ مسرحيّ مع رصيد كبير من الأعمال المخطوطة التي لم تنشر بعد، إلى جانب المئات من الدّراسات والمقالات والأبحاث المنشورة، فضلاً عن الكثير من الأعمدة الثابتة في كثير من الصّحف والدّوريات المحليّة والعربيّة.
لها مشاركات واسعة في مؤتمرات محلّية وعربيّة وعالميّة في قضايا الأدب والنّقد والتّراث وحقوق الإنسان والبيئة، إلى جانب عضويتها في لجانها العلميّة والتّحكيميّة والإعلاميّة.
هي ممثّلة لكثير من المؤسّسات والجّهات الثقافيّة والحقوقيّة، كما أنّها شريكة في الكثير من المشاريع العربيّة والعالميّة الثّقافيّة.

تُرجمت أعمالها إلى الكثير من اللّغات، ونالت الكثير من التّكريمات والدّروع والألقاب الفخريّة والتّمثيلات الثقافيّة والمجتمعيّة والحقوقيّة.
مشروعها الإبداعيّ حقل للكثير من الدّراسات النقدية والبحثيّة ورسائل الدّكتوراه والماجستير في الأردن والوطن العربيّ والعالم.
إنها الأديبة سناء الشعلان التي أسعدنا استضافتها في ديوان العرب، فكان لنا هذا الحوار الممتع.

1- صدر لكِ حديثاً في الفترة ذاتها تقريباً رواية «أدركها النسيان» والمجموعة القصصيّة "أكاذيب النّساء" والمجموعة المسرحيّة "سيلفي مع البحر". فأيّ هذه الإصدارات يمثّلك؟ وصادر عن وعيك؟

جميعها يمثّلني، وكلّ منها تعبير عن ذاتي وعيي على اختلاف شكل الدّفقة والتّشكيل وفقاً لتفاوت الحالة الشّعوريّة ومتطلّباتها من البناء والأدوات وطريقة العرض والتّقديم والتّشكيل.

2- ما المحرّك الأكبر في أعمالك الإبداعيّة؟

أعمالي جميعها هي تشكيل في سبيل بناء واحد، وهو معاني الجمال والحقّ والحريّة والإخاء والمساواة والعدل. وفي سبيل ذلك يكون معماري الإبداعيّ كاملاً.

3- تسيطر الكابوسيّة على الكثير من أعمالك الأخيرة. فهل هو وعي جديد؟ أم طريقة جديدة للرّؤية؟

هي زاوية جديدة للتّشكيل وفق رؤية مقلقة لهذا العالم المتوحّش حيث الكابوسيّة تسكنه في جنباته جميعها. لا يمكن تصوير خرائبيّة هذا العالم وسوداويّته إلاّ من خلال فضح كابوسيته الخانقة التي تسدّ الدّروب أمام الإنسان.

4- صدر لك أخيراً المجموعة المسرحيّة "سيلفي مع البحر"، وهي مجموعة تنزع إلى السّوداوديّة والكابوسيّة والعوالم الخراب والمآلات القاسية. فلماذا انتقلت برؤيتك للعالم من الرّواية إلى المسرح؟ هل هي هجرة للرّواية؟ أم توجّه جديد عندك نحو المسرح؟

أبداً لا يمكن أن أهجر الرّواية؛ فأنا أعشق عوالم الرّواية لأنّها تقدّم مساحات كاملة للرّؤية والكشف والجدال والنّقاش. إنّما احتجتُ في بعض أفكاري إلى مساحة دراميّة ذات بعد صراعي يشارك الجمهور فيه لا سيما أنّني أعشق مسرح التّغريب وطريقة "برتولت بريخت" في إشراك الجمهور في العمل المسرحيّ، وجعله جزءاً فاعلاً ومشاركاً من فرجة المسرح، لا مجرّد حاضر.

5- إلى أيّ حد أنتِ "بريختيّة" في مسرحك؟

إلى حدّ النّخاع، المسرح عندي ينبني على شاكلة بناء المسرح أنا مؤمنة جداً بمدرسة المسرحيّ الألمانيّ "برتولت بريخت" بما فيها من اتّجاهات وطريقة رؤية وتشكيل، لا سيما فيما يخصّ هدن الجدار الرّابع في المسرح، والتّغريب، والمزج بين الوعظ والتّسلية، واستخدام المشاهد المتفرّقة، واستخدام الأغاني والأناشيد واللّوحات الاستعراضيّة داخل العرض المسرحيّ.

6- في روايتك "أدركها النّسيان" هناك عرض لجدليّة الوطن والمنفى. فكيف ترين ذلك؟

عندما نتكلم عن المنفى والوطن، فإنّنا لا نتحدّث عن مكان وجغرافيا في أبعاد زمانية وتجارب شخصية أو جمعية وحسب، بل إنّ هذا الحديث الجدلي يستدعي الكثير من الرموز والإسقاطات والتجلّيات والأبعاد والحيثيات والتجارب والمكابدات والرؤى والتشكيلات والمشاهد العامة والخاصة. وفي هذا الشأن يغدو الوطن هو المعادل الموضوعي لكلّ قيم الأمن والطمأنينة والتحقّق ومعطيات تشكيل الذات،وتقديرها، وإرضائها، وتوفير متطلباتها الأساسية والثانوية، بل يغدو كلّ ذلك هو المعادل للوطن، أو هو الوطن ذاته بكثير من المعاني، وفي إزاء ذات يقدّم القلق والخوف والظلم والحرمان والتشظّي وغيرها من تجليات الضياع والفقد والظمأ معادلاً حقيقياً للشّعور بالنّفي والإقصاء والبعاد عن أرضية ثابتة للانتماء والتّجذّر الذي يعزّر شعور الإنسان الطبيعي بالحماية والعون والدعم والحبّ الذي لا يستطيع أن يحيا الإنسان دونه مهما أدّعى عدم حاجته إليه.
وفي هذا السياق نستطيع أن ندّعي أنّ الوطن ليس فقط جغرافيا، بل هو منظومة كاملة من تلبيات الحاجات النّفسيّة والجسديّة والعقليّة والرّوحيّة،ولذلك نستطيع أن نفهم معنى التنكّر للوطن بقيمته الجغرافية عندما يحرمنا من هذه الحاجات والقيم ، فنجد الكثير يكفرون بوطنهم عندما يجوّعهم ويظلمهم ويقصيهم، ويعاملهم معاملة الغرباء والملفوظين والمغضوب عليهم،عندها يهجرونه غير آسفين عليه، ويقصدون أوطاناً أخرى بديلة تؤمن لهم اللقمة والكرامة والاحتضان والعدل والحرية التي حرموا فيها في أوطانهم، فيسهل عليهم عندئذ أن يخلعوا الماضي بما فيها الجغرافيا المسماة وطناً من قلوبهم وذاكراتهم،ليحلّوا محلّها أوطانهم الجديدة التي أغدقت عليهم بما حرموا منه.

وقد يبقى المرء في وطنه المزعوم رغم أنفه لاعتبارات كثيرة،وهو يبادله الحق والغضب والجحود والإقصاء، فيقبع في أسير نفسه وعزلته، فيعيش غربة المنفى والاغتراب، ومرارته، ووحدته، وحيرته، وهو يعيش في مفارقة غريبة تمزّق نياط قلبه، وهي مفارقة أن تكون في الوطن، ولا يكون فيك، فيكون حيئنذٍ سجناً كبيراً الإقامة فيه إجبارية حتى يتسنّى الهروب منه، وقد لا يتسنّى ذلك، فيبقى المرء عندئذ سجين معاناة عجيبة، تجعله يرضخ لألم غير مبرر الوقوع في حقه.

7- ذكرتِ لأكثر من مرّة أنّك تجدين صعوبة في الحديث عن روايتك "أدركها النّسيان". فما سبب ذلك؟

أجدُ صعوبة في الحديث عن رواية "أدركها النّسيان"؛ لأنّني كتبتُ فيها كلّ ما أردتُ قوله بطريقة بطليها بهاء والضّحّاك اللّذين كانا أجرأ منّي في البوح وسرد قصّة حياتهما، بما فيها من ملحميّة موجوعة تدين القوى الاستبداديّة، وترفض الانسحاق تحت قواها؛ فهما استطاعا أن يعرّيا جسديهما أمام الجميع ليعرضا ما علق بهما من أدران وعذابات، دون أن يخوّفهما سوط الجلاد الذي التهم الكثير منهما.
لا تبحثوا عنّي في هذه الرّواية؛ فأنا لوّحتُ لكم بكثير من الخدع لأسرقكم إليها، ولتتورّطوا بها، وبعد ذلك لن تجدونني هناك، على الرّغم من وجودي فيها، بل عليكم أن تجدوا أنفسكم وعوالمكم لتفكّوا أسرار هذه الرّواية، وتعرفوا كلمتها السّريّة، وتنزلوها على الواقع، وتسقطوها على قبائحه، وبخلاف ذلك لن تكونوا أكثر من سيّاح من النّوع الغرّ قليل الخبرة الذين يسيحون في أرض العجائب مغمضي العيون، صمّ الآذان.

8- في روايتك «أعشقني» انزحتِ إلى عالم الخيال العلميّ في ظلّ فتور هذا الأدب في المشهد العربيّ. فما سبب ذلك؟

وإن كان الخيال العلميّ في ظلّ إفلاس المجتمعات العربيّة واستلابها في الوقت الرّاهنة لم يعد مطيّة الأدب نحو الإنسان؛لأنّه حلم الأمم التي تنتج الحضارة والعلم،فإنّ فنتازيا الخيال العلميّ تهرب من أزمة إنتاج الحضارة إلى أزمة إعادة إنتاج الإنسان وتأهيله،ولذلك فإنّ رواية "أَعْشَقُني" تتحايل على تقديم معادلة علميّة محدّدة للطّاقة المفترضة في البُعد الخامس بأن ترسم عوالم مفترضة كاملة في عام 3010م حيث الإنسان يعيش في جغرافيا شاسعة تمتدّ عبر كواكب مجرّة التبّانة،ويتنقّل عبر مراكب فضائيّة،ويعيش في منظومة استلابيّة تحوّله إلى مجرّد رقم لا إرادة له ولا قرار،فيعيش ويتزوّج ويتناسل وفق إرادة هذه المنظومة التي يحكمها الأشرار والرّجال الآليّون،حتى أنّ هذا الإنسان ينقطع عن ماضيه وإرثه وإنسانيّته وفطرته،فيهجر ربّه وقلبه وجسده،ويغدو مفرغاً من كلّ شيء خلا الطّاعة العمياء لنظام الآلة وسيطرة المنظومة التي تكرّسه لأجل خدمتها وثرائها وسلطتها.
التّجريب عبر الخيال العلميّ وامتطاء الفنتازيا أتاح لي أن أنقل كوابيسي وكوابيس البشريّة القلقة على مصير الإنسان إلى حيوات حقيقيّة دراميّة تشهد مآل الإنسان ضمن توليفة منساحة رحبّة تنبع من اليوتوبيا الخياليّة والكوميديا السّوداء والحكايات الشّعبيّة والخرافات والموروث الإنسانيّ وفنون الإرعاب والإرهاب وأكاذيب المخيال وقصاصات الأمنيات وشطحات التّفكير وتهويمات الخيال وجذاذات الحلم والكوابيس ومبالغات العقل وإسقاطات النّفس وفلتات الوعي ومزالق اللاوعي وغابات التّداعي الحرّ للأفكار وفوضى الأفعال اللاإردايّة والقسريّة والوسواسيّة.
وفي ظلّ الخيال العلمي رسمتُ عالماً مخيفاً إن حكمه العقل،وقادته النّفعيّة،وغاب عنه القلب،وهجرته المشاعر،بل بالغتُ في تقريب صورة هذا الوحش الذي يغدوه الإنسان دون قلبه،حتى تغوّلت ملامحه المخيفة البائسة،فما عاد يعرف الجنس والحبّ و الرّب،وأصبح مجرّداً من كلّ سعادة،يعيش أوقاته دون هدف أو بغية،مفلساً إنسانيّاً حدّ الانقراض الحتمي.
وهذا الإنسان المسخ في عوالم رواية " أَعْشَقُني" هو صورة الإنسان المستقبلي في عام 3010م بعد أن يغدو قُدماً في ظلمه وسلبيته ونفعيته،وهو ذاته المادة التي سوف أشكلّها لتنتج "باسل المهري" المرتدّ عن ظلمه بقوة الحب،وهي التي تنتج " خالداً " و "شمساً" اللذين يرسمان طريق الثّورة نحو تحرّر الإنسان من ظلمه،وهما من يكونان نبيّي الأخلاق والشّرف والمبادئ والعدل والإخاء في عالم سقوط القيم،ورحيل الضّمير والمبادئ.

9- ما هو الحلم الدّائم الذي يداعبك في رواياتك جميعها؟

لقد كان حلمي هو الانعتاق والتّحرر من تابوات المجتمع التي تقمع الفكر والتّقدّم والإبداع وتتأمر على الأفراد المجدّين المتميزين، وتتواطأ مع الكذب والفساد والاستلاب والقمع، وتصلّب الفكر الحرّ الطّلائعيّ الرّياديّ على خشبة التّجاوزات، وتعدمه بحبلّ المحدّدات والأعراف وقبولات الجماعات والمجتمعات والأفراد والملل والنّحل. ولذلك رواياتي هي مطيتي نحو حريتي وانعتاقي الذي أراه في انعتاقاً للمظلومين والمقموعين جميعاً.

10- ما هو القاسم المشترك بين روايتي "أعشقني" و"أدركها النّسيان"؟

الثّورة هي ذلك القاسم بين تلك الرّوايتين؛ فهي مضمون هاتين الرّوايتين وهاجسهما، هي كانت مسوّغهما ودافعهما نحو التّحرّر من الشّكل التّقليديّ للرّواية، فلا يمكن أن نتحدّث عن الثّورة إلاّ بالثّورة، لذا فقد شُكّلت الرّوايتين كما يشاء الانعتاق، مادام السّرد قادراً على النّهوض بهاتين الرّوايتين.

11- كيف ترين استدعاء الموروث الإنسانيّ والاتّكاء عليه في استيلاد الشّكل الإبداعيّ الجديد في المشهد الإبداعيّ العربيّ؟

يستلهم الموروث الإنساني كاملاً في ضوء ثقافة المبدع العربيّ ومعطيات موهبته ومجريات أحداث واقعه ليضطلع بمهمّة تشكيل عالم كامل يجسّد وعياً خاصّاً وإدراكاً تهيمن عليه الفكرة، وتجسّده لغة تحمل على عاتقها رسم هذا العالم، وترك الباب موارباً لدخول القارئ والمتلقّي الواعي الذي لا يعدم وسيلة لإعادة ترتيب هذا العالم الإبداعيّ وفق صورة حقيقيّة لعالمه الذي يحياه ويعيش واقعه.
فنجد المبدع يستحضر من ذاكرته الشخصيّة المنبثقة من ذاكرة جمعيّة مفردات موروثه العربيّ والإنسانيّ بل والإنسانيّ كذلك إن دعت الحاجة إلى ذلك،فنجد استحضار العوالم الصوفيّة ولغة القرآن الكريم والأحاديث النبوية والمقامات،الأمثال والحكم والمقولات المأثورة ونصوص الأغاني والأهازيج والرّسائل والخيالات والأوهام والوصايا والقصص الشّعبيّة وسير الأبطال والنخب والأخبار والمغازي والسّير والمقامات والأسفار والكتب المقدّسة والملاحم وحكايات التكوين والوجود والنهايات والملاحم والفتن والملل والنحل،كما يستثمر التهويم والشطحات المعهودة في الأحلام والكوابيس والمنامات،ويجنح أحياناً إلى الاعترافات واليوميات والمذكّرات، إلى جانب توظيف لغة الأسلوب الصّحفي عبر التّقارير والإعلانات والخواطر والمقالات بعد المرور بحكايا العشق والفرسان وألف ليلة وليلة ومغامرات الشّطار والعيّارين واللّصوص والظرفاء والحمقى والمتحامقين والمؤدبين والعلماء والصالحين والأشرار والفجّار والرّواة والنّساك والزّهاد والرّحالة والمكتشفين والعشّاق والمجانين،وغيرهم الكثير.
ونستطيع القول أنّ الكثير من الإبداعات التي تستدعي التّراث إنّما توظّفه لتستثمر أجواءه ونجاحاته وإحالاته،وتستظلّ بحضور رموزه ومعاني دلالته المثبتة في الوعي الجمعي والذاكرة العامة،وهي في الوقت ذاته تجرّب حظوظها في تقديم نصّ على نص،يبرّر وجوده بأدواته ونسقه وإبداعه ومسوّغات حياته،بقدر ما ينقل الماضي إلى الحاضر،ويقول مقولته في الحاضر بصوت الماضي الذي قد يكون أعلى صوت في الوجدان الإنسانيّ من الصّوت الحاضر لارتباطه بمعاني الأكادية والموثوقيّة.

12- هناك اتّجاه إلى تداخل الأجناس الإبداعيّة في المنتج الإبداعيّ العربيّ. فكيف ترين ذلك؟

يشهد الأدب العربيّ في اتّجاه واضح وبارز جنوح الكثير من مبدعيه إلى تداخل الأجناس فيما ينتجون،وهو جنوح مدروس عند الكثير من المبدعين الذين يرونه حرية إبداعية وإنتاجاً جديداً يخترق الموجود،وقد يسبقه،أو يتفوّق عليه،أو انسياقي خلف مناخات تحرريّة وبيئات فكريّة وأدوات ثقافيّة في معظم الاحيان،ولعلّ الرّواية بالتحديد هي الأرض الأرحب لهذا التّداخل؛لكونها الأكثر تحرّراً،والأوسع أفقاً،والمترامية الضّفاف،والقابلة للاستيعاب والتجديد بفعل خصائص توليدها وآليّات بنائها،وهي بذلك مستمرّة في التّطور،ولم تكتمل ملامحها بشكل حازم بعد؛لأنّ القوى التي تشكّله لا تزال فاعلة وتتجاذبه في سيرورة من التحوّل والنّماء والتّغير المطّرد.
وهذا التّداخل هو مساحة للجدل؛فالبعض يبغي أن يلغي الحدود الفاصلة بين الأجناس السّرديّة داعياً علانيّة إلى انسياح غير مشروط في بنى متداخلة لا تعرف حدوداً أو تخوماً أو علامات فارقة،في حين يرفض آخرون عدّ وجود السّمات المشتركة بين جنس أو آخر هو تداخل إلى الحدّ الذي ينتج جنساً هجيناً يحمل صفات مشتركة من الأجناس التي انتزع بعض صفاته منها.وهؤلاء ينطلقون في رفضهم هذا من خوفهم العميق من أن تستمر متوالية التلاقحات والتّداخلات إلى حدّ ظهور غير محدود من الأجناس الهجينة التي توافرات على التهجين لأكثر مرّة لتخرج أشكالاً إبداعيّة مسوخّاً تعلن صراحة حالة الفوضى والخلل والفراغ التجنيسي،ومن ثم التهريج والخروج خارج دائرة الإبداع. 
 وأيّاً كانت المواقف أوّ الآراء،فلا أحد يستطيع أن ينكر أنّ هناك دفق من الأعمال الإبداعيّة التي انبثقت من رحم التّلقيح والتّداخل،وأنّها قّدمت تجربة خاصّة من تداخل فنون مختلفة في مساحات مجاورة لمساحاتها الأصليه،هذا إن سلّمنا بنظرية الأجناس الأدبيّة،وقبلنا بفكرة وجود حدود فاصلة وواضحة ومحدّدة بين الفنون.
وهذه الأعمال قد ضربت عرض الحائط بنظرية الأجناس الأدبيّة وتقاليد أنواعها،وذلك انطلاقاً من تأثّرها بأجواء التحرّر الفكريّ والثّورة،ورفض التقليد والاستلاب والأسر والنموذج الواحد المفروض،وانصياعاً لحسّها الخاصّ بحريّة الدفقة الإبداعيّة طالما أنّها تعبير عن ذات مبدعها،وانبثاق من وعيه وفكره وظروفه وحقائقه ومالآته،وهم بذلك أعلنوا صراحة أنّ فكرة الأنواع الأدبية ما هي إلاّ وهم من صنيعة النّاقد والمبدع والمتلقّي على حدّ سواء،وتجاوزها لا يحتاج أكثر من نسيانها،والانطلاق نحو الحريّة في الإبداع.
تداخل الأجناس في الوقت الحاضر هو تجاوز كامل عن التوجّه الأرسطي الذي قسّم الأجناس الإبداعيّة ضمن خانات ثلاث فيما يسمّى بنقاء الأجناس،وهو انسجام مع ثورة الرومانسيّة على الكلاسيكيّة التي توجه الناقد موريس بلانشو بنفيه للأجناس،وهو انتصار حقيقيّ لفكر بنديتو كروتشه الذي أعلن صراحة موت الأجناس،وبشّر علانيّة بعصر جديد متحرّر من قيود أيّ تحديد لجنس أدبي ما.
وهذا الاتجّاه ينطلق من أنّ هناك تناقص جدلي ومنطقي وعقلي بين الإبداع والتجنيس؛إذ إنّ الإبداع هو عمل منطلق من حريّة التعبير عن الذات وعلاقتها بذاتها وبالآخر وبالكون وبالزّمن،فيما أنّ التجنيس هي عمليّة استلابيّة مسبقة تصادر هذه الحرية قبل أن تعيش ذاتها في ظلّ ثبات شكلي مفترض لهذه الدّفقات الذاتيّة،ومن هذا المنطلق يعدّ رولان بارت أنّ الإبداع هو خلخلة الأشكال السّابقة،وليس محاولة التوفيق بينها.
لقد ظهر تداخل الأجناس عن العرب عندما وضع الصّراع أوزاره حوله في الغرب بعد التفجّر المعرفيّ والتقني والفكري عنده،وعندما وصل إلى العالم العربيّ وجد لصوته ملبين كثر عبر المستشرقين والتّرجمات والأدباء المهجرين،وظهر المدافعون بشراسة عن المثالية المزعومة للشكل التّقليديّ،ولكن الكثير من المجربين لتداخل الأجناس قد حققوا انتصاراتهم الإبداعيّة ليفتحوا باب هذا الاتجاه بكلّ قوّة وحضور تعبيراً عن حاجة المبدع لأن يطوّع أدواته الفنيّة لأجل أن تمثّل عوالمه الدّاخليّة،وتنسجم معه ومع واقعه المعيش،رافضين خلع صفة القداسة على الشكل الأدبي التّقليديّ،ومنادين بسلطة الدفقة الإبداعيّة أيّاً كان شكلها دون أن يقلقهم تسمية ما يبدعون ما داموا يؤمنون به،ويرونه امتداداً لهم،تاركين للنقّاد الكلاسيكيين أن يعيشوا قلقهم الخاص في إزاء تصنيف النّص على أسس كثيرة يحدث أن يتساوي وجود عناصر بشكل متكافئ في النّص الواحد،فلا يدري عندها أين يصنّف هذا النّص.

13- ما رأيك بخارطة الجوائز العربيّة؟

الأصل أنّ الفكرة الأساسية من أيّ جائزة هي التعريف بالأديب وتكريمه ثم دعمه مالياً ومعنوياً وإعلامياً،وهذا الأساس هو ما يجعل في الغالب الجوائز تجنح إلى الحياد،وتسمو بالعمل المتميز وبالأديب المبدع بحق، وخير دليل على ذلك أنّ كثيراً من المبدعين الذين أثبتوا أنفسهم وكرّسوا مواهبهم في أعمال استثنائية كانوا أساساً قد انطلقوا من بعض الجوائز التي امتازت عبر عطائها بالحياد والموضوعية والنزاهة،ولذلك استطاعت أن تحقّق أهدافها النبيلة ،وأن تنتزع الاحترام والمشروعية والتقدير من المبدعين والمؤسسات والحكومات على حد سواء. ولكن ذلك لا ينفي وجود الغثّ والفاسد ،واستبعاد العمل المميز،وتحيد المبدع وتهميشه ومحاربته لأسباب شخصية أو كيدية، وفق مفهوم العصابات والشللية وخارطة المصالح المشتركة التي توجد- شئنا أم أبينا- في أيّ مشهد ثقافي، ولكن أولئك سرعان ما يسقطون في الظّل، ويبقى الخلود للعمل المميّز، ويلاقي المبدع التكريم والتقدير في نهاية المطاف؛لأنّ الإبداع هو المعيار الحقيقي والثابت للمبدع،وألف لجنة تحكيم غير نزيهة لن تستطيع أن تخنقه أو تخلقه أوتصنع مبدع حقيقي من إنسان خامل الموهبة ولو أعطته ألف جائزة وقلّدته ألف تكريم.
ولكن ذلك لا ينفي حقيقة أنّ الكثير من الجوائز العربية لا تزال واقعة على خارطة المصالح والمحسوبيات والشللية والضّغوط السّياسية والتابوهات وغيرها من المحدّدات والقيود التي تنأى بالتحكيم عن الموضوعية والعدالة.ولا أعتقد أبداً أنّ هناك مشهد إبداعي محلي عربي يخلو من المواهب والأقلام والقامات الروائية التي لا يمكن أن تنتخب أسماء قادرة على المنافسة،والفوز بأرقى الجوائز. ولكن استعراضنا للأسماء التي تفوز، وللجان التحكيم وللعلاقات الداخلية والخارجية للمرشحين للجائزة وللجان التحكيم ولدور النشر وللجهات الراعية وللجهات المنظمة ومقرّ الجوائز يقودنا إلى قراءة لسبب انتخاب أسماء للفوز دون أخرى، ولسبب إقصاء أسماء دون أخرى، وبالتالي لسبب فوز أسماء وأعمال دون أخرى.
ومن هنا لا نزال نحلم بجائزة عربية ليست كبيرة فقط بالإعلام المحيط بها وبالميزانيات المرصودة لها، بل بمقدار الحيادية والاحترام والموضوعية الذي تحظى به، وحتى ذلك الوقت لنا أن نتخبّط في أسباب كثيرة ،منها الإقصاء والانتخاب والفوز
ويبقى القول إنّ الجائزة محفّز نفسي قوي،وداعم مادي محمود،وهي بكلّ تأكيد قوة إعلامية جيدة لاسيما في مشهد إعلامي عربي مأسور للشللية والتكتلات والتجمعات التي يصعب اختراقها في الغالب.فالجوائز أداة ذكية لانتخاب الأعمال المميزة لاسيما بين صفوف الأقلام الشابة،كما أنهّا وسيلة طيبة للتعريف بالأديب، وأرض لفضاءات جديدة من التواصل مع القارىء والمثقف والناقد و الإعلامي

14- ماذا تقرأ سناء الشعلان؟ ولمن تقرأ؟ ومن هم الكتّاب والرّوائيون الذين أثّروا في توجّهها الأدبيّ؟

أنا أقرأ لكلّ من وقعت يداي على أدبه في الموروث والمعاصر من الحضارات جميعها ومن المترجمات جميعها. وأظنّ أنّني ميراث كامل من الذين قرأتُ لهم جميعاً.

عوالم الرّواية تقدّم مساحات كاملة للرّؤية، والكشف، والجدال، والنّقاش

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى