الأربعاء ٣٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
بقلم ميمون حرش

الغسيل

أحداث الفيلم الأجنبي "العراب" تتداعى أمامه، وعبارات الترجمة المبثوثة في شريط أسفل الشاشة لا يكترث لها. ورغم أنه لا يفهم اللغة الإنجليزية، فإنه يتتبع الفيلم بمتعة، دون فهمٍ لما يروج، ويبدو أن أبطال الفيلم هم من كانوا يتفرجون عليه .. مضطجع على طرف كرسي، عارٍ تماماً، مسجى كميْت، ولولا جهاز التحكم عن بعد في يده، والذي تحركه أصابعه بعصبية لافتة، لخِلْتُموه مومياء الزمن الآني..

مغرم بالفن السابع بشكل يعتبره مقرفاً، لكن مع هذا الفيلم تحديداً، لم يفهم لماذا تخونه عيناه كل مرة .. الصور تتراقص، والألوان تسبب له العمش، وهو إن كان كل مرة يمسح زجاج نظارته، لم يزده الأمر غير ضباب. هو ضباب، ربما في قلبه لم يعرف يوماً، أو هذه المرة على الأقل، كيف يجليه..

"ارحل قبل أن تُحمل على ذلك.."

إنها العبارة المترجمة اليتيمة التي يقف عندها منذ بداية الفيلم .. لم يدر لماذا تلتقط عيناه كل ما له علاقة به .. إنهم يعرفونه إذاً، والفيلم يُعرض من أجله! أبطال الفيلم يعرفون سره، ومخرجه لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها عنه .. أيكون مُهماً إلى هذا الحد دون أن يعرف قـدْره؟!..

"اِرحـل "كلمة زلزال، تهد طوله، حتى في حال تمدده، وإن لم تكن فهي تقصر من قامته؛ فينكمش كقنفذ حين يسمعها بلا صوت، أما بالصوت، وأحيانا بالسوط ، فتشيب فوده من قبل المشيب..

إنهم لا يرغبون في بقائه .. صاحب البيت الذي يكتريه، والجزار، والخضار، وحتى نفسه .. كلهم يريد أن يرحل، وها هو مخرج الفيلم "فرانسيس فورد كوبولا" يأمره، على لسان البطل، أن يرحل...

قال في نفسه: " تْفُـو " على الأفلام! ..إنها تعرض غسيلنا، ومع ذلك يستمتع بها الناس .. كل فيلم صورة عني، وعنكم أيها الحمقى.."

إنه في محنة حقيقية مع ما يُعرض من أفلام غربية مترجمة في قنوات "النايل سات" .. كل فيلم هو صورة عنه، وكل بطل يعتبره عدواً، حتى وإن كان يؤدي دوراً يناصر فيه الخير ..

الممثلون أكثر الناس نفاقاً بالنسبة إليه، سيما النجوم منهم، الذين يظهرون بمؤخّراتهم عارية فوق الأسرة رفقة غانيات أو زوجات أو... إنهم لا يعنون أبداً ما يقومون به من أدوار .. هو أيضاً ممثل، لكن من طراز آخر، والحياة، الهامش منها، هي رُكْحه، أما الجوهر فيها فلِمَنْ يعيش ويدفع أكثر .. وهو في جميع الأحوال لم ينضج بعد، رغم أنه يتعب حين يعد سنين عمره .. هو عربي، ولا فائدة من أن يكبر المرء في بلاد العرب .. يعلم هذه الحقيقة، وغيره يضيف، فوق ذلك، بأن الجوهر فيها مردود ما دامت القشور أسواراً تسيج الدّمَن والذوات .. هكذا، لم تفلح بلاده سوى في تعجيل إقبال هريره، وإدبار غريره، والشقي الشقي من كان مثله في حساسيته وعـَرّه وعاره..

إنه لا يسدد ما عليه من ديون، ولا ينتشر في الأرض. يظل يزفر طوال الوقت، همٌّ واحد يشغله هو أن يشاهد السينما، ويصدر أحكام قيمة على ما يشاهده من أفلام؛ لذلك، فهو في محنة مع جهاز التحكم عن بعد .. كلما قرأ عبارة على لسان البطل، في فيلم معين، يتخيل أنه مقصود، وأن المخرج يعرفه جيداً، وأن الدور الذي منحه للبطل على مقاسه..

الممثل النجم "آل باتشينو" أحبّه كثيراً، وبقدر هذا الحب والإعجاب كره دوره في "العراب"(The Godfather) .. والعائلة "كورليوني"، التي تفقد ابنها الأكبر، لا تدرك أبداً أن تصفيته إنما هي بتدبيرٍ من الابن الأصغر.. وحين قُتل بدم ساخن، لم يقنعه السبب كمشاهد، على الأقل لم يكن من القوة بحيث يغفر للجاني الذي برر فعلته بقتل الشر المضمر في الداخل لا غير. أما صاحبنا فله رأي آخر، هو أن الشر لا يُجتث بالقتل (هذا يذكيه)، وإنما بالخير؛ كما هو الحال في الأفلام المصرية الكلاسيكية، التي تربعت على عرش الشاشات مدةً طويلةً. وحين شاهد لقطة التصفية، وما أكثر مثل هذه اللقطات في "العراب"!، ضغط على زرّ "ﭙوز" لتقريب صورة الممثل "آل باتشينو" .. جعلها كبيرة؛ بحيث غطت الشاشة. وبعد ذلك، مدّ يده، ونقر بها على سطح زجاجها، ثم زمجر قائلاً:

"أيها الوحش، كيف تستمرئ هذا الكم من القتل .. لمجرد أنك عراب وريث؟!"

نطق بالعبارة، وأحس بنفسه خفيفاً بعدما أتخمته مشاهدات أفلام سينمائية لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.. يظل واقفاً لبعض الوقت. يترك صور الفيلم تتداعى من جديد، ويسقط الجهاز من يده دون شعور، وينتبه لجرس البيت يرنّ. وبخفة العجلان، يقصد الباب، ينظر من فتحته .. لا زائر.. والصوت كان من الفيلم. وحين انتبه إلى حاله ضرب يده على صدره، ممسكاً بتلابيب ثياب هجرها، ولم يدر أنه حين يشاهد السينما يتعرى تماماً...

تملّى جسده. ولأول مرة يكتشف أن له جسداً قد يفيد ويصلح لأي شيء إلا التمثيل! يتحسس قضيبه، ويترك يده تسرح أسفله. إنها العادة التي اكتسبها من إدمانه على مشاهدة أفلام البورنو. يفعل ذلك ليس لإيقاظ لذة جنسية، أو إبطالها .. هو يفعل ذلك بوصفه نوعاً من العادة ليس إلاّ .. يحرص دائماً على أن يمسك به، ويوجه كلامه للشياطين من حوله قائلاً: "هذا ما تساوون عندي". يفعل ذلك حين يغضب، و"آل باتشينو" القاتل في الفيلم كان واحداً من الأبالسة الذين يحارب؛ لذلك طالته لعنته!

إنه يعترف في قرارة نفسه بأن القضيب مسدسٌ كاتمُ الصوت .. يُرْدي شياطينه في مقتل دون ضجة. وهو إن يكن الإمساك به تهمة سراً وعلناً، فهو - بالمقابل - يعدّه سلاحَ من لا سلاح له، ولو تركوه لكتب عليه "للّعن فقط".. أما البول، وأشياء أخرى، فهي عنده مثل فُضالة المآكل، وثُمالة المناهل.. للآخرين استعمالاتهم الخاصة لأجزائهم الحميمية .. ذاكَ شأنهم! الجسد مقدس، وهم أحرار في التعامل معه بالشكل الذي يريحهم... وحَسْبُه هو أنْ يحارب به شياطينه بطريقته...

حبُّه للعري مردُّه إلى حرصه الشديد على شحذ "سلاحه" في أسرع وقت ممكن. وما دامت الثياب تعيقه، فهو يتعرى تماماً، و يتربص، ويستعد ... و بطل فيلم "زوربا" الذي شاهده مراراً، و الذي تجرّأ على قطع أصبعه؛ لأنه كان يعيقه في صناعة الخزف التي يعشق، ليس أفضل منه؛ ولهذا السبب، فهو من أنصار دعاة "العودة إلى الطبيعة الأولى"، لكن في غياب الرقباء .. أما بوجودهم، فهو ممثل بارع.. إذا خرج يتأنق، و يلبس أحسن ما لديه .. وإذا ضمه بيتُه يعود إلى سيرته الأولى .. يشرب، و يأكل، و يشاهد التفلزة، وهو عار تماماً .. ويده على زناد مسدسه، مستعد في أي لحظة لأنْ يطلق..

ينتهي "الفيلم"، ثم يجثو عل ركبتيْه. يترك يده تسرح أسفله، ويبدأ في ممارسة عادته، في فيلم "سري" خاص هذه المرة. وإذا انتهى، برطم وانخرطم لاعناً الشياطين من حوله، ثم يتأهب للهجوم، ويمسك بسلاحه السفلي، ويصرخ: "هذا ما تساوون عندي"!..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى