الجمعة ١٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٩
بقلم الحسان عشاق

نخاس المدينة

كان الجو حارا يخنق الأنفاس،لحم بشري ينصهر، وينشوي، قطرات العرق تكلل الجباه الثخينة، وجوه ذابلة، تصطف في طوابير طويلة، الشمس تلسع ظهورهم، الإعياء يقفز من السحنات المكدودة، القاعة الضيقة تعبق برائحة العطور الأنثوية الرخيصة والعرق،بعض الستائر ممزقة، طرزتها بقع الأوساخ، باض عليها الذباب، أعشاش العناكب متدلية من أركان القاعة الفسيحة، زجاج النوافذ مهشم، الكراسي القليلة متآكلة، سحابات الدخان تغلف المكان، كحاث وزفرات متتالية. جلس البرمائي فوق الكرسي الوثير، ربطة العنق متدلية تجاوزت الحزام بقليل، منقبض الأسارير، يعلق بسمة فاترة على مشفريه الذبقين، ينفث الدخان من المنخرين الواسعين، يبدو مثل تنين قذر، صفحات المحيا تلمع بالمساحيق، تخفي تجاعيد بشعة، غانية هدتها الشيخوخة، تتلهى بالتبرج، متوهمة أنها قادرة على استعادة شباب فر من يدها، قادرة على هزم الشيخوخة التي خربت جسمها دون إذن، دون رضاها، حولته إلى أخاديد، ارتداء الأقنعة لم يعد حكرا على النساء، فالرجل أصبح منافسا شرسا للمرأة، يخاف من البصمات التي يوقعها الكبر على تضاريس الجسد، ولكن ماذا يفعل الإنسان حيال الشيخوخة التي تقضم شجرة الدماغ...؟ العيون الشرهة تترصد الحركات والسكنات، تضحك لأتفه الأسباب، الكائنات الهلامية تقعي في استرخاء، أفواه دبقة، تشبه شروج البهائم، البهاق يأكل جلود البعض، الرجل القزم الذي يجلس عن يمينه، بوجهه المجذور، يئن، يتكوع عند كل حركة، أما المستكرش الجالس على يساره، راح في سبات عميق، شخير متقطع يشبه الصفير، الذباب يرعى في صفحات الوجه، الفم يسيل باللعاب، كيف لهذه الأمة أن تنهض من سباتها العميق وممثلو الشعب غارقون في النوم، صحيح أن النوم اكبر لغز عرفه الإنسان في تاريخه ولكن ما معنى أن ينام أولي الأمر نومة أهل الكهف والوطن مصاب بالإعطاب، علينا أن نفتح القمقم، لينطلق العفريت الأزرق، ويمارس حق الفيتو ضد الخشب المسندة في الإدارات ومواقع القرار.

في الصباح امتطى سيارة من الأسطول الرابض في المرأب، الابتسامة البلهاء، تقفز من الوجه الشاحب باهتة، رائحة العطور تلعلع في الجو الحار، تقدم نحوه السائق في إذلال، مقوسا، وجهه يكاد يلمس الأرض، أمره بالانصراف في حركة مدروسة، رغبة عارمة تدفعه إلى الجلوس خلف المقود، مند أعوام لم تلمس يداه المقود، مند تخلص من السيارة المهترئة، اقتناها من سوق المستعملات، يوزع بها ارغفة الخبز على الدكاكين، كانت تتعطل باستمرار، ولكي يشغلها لابد من عشرة رجال لدفعها، في رمشة عين ارتقى في سلالم الحياة، رغما عن أنوف الذين يكرهونه من ابناء المنطقة، أو يظن انهم يكرهونه، استوى سيدا للمدينة، والناس عبيد، فيا لهذا التقسيم الساذج والسخيف، ابتسم، همس في المرآة.

 هذا الوطن لا يعيش فيه إلا الشطار.

يتجول في شرايين المدينة، البؤس ينتشر في كل مكان، الفقر يكبس عليها لابسا أقنعة قاسية، الجوع يمشي عاريا، يعصر الجلود والأدمغة، المدينة غابة للأشباح واللصوص، جزيرة للقراصنة والمهربين، محطة للعبور، كهف للمجذومين، مختبر للتجارب، وجوه من القار تستلقي في استرخاء هجين، تقتل الوقت في الثرثرة الفارغة، غارقة في التيه، التسكع في أقبية العطالة نزهتها، لطمته رائحة النتانة المنبعثة من القمامة المرمية على جنبات الطرقات، بصق على الإسفلت مكشرا، ضغط على الزر انغلقت النافذة، بالوعات الوادي الحار، تفرغ قذارتها التي تحللت، تعفنت، تطحلب، الروائح تزكم الأنوف، عمال النظافة في شبه عطلة، الشاحنات القليلة معطلة، أثمنة الإصلاح تبتلعها الجيوب الوقحة. الربيع خاصم الأرض المحروثة بالإسمنت والحديد، ودع فيها العبوس، وغاص الفرح في حقائب الميوعة، أطفال في عمر الزنابق يذرعون الطرقات يشربون ثمالة الكؤوس في المقاهي متسولون يعرضون عاهاتهم على المارة، البعض تحلق حول أبواب المساجد، مومسات في أحلى زينتهن يمسحن الطوار جيئة وذهابا، يبحلقن في الوجوه العابرة والمتلصصة، طفلة تكور الزمن على صدرها بالأمس، تبحث عن الخبز في مراعي الجنس، تجلدها الأعين بسياط العهر، شيوخ يلعبون الأوراق، الصراخ والقهقهات الفارغة تهتك حجاب الصمت المتقطع، طفل يصلي صامتا للأحذية خارج أسوار المدرسة، البسمة ماتت على شفتيه مند سنين، معتوه يجدف على الله، يسب العالم يعترض السيارات، يرشق الناس بالحجارة، احتك به بعض الأطفال، نزع سرواله في خفة، سحب ثعبانه، لاعبه في حركات بندولية، ارتفع الصراخ والتصفيق، تشجع المعتوه تجرد من الأطمار، في ثوب آدم، لوح بأسماله عاليا في حركات دائرية، ضربها على الأرض بقوة، جيفة متقيحة، بعض النسوة، وقفن غير بعيد على الطوار، العيون تدعك الثعبان في اشتهاء، تقدم منه ملتحيان، تكسرت الزجاجة، تجمدا في مكانيهما، صاح فيهم (واع واع عو عو عووووو....) انفرجت الأسارير، ارتفعت القهقهات العالية، ركض يمنة فيسرة، الاجاصات تهتز، يقف مثل وثن قديم، يشيع المارة يبصق عليهم، يعدو بقوة كمن يسابق غريما ما، يتوقف ينظر إلى السماء حاضنا شيئه في سرور، يلاعبه يهدهده، عصفور صغير في أيدي ناعمة، من زجاج السيارة يراقب الحادث، يضحك في تهور، إشارة المرور تغمز، داس على المحرك بقوة، تكلمت العجلات في الإسفلت، خلفت وشما اسودا،سحابة دخان تلاشت عاليا في الهواء،انعطف نحو اليمين ثم إلى اليسار، ومن خلال أهدابه لاح له شريط الماضي، اندفع في الرأس كالشلالات الهادرة، يدخل، يتبختر، انزلقت صورة طفل صغير، يتأبطا كيسا من البلاستيك، محشو بالكراريس وكسرة الخبز الحافي، الجسم جدع نخلة أكلتها السنة النيران، الأقدام النحيلة تشبه خراطيم المياه، مدفونة في صندل ابيض، البثور تأكل الرأس الذي تتدلى منه ضفيرتان، بسحنته البيضاء يبدو كدمية عاج صقلتها ايدي ماهرة، سموه بياض الثلج، والدجاجة البيضاء، بياضه كان مثارا للسخرية والاستهزاء بين الأطفال، سخرية، ليست اقل من سخرية المتبني في هجائه لكافور، الفرق أن المتنبي هجا كافور لأنه خذله، أما أترابه فإنهم يسخرون منه، ويعيرونه، انتقاما منه على أفعال والده، لم يكن يعرف معنى (عميل الاستعمار وخائن).

-ولد الخائن... ولد الخائن...عدو الوطن

يلاحقونه في الاستراحة، يهاجمونه كما تهاجم الطيور الجارحة الجيفة، يتصايحون، يعلو الصفير، بصاق وصفع، كم مرة فر من المدرسة مذعورا، يعرف أن أباه يأتي شيئا مقرفا، لم يكن يفهم كننه، رآه كم مرة يصاحب الرجل الأبيض الذي يرطن بكلام غريب، هذه الكائنات التي لا تصوم ولا تصلي، لا تخاف الله، كما سمع، مصدر خوف أبناء القبيلة، قتلوا الرجال الذين يطالبون بالاستقلال، صادروا الأراضي، هجروا عائلات، الاحتجاج يؤدي إلى غياهب السجون، تحسس صفحة الخد الأيسر، ندوب عميقة، ذكرى عراك شرس، دفاعا عن شرف خدش بوقاحة، في ليلة وشمت في المخلية إلى الأبد، جاء الرجال البيض في سيارة سوداء، سحبوا منها جسدا مسجيا على قطعة قماش، الجسد ينزف دما، البطن مبقور، الجلاب الرمادي المرقط بالأبيض، ملطخ بالسائل الأحمر القاني، كان الأب يتنفس تنفسا ضعيفا، الحمى تأكل لحمه، تبريه، في الليل كان يهدي بكلام غريب، كان أشباحا تطارده، تخنقه، ظلت الأم تحرس نوبات الهلوسة، مات في ليلة ماطرة، في الصباح حمل إلى المقبرة المهجورة، عندما امتلأت الحفرة بالتراب، سحبته الأم واخوه من يديهما، ركبوا سيارة، وغاصوا في بطون الطريق، لم يأت احد ليودعه، كان يلتفت يمنة ويسرة، يسرح بالعينين في الفضاء الواسع، يودع الأشجار والهضاب والسهول، يودع القرية الصغيرة وسط الجبال، يودع رائحة القنب الهندي في الحقول، واكلة البيصر المسربل بالزبت البلدي، الأشياء الجميلة أصبحت مقرفة،لم يعد يسمع شقشقة العصافير ولا نباح الكلاب، كلما ابتعدت السيارة ينهار عالمه الصغير، أحس بالمرارة، انزلقت دمعتان يتيمتان على صفات الخد، منذ تلك الليلة بدأ يعي كره الناس لذويه، نما بين الجوانح،الحقد فجره في اثقان الحرف والمهن والتجارة، عمل نادلا في مقهى، يعجن الخبز ويغسل الاواني، في العقد الثاني اكترى مرآبا وحوله الى مخبز، استوى مثل طبل مشدود، عيناه أصبحتا جاحظتان، العنف يسكنهما، اقسم أن ينتقم من الذين سقوه كؤوسا من العلقم، أذلوه، ومزقوا الشرف المدنس إلى أشلاء، لماذا يحاسب الناس الأبناء على أفعال الاباء، لم يختر العائلة، لم يختر لا الذين ولا الاسم،ولا البشر ولا الأرض، الكل فرض عليه، لو تركت له حرية الاختيار، لاختار أبواه من اشرف الناس، وأكثرهم وطنية، فالإنسان مسير لا مخير، انه قانون الطبيعة، ولا دخل للإنسان فيه.
ولأنه مهووس بالتميز، شغوف بالقوة والمال، لم يكتف بما تدره عليه مهنة خباز من أرباح، عانق المحرم والحلال، ركب صهوة تجارة الممنوعات، ينتقل الى جنة القنب الهندي مسقط الراس، يهرب كيلوات الحشيش،يدسها في الابواب الخشبية، وسط اكياس الطحين، في سيارات الاسعاف مع الموتى، هربا من اعين الرقيب، يدفع بسخاء لاقفال الابواب التي تاتي منها الرياح، وفتح الأبواب الموصدة، ارتقى في غفلة الى حياة البذخ، اصبح الغريب الجاهل من اعيان المنطقة التي تفتح افخادها لزناة الليل، وقطاع الطرق، تسللت اليد إلى ثمار الآخرين، تملق القادة، وكبار رجال السلطة، وتعلم فن الانبطاح، فن الابتزاز، وانتفخت الأرصدة، انخرط في العمل السياسي المبطن، لان الارتماء والاختباء في أحضان السياسة والغوص في مزاييبها ومستنقعاتها، أسلوب جديد لتدبير المصالح، وكبار البلد كتلة منسجمة، متداخلة، متناغمة، يحمون مصالحهم، بعناية، الكبير يحمي الأصغر منه، ويجنبه الأذى، حتى لا يصل إليه، مسرحية محبوكة منذ البداية، وكل واحد يلعب دورا على مقاسه وبإتقان، السياسة لعبة رخيصة ومبتذلة، قال له الزعيم الأكتع يوما.

- لكي تحقق طموحاتك عليك أن تكون أبكم، أصم، أعمى.....
- لماذا..؟
 إنها الطريقة الوحيدة التي توصلك إلى الثروة، وإذا امتلكت المال يمكنك أن تشتري كل شيء.
 إذا كان الأمر كذلك فاني مستعد لأبيع أمي وعائلتي.
 بهذا المنطق تكون وضعت الخطوات الأولى في طريق النجاح.....

ما أكثر الزعماء في هذا الزمن الزئبقي، وطننا مزرعة لتفريخ الزعماء، شبيهة بمزرعة الدواجن، كل يوم تفرخ زعيما، هناك"زعماء"تخشبوا فوق كرسي الزعامة، وكتبوا الوصية، ورثوا فيها الأولاد، هناك"زعماء"من ورق،"زعماء"التهويش والتجميش، زعماء التدجين، زعماء الغمز واللمز، زعماء النفي والشهادة، زعماء الدجل... جميعهم تسلقوا جماجم الشعب، ودقوا على رأسه الكعب، قريبا سيصبح لكل حارة زعيم، ولكل عائلة زعيم، لينال وطننا بقوة لقب ارض الزعماء، لكنهم كقطاع الطرق، غير أن قطاع الطرق في الأزمنة القديمة، يتميزون بكونهم يسرقون مال الأغنياء ويعطى للفقراء.

كان اللقاء مع الزعيم الأكتع، فنارا أنار دربه، طوق النجاة، انقلبت حياته رأسا على عقب، أحس بنشوة عارمة حين وجد ضالته، ورغم الثروة والانتماء السياسي المتردد، فالتفكير في الغد ينخر العقل، يطير النوم عن الأجفان، والإحساس بالضعف يرعد الفرائص، يحنط التفكير، يكبله، إحساس المعلق في الهواء، ككومة تبن في مهب العاصفة، هبة صغيرة تجتثها، تدروها في الفضاء الواسع، تحطم المجاديف والأشرعة، وكل ما بناه طوال سنوات من المكر، فكم من عزيز قوم أذل، وكم من ثري هبط إلى الحضيض، في رمشة عين، الزمن يتبول المفاجئات السارة والسيئة، لكي يعيش الإنسان في مأمن من شرور الناس، عليه أن يتحصن، أن يقوي مناعته ضد الهزات المباغتة، فالهزة التي تأتي من السماء ارحم ألف مرة من أنياب الناس، ينتظرون كبوته لينهشوا لحمه نيئا، يقرأ في عيونهم حقدا خبيثا، نيران مشتعلة من الكراهية، تسافر على القسمات، كلما التقت عيناه بأترابه القدامى، قال له ميمون الخضار يوما في جلسة حميمية يتبادلان أقداح الراح.

 أفضل وسيلة لحماية نفسك وأموالك أن تدخل الانتخابات.
 الانتخابات بشقيها التشريعية والجماعية
- اجل انها الطريقة الوحيدة لتوظيف الأموال وتنظيفها ونهبها.
 ولكن الناس يكرهونني لا نني غريب عن المنطقة...كما ان مستواي التعليمي ضعيف
 لكنهم يحبون الفلوس...
 صدقت
- اما مسالة الشهادة العلمية... تلك قضية ثانوية في بلد يحكمه الجهل

هتاف تصفيق زغاريد، دقات الطبل والمزمار، يصمان الأذان، الراقصة الشعبية تتلوى مثل الأفعى، فوق العربة التي يجرها حصان أجرب، مئات الأعين السكرى ترعى في المؤخرة المكتنزة، انطلقت المسيرة، أعلام وبيارق، صور لمترشح المستقبل تزين الصدريات، أصبح الرجل الجاهل القادم من الغيب بطلا وطنيا، أبواق السيارات تصم الأذان، السيارات الموشومة تنظم المرور، تسد المنافذ التي تمر بجانبها المسيرة، بجلبابه الأبيض الناصع ونعله الأصفر، يبدو كعريس في ليلة الزفاف، من فوق السيارة السوداء، يلوح بيده، يرد على التحايا، يعلق على الشفتين ابتسامة باهتة، جميع الحملات الانتخابية نسخ كربونية..؟ لا فرق بين احزاب اليمين واليسار، الا الشعارات وحزمة الوعود.

اليوم الموعود بدأ يقرب، الشك يأكل المخيلة الحالمة، حمى الاتهامات وصلت إلى ذروتها،نهش في الأعراض، غسيل الماضي السحيق ينشر في وقاحة، الحرب الخفية اشتعلت، في الضفة الأخرى كان المنافس بيرقا، وراءه تجندت فيالق، اقسموا أن يطردوا الغربان، والأشباح والعتمة، رغم القهر والحصار، لم يستسلم فالإنسان صاحب مبادئ، يموت من اجل أفكاره، كل شيء معرض للزوال، لكن الذي يبقى راسخا في الأذهان المواقف النبيلة، قيمة الإنسان في موقفه، التاريخ لا يموت، والذي يبيع نفسه من اجل حفنة أوراق أو منصب، مستعد أن يبيع وطنه، لأتفه الأشياء.

 انه منافس شرس علينا تنحيته بأية طريقة....
 ما الداعي فالسلطة في صفنا.
 الناس يريدونه
 لكن السلطة لا تريده لقد اصدرت التعليمات وحسمت المسالة اعتبر نفسك من الآن
رئيسا للمدينة.
 أهلا بالرئاسة ومرحبا بالمصدر الجديد للثروة.

الماضي البعيد بقعة سوداء، تعوي في سجن البدن، أحسن بألم فظيع يعصر نياط القلب، الم شبيه بوخز الإبر، لم يدر إطلاقا كيف وصل إلى مطبخ المدينة، نزل مترنحا كالمخمور، تقدم نحوه رجل محدودب الظهر، يحمل على وجهه تاريخا من الركوع الأبله، اخذ منه المفاتيح واختفى بخفة، دلف إلى غرفة الاستقبال، وجدها غاصة بالمواطنين، ألقى نظرة ثاقبة تفحص الوجوه، شعر بالامتعاض لعنهم في الخيال، نفس الوجوه، نفس المشاكل، لا مكان للراحة، فكر بصوت مسموع.

- لا املك عصا سحرية لألبي جميع الرغبات

بدأ بدمغ الوثائق التي افرشها أمام عينيه الواسعة، عندما خلى المكتب من الناس، استفسر مريديه عن الصفقة، تحلبت الأفواه، تدلت الألسنة، الجشع يستريح على عروش القلوب الميتة، عروش الذل عشعشت صمتا فوق الصدور الحبلى بالمسكنة مند زمان، تسلقها الطمع وعفنها، لم يرسموا طريقا للغد، دمروا المسالك والممرات، الشوارع مهشمة الضلوع، رصفت بالحفر، فوق الأرض انتشر السوس، ينخر الأشجار والعقول، الموت هادنهم، خذنهم، وصدأ منجله، فمتى يغسل المطر وجه المدينة من قبحهم، لتلفظ الجيفة من على ظهرها، وتستقيم،ويحضن البائع والحالم الغد السعيد. كان الاجتماع صاخبا، قيدوم المثليين يلقي خطبة، خضبها الارتجال، يتهم، يتوعد، يرغي، يزبد، يقف، يضرب الطاولة بقوة، طارت الأوراق، سقط كوب الشاي، تهشمت المرمدة، تناثرت أعقاب السجائر، هوت على الرؤوس والأبدان، قاطعه عضو من الحزب الاسلامي، استهجن طريقة الكلام البذيء، انهال عليه بالسباب والشتائم، الأشياء الحميمية تتعرى، خيانة الزوجات، الاولاد المدمنون الداعرون، انتشر الضحك، طار الكرسي في الهواء، ارتطم بالحائط، الأجساد الخائفة، تدافعت مرعوبة، حاول البرمائي أن يعيد الهدوء، القاعة بدأت تقيئ من جوفها الكائنات الهلامية، أنسحب هاربا خوفا اصابته بضربة كرسي.

كلما أحس البرمائي بالبساط ينسحب من تحت رجليه، يميد المقعد، يفتح الحافظة، تناجيها العيون العطشى، سرا وعلنا، الأوراق الزرقاء التي يرميها عليهم كتحية، تكلس العقول، تكمم الأفواه، كان المثقف الوحيد حائرا، يغوص في أفكار مبعثرة، نقطة الضوء وسط الشرذمة من نخاسي المدينة، يبحلق في الوجوه، يتابع فصول مسرحية مقطبا، مرتبكا، وجوده من عدمه، لا رأي ولا قرار، تطبع على التصفيق، وجعل من الصمت تاجا، يرصع الجبين، لم يعد يسمع أي شيء، الأوراق الزرقاء طلاسم، توزع على الجماجم المنخورة، تكبح أعاصير الدمار المقنع، الناس الذين وضعوا ثقة في ممثل الحي، توسموا فيه خيرا، اعتقدوا انه ربان سفينة تائهة وسط الأعاصير، انه جاء من عمق الأحزان، هاربا من الزمن المخصي، من صلب الفاجعة، ليعيد تشكيل الخارطة، يقسم الأرزاق بالتساوي، مثقف يحمل أمانه علمية، بالكلمة سيقلب الدنيا رأسا على عقب، يلملم الجراح، انهزم في أول الطريق، أصيب بالوباء الذي فتك بالقطيع، ذاق من طعم الوزيعة، فاستوي رجلا مبتور اللسان، الكلمة السيف، ضاعت بين ثنايا الاستجداء،"أنا ومن بعدي فليأتي الطوفان"، في مدينة العبيد يركب الجاهل ظهر المتعلم، يحظى الامي بالمكانة المرموقة، يتسلق المناصب وينصب قهرا على اهل العلم، في مؤسسات الشعب، أن تكون ممثلا للأمة، معناه أن تشرع أبوابك في وجه الريح، وان تحارب في وجه الدنيا أسباب النكوص، وتصمد للضربات الموجعة، لكن من الصعب الحديث عن العلم والبطون تتضور جوعا، الرؤوس البليدة محمومة بالاصطياد في المياه العكرة، إن الحديث عن العلم في مستنقعات الأمية معناه الخروج عن المألوف، فالتربة التي ستنبت النباتات الوحشية لا مكان فيها لحقول السنابل، والمدينة معتقلة مند قرون في شرايين البؤس، توضأت بالعهر، حصدتها الجريمة،الخراب يدب على أربع، راسما حدودا لأرض هدها الإجهاض، والبرمائي رجل الحضيض، غريب المنطقة جاء من وسط القمامة والحقارة، استنبت عنوة في مفاصل المدينة، بالتزوير وشراء الذمم، قدم قرابين ميتة، والتمائم التي علقها على الصدور، سيوف مسلطة على الرقاب.

رأى نفسه يمشي عاريا، تبتلعه مصارين المدينة، تتقيؤه البرك المائية المطحلبة والنتنة، غاصت قدماه إلى ما فوق الركبة، ثمة ضوء خافت يغمره، كأنه أتى من جوف الأرض أحجب عنه النظر، كالخارج من كهف مظلم، انزلقت القدم، فقد التوازن، سقط في البالوعة، قبل أن يستفيق من هول الصدمة، تقدمت نحوه جيوش من الجرذان، في حجم القردة، ركض بدون اتجاه، تحولت الجرذان إلى مخلوقات آدمية مدججة بالسكاكين والسيوف، أطفال يحملون تابوتا من حديد، رئتاه على وشك الانفجار، خارت قواه،تقدمت الحشود نحوه، انفتح التابوت، الباب احدث صريرا مدويا، أعاده الصوت إلى الواقع،استفاق من تيهانه وشروده، مغسولا بالعرق، يرتعش بشدة، نبس بعبارة وحيدة.

 السياسية لا تورث إلا أوجاع الدماغ....

خرجت العبارة من الحلق الناشف ميتة، تذكر معتوه الصباح، الصورة ظلت عالقة بالذهن، يعرفه جيدا كان رجل سلطة، فظ غليظ القلب، اعتاش على أرزاق الناس، ذات مرة ضربه معتوه بقضيب حديدي على الرأس، ضربة أرسلته في غيبوبة طويلة، ليخرج إلى الشارع مجنونا، يطوف الأزقة والحارات، متسولا يعيش على الاستعطاء، القذارة تأكل الجسد، يعارك أشباحا لا يراها إلا سواه، الله يمهل ولا يهمل، قد يعتقد الجلادون أن التنكيل بأرواح الأبرياء يمر دون عقاب، فكم من جبار أذل، وكم من ظالم مات شر ميتة.

 ما أقسى الذي انتهى إليه الأبله....؟

الحمق يخبط خبط عشواء، لا يميز بين الغني والفقير، بين الشيخ والشاب والصبي، بين الصالح والطالح، انه كالموت، كالريح الصرصر العاتية، تقتلع الشجرات الميتة والخضراء، لكن البرمائي قوي البنية، والجسم لا يشتكي الأسقام، فكر في أحياء حفل ديني، توزيع الصدقات على الفقراء، بناء مسجد، هذا يحتاج إلى قطعة ارض، أموال طائلة، والبرمائي تعود أن يأخذ ولا يعطي، ابتلع الحدائق والمساحات الفارغة، حول المدينة الى اسمنت مسلح، استفاق على دقات بالباب، دلفت السكرتيرة المستكرشة، المؤخرة تتمايل، هوائي كبير فقي مهب الريح، تحضن رزما من الأوراق، غازلها بالكلام الساقط، قهقهت عاليا، ارتج الصدر المندلق، ضربها على المؤخرة، احتكت به في غنج ودلال، امتدت اليد ضغطت على شيئه بليونة، أحس بخدر لذيذ يهزه من أخمص القدمين إلى أرنبة الأنف، اشتعلت في الأحشاء رغبة متلاطمة، اضطربت العروق، تسللت اليد إلى فتحة الجلباب، مرر اليد على تضاريس الجسد في شبق واشتهاء، حصان الأمس خارت قواه، امتصت دمائه الزوجة النادلة، تعطلت شقشقاته في السرير، تحول إلى خرقة بالية، جرب العقاقير المستوردة، الوصفات الشعبية، الم مهيض ومر يمزق البطن، سكاكين بالية تعبث فيه، مستعد أن يدفع نصف الثروة، الثروة كلها ليستعيد قوته، يستعيد فحولته التي تعطلت مند زمان في احضان شريكة البؤس والرخاء، اللعنة على المال والذين يركضون خلفه، ما قيمة المال إذا تعطل القضيب، دفعها بيده بخشونة، تنهدت تنهدة عميقة، كالخارجة للتو من جوف البحر، رمى الأوراق جانبا، امسك بالرأس، انتابه دوار شديد، هرش الرأس بقوة، امتدت اليد إلى المرمدة الزجاجية ضغط على عقب السيجار، وفي حركة متثاقلة نهض من فوق الكرسي الوثير، حمل رزمة المفاتيح، في الممر المؤدي الى الخارج، اصطدم بموظف، تعثر كاد أن يقسط، نهره في وقاحة، الشمس في كبد السماء، بشر قليل ينتظر خلف الشبابيك، علامات التذمر تسرح على تقاسيم الوجوه المكدودة، مرة تلو مرة يفرقع الكلام الجارح.

 صوتنا على الغرباء ليجلدونا...موعدنا العام المقبل
 الغرباء يحكمون ابناء المنطقة قمة المذلة... اليس لدينا رجالات يفهمون في
السياسة...؟
 نحن من يصنع هذه الفقاعات التي تمتص دمائنا وتسرق ثرواتنا

الوقت يمر يندفن في عقارب الساعة، لا جديد تحت شمس المدينة، الكذب المبطن تحلل في الرؤوس، تحول الى نعوش، الى اكفان، في أجساد من زرعوه في الأدمغة الحالمة، انتفخت جيوب الناخسين، وأقفرت ديار الكادحين، التشرد سيف مسلط على الرقاب، معامل أغلقت تجار أفلسوا،مدارس تتبرز المتسولين و المجرمين، الأشياء الجميلة دنست، ذبح الناس بالسكين التي شحذوها من دمهم وقدموها إلى الجزارين، آلاف المخدوعين، آلاف الموتى، الأحياء تدحرجهم النهارات إلى يوم يقطر مرارة، لينحتوا كسرة خبز من الصخر، الجوع استوطن الجلود، ساعة الحشر اقتربت، ساعة التودد الى الرؤوس الحالمة، المدينة تبكي زمنا ضاع في رزمة الاحلام الجوفاء، الوقت ينعجن فوق الأجسام البليدة، والاسئلة الحارقة تمطرق الادمغة، حان وقت كفكفة الدموع، وقت اشتعال شموع الانعتاق من اسر الخديعة، كان البرمائي يطوف الأزقة، مستنفرا شرذمة اللؤم، يوزع كعكعة لمأدبة الضياع، في زقاق جاني اعترضه بضعة شباب، لطمته الكلمات النابية، حاول أن يفرغ الفم من الكلمات المنمقة، تلعثم، اضطرب، هاجمه الخوف، انسحب مرعوبا إلى السيارة، تكررت الزيارات إلى الإحياء الهامشية، الشراسة تلبس الجماجم، تلثم وجه الصباح، البرك المطحلبة، المياه العادمة، تقيئ الأمراض والمواجع، النفايات سياج من لا سياج له، الذباب يحاصر الدور التي تأكلها البرودة، الكلاب الضالة تجوب الأزقة، شعر البرمائي بالامتعاض.

 هؤلاء القوم لا خير يرجى منهم.
 لا، إنهم لازالوا في دار غفلون، علينا أن نغير الخطة
 كيف ....؟
 سنوظف اكبر عدد من النساء في الحملة، والمرأة هي مفتاح الفوز.
 فعلا جميع المصائب مصدرها النساء.
- العالم تحكمه أفخاذ النساء، من خلال الشقق الحمراء...

قهقه البرمائي عاليا، بانت الأسنان البيضاء، ضحك الأتباع لضحكه بتهور، طفل صغير تدغدغه أم رؤوف تحت إبطيه، لا وقت لمعاودة الكرة، لعبة الأمس البغيضة انكشفت، أين المفر، الماضي من ورائه والواقع المهشم من أمامه، الطيور الذبيحة تتلوى على أرصفة الشوارع، الجراح منها تستريح على نبض الانتقام، أبدا لن يغسل الكلام المبرنق الكوب الذي يقطر بؤسا، لا شيء تغير، عشر سنوات من الدجل، عشر سنوات من الخداع، الأرض الفتية خاصمها المخاض، فيا أيتها النساء الجميلات، الباكيات، النائحات، الغرقى في الحداد، إن ودعتن الماضي بألف دمعة، فلن ترجع الكلمة المنمقة الأزمنة المغتصبة المعمدة بالصبر، لن تمسح عن وجه المدينة المعتل قرحة الجسد، المدينة سجن كبير، سرداب، بيداء، ورم خبيث استعصى على العلاج، ورم للقوافل العطشى للنور والضياء، والسجان نخاس منفلت من غبار الزمن المنسي فوق الاهداب، تسلق الجرح واستراح، جعل من المباح ممنوعا ومن الممنوع مباحا في زمن البطنة والظلام، الوقت يموت في عقارب الساعة، فوق الجثث بني البرمائي إقطاعية، سائلا عن الخلود، صنع تمثالا من نقود، وخر راكعا ناسيا الوجه في المرحاض، تعتر الخجل في وجه الروح، والمدينة لا تملك سوى ضرعا حافيا وسربا من دموع، لا احد يقترب لا احد يفتح نافدة للشمس،يشعل مصباحا لتسترد الأشجار لونها، تنشر الورود أريجها، لتعلو البسمة وجه طفل مات في عامه الأول على نهد مرضعة مصدورة، النواطير نيام، والرعديد الامي تربع على عروش الأفئدة قهرا، رفرف فوق فتات الأطفال وطار، فهل سيعيد التاريخ نفسه وتنحني الهامات، ليركب النخاس ظهور المخدوعين، يقدمهم قرابين رخيصة للعبة اقتراع مغشوشة، اليوم ليس كالأمس، لكن ماذا تغير..؟ ذهبت وجوه وجاءت أخرى.

قبل أن يستفيق البرمائي من وقع الهزيمة الاولى في استحقاقات قبة البرلمان، قررت أجهزة الدولة إضافة غرفة ثانية، ترشح، محركه الطمع ونعرة التسلق، ساوم الناخبين الكبار، الاسعار جد مرتفعة والمغامرة غير مضمونة، اخرج من الباب، اراد ان ينط من النافذة لكنه سقط على الاسفلت، وأدت في الحلق الفرحة، في الجهة الاخرى، بزغ الأمل الفاتر في عيون الفجر، لكن المدينة ورثت لعنة الارتجال، الوجوه التي حلمنا معها بألغام الشعارات، تكللت بالصمت، لم تعد تبصر إلا الصمت، باعت واشترت، لم تعدل بين الناكس والمنكوس، وشوهدت الخيانة مخضبة الخطى، تزحف على الوجوه، والطاعون يفتك بالأدمغة، وجراحات الأمس البعيد لم تندمل، فمن يكتب على قارعة الطريق سر الأسر، ويمسح على البوابات جوعا تكلس بين المحاجر، من يطرد عن السماء أسراب الغربان، فلم يبق لا الرمز ولا المبدأ إنها السياسة، والسياسية لعبة وقحة ومبتذلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى