الخميس ٣ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم مهند عدنان صلاحات

نـشـرة الأخـبـار

بقلم: مهند الصلاحات

بعد أن ضربت الشمس خيوطها الحارقة بشكل عامودي تسببت في قطع لحظات الحلم الذي سافر خلاله من هذا العالم الذي يصفه دوماً بالمادي الكئيب، تململ قليلاً وثبت نفسه كي لا يقع من على الأريكة التي ينام عليها وقام باتجاه المغسلة ليعد نفسه وفي داخله عدة أفكار تجمع على شيء هو "ماذا بعد أن انتهت ساعات النوم وإلى أين ؟".

أيام مضت على ذات الحال المتكرر كنشرة الأخبار، لا شيء من وقائع حياته يتغير، وروتين المدينة القاتل التي صارت أشبه بقدر لا مخرج منه إلا للقبر.
يمضي عادة يومين بلا نوم حتى يأتي اليوم الثالث المنقذ ليغط في نوم أشبه بحالة موت سريرية لعشر ساعات متواصلة ، وقد تمتد ليوم كامل من خجل الشمس في الغروب حتى وقوفها بشكل عامودي في منتصف ظهيرة اليوم الثاني حتى يكرر ذات السيناريو نفسه في كل مرة ... حتى غدا الأسبوع لديه ثلاثة أقسام بدلاً من سبعة أيام.

يقف أمام المرآة ينظر لوجهٍ بدت ملامح الكآبة فيه بشكل فاضح، وتوزع بشكل متراص كثيف شعر ذقنه الذي لم يخطر بباله منذ فترة طويلة أن هنالك مناسبة للتخلص منه أو على الأقل تنظيمه وترتيبه، بدا كل شيء حوله فوضوي حتى صورة وجهه في المرآة.

تأتيه ذاكرة الأيام التي سلفت على شكل فلم سينمائي ، يستعرض فيه أحداثا تمر بشكل عشوائي كذلك كملامح وجهه ، وحتى رغباته تبدو في هذا الشريط فوضوية، ويدور الشريط حوله بسرعة هائلة ، لكنه قادر على التقاط ذبذبات الذاكرة المسعورة التي لا ترحمه باستحضار نفسها ما بين لحظة وأخرى.

تعلق في ذهنه عادة كان يمارسها قديماً بشغف وطريقة مختلفة عما هي عليه اليوم، عشقه للنوم في أوقات الشتاء ، حتى هذا النوم كان له طقوس خاصة لديه يمارسها بحسب الفصول وتقلبات الطقس كلحظات العبادة .

يتذكر في هذه اللحظة كيف كان في السابق يعد نفسه للنوم بشكل حقيقي ، وأنه كان يرتدي شيئاً يدعى " بيجامة" تساعده على الاسترخاء في سريره الذي يبعث فيه الدفء ليمارس عادته في النوم، ويتذكر كذلك أنه ومنذ ثلاثة شهور مضت لم يرتدي هذا الشيء المسمى " بيجامة" ويسأل نفسه هل فعلاً عنده في هذا الوقت بيجامة ولا زالت صالحة للنوم ؟

كانت طقوس النوم في السابق شيء حقيقي ، تشمل سرير مرتب ووسادة نظيفة ناعمة في مكانها ، ويحاول أن يستذكر كيف دخل البيت قبل يومين وجلس على الأريكة التي تتوسط صالة البيت الصغير وألقي بتلك الجثة الثقيلة المثقلة من ذاتها على الأريكة ليودع الواقع بحثاً عن حلم يخلصه من مأزق وجوده حياً حتى هذه اللحظة .

كل مرة يفيق فيها ويقف أمام المرآة يقرر أن يغير هذا النمط السخيف من حياته، لكنه كالعادة يعجز ولا يدري لماذا.

يحدث صورته الهلامية في المرآة عن مفردات غدت بالنسبة له مجرد مفردات فقط، يسألها: ما هي الطمأنينة، ما هو الاستقرار، وما هو الشعور بعدم الاستقرار ؟
يبحث مع صورته عن السبب ويتدارك أن سؤاله هو الجواب.
كان في الماضي ينام دون أن يفكر في شيء، يتوقف التفكير في اللحظة التي يدب الخدر فيها في أطراف الجسد والعينين، أما اليوم فلا يستطيع النوم من كثرة الزخم المجنون من الأفكار التي تحاصر رأسه.

ينتهي من محاكاته للمرآة, ويدخل الحمام حاملاً على كتفه منشفة ، ويعود بعد ذلك ويقف أمام المرآة وقد خرج بقرار على أن يقوم بإصلاح ملامح وجهه بموس الحلاقة حتى يستطيع احتمال النظر إليه في المرآة مرة أخرى دون أن يكره هذه الصورة المشحونة بالكآبة.

يضيق المكان وتصبح كل الأماكن متشابهة، الشوارع، الأسواق، الحدائق العامة، الغرفة الوحيدة في البيت، الصالة.
وهذا يعني أن محاولة البحث عن مكان جديد لن يغير واقع الحال، وحتى يقرر أين يمكن أن يجد المكان الذي لا يشبه هذه الأماكن،
يعود لأريكته التي تتوسط الصالة ويستلقي.
يقع نظره على جهاز " التحكم عن بعد في التلفاز" ويخطر بباله أن فكرة استعراض الأحداث في العالم قد تكون أكثر إثارة من التجول في الشوارع ككل يوم بحثاً عن فرصة عمل مفقودة.

يمسك بجهاز التوجيه ويبدأ بالبحث عن قناة إخبارية تعيد سرد الأحداث اليومية التي فاتته.
ما هو حصاد اليوم، ثلاثة قتلى في فلسطين، خمسة في العراق، ثمانية في الصين بانهيار سدّ، ثلاثة عشر في الهند بتصادم قطارين.. ربما اقل من ذلك.. وربما أكثر من ذلك. يقرع الخبر شيء ما في داخله.. يشرب أخبار الموت كالقهوة المرّة. لا يأتي يوم جديد بدون موت.. بدون نعي.. بدون بكاء.. لا يأتي بدون نساء يندبن.. بدون أيتام يبكون!!

يلعن التلفاز، ويلعن عظام مخترعه في القبر، يزداد غضبه وضجره من تلك الأخبار التي صارت عادة يومية، ويشتم عضواً حساساً في جسد أم مقدم النشرة. ويتناول صحيفة البارحة الملقاة على الطاولة أمامه ويقلبها في تمعن ... أربعٌ وعشرون صفحة في الجريدة لا يجد فيها شيئاً يستحق أن يقرأ. لا فعل ولا خبر.. لم يحدث.. لم يُقتل أحد.. لم يمت أحد قط على صفحات الجرائد.. فالقتلى لا يستحقون خبراً في الجريدة، ربما هم من عالمٍ آخر.. من بلاد بعيدة.. من كوكب آخر كالذي جاءت منه المخلوقات الفضائية لمسرحية غسان كنفاني في القبعة والنبي.

حياتهم لا تهم القارئ. وموتهم لا يعنيه إطلاقاً. ليسوا بشراً مثلنا، فهم مجرد أطفال مخربين، نساء ندابات، ثلاثة مخربين كانوا يسيرون في الشارع فاجأتهم دورية عسكرية.. حاولوا الهرب بعيداً عنها... في عملية تفتيش ملابس القتلى وجد الجنود سكينا مع احدهم... سكين... سلاح إرهابي أو قد تستخدم في عمل إرهابي !! لا يهم، الماء ماء ولا يفسر بغير هذا .. والعرب خلقوا ليموتوا بهذه الطريقة العادية جداً.. خذوا الحكمة من معد النشرة الإخبارية، لا فضّ فوه.

مرة أخرى يعود لجهاز التوجيه بيده.. يتنقل من قناة لأخرى ، العربية، الجزيرة، النيل، أبو ظبي، دبي، السودان، البحرين ، الكويت، السعودية، سوريا، الفضائية اللبنانية ... الأخبار مكتوبة بخطوط صغيرة بيضاء بلون الكفن تسير بخط خجول أسفل الشاشة.. مقتل ... كم العدد؟ ثلاثة، أربعة ، ستة ، تسعة .. آدميون لكن بدون أسماء، وما فائدة الأسماء؟ إنهم موتى، وما فائدة الأسماء للموتى .. إنهم فلسطينيون ماتوا، عراقيون أطفال، نساء، رجال|، لا فرق. فالعراقي أيضاً كما الفلسطيني ولدته أمه ليقتل... ليموت.
كل واحد فيهم هو مشروع موت محقق. شاء أم أبى... المكان غير مهم، وذكر اسم المدينة اقل أهمية كذلك، والوقت بلا معنى لأنه لا يمضي دون موت جديد...
عاملٌ يُقتل في طريقه بحثاً عن لقمة خبزٍ لأفواه جائعة تنتظره... وفلاح يُقتل وهو يقطف ثمار الزيتونِ أو يحرث الأرضَ... وقد تأتيه الرصاصة في البيت أو في الشارع.. وقد يقتل بعد تأدية الصلاة في المسجد.. يقتلُ خطأً، ويقتل عمداً أو سهواً... ويقتل بخطأٍ متعمدٍ.. ويقتلُ بعمدٍ خاطئ.. وهو المسؤول الوحيد عن موته لأنه وحده الذي يموت ويمضي... ولا أحد يسمع بموته.. لا أحد.
من هو هذا الهندي "اللاشيئي" الذي يهتم لموته الآخرون !! إنه مجرد هندي أحمر جديد أفاق من مذابحه وعاد إلينا مرة أخرى ليموت بيننا ويزعجنا بخبر موته... ربما هو سياتل أخر أزعجه ذكر اسمه في قبره فأفاق ليوصينا بعدم ذكر اسم مدينة " سياتل" الأمريكية التي بنيت على المنطقة التي ولد فيها، التي لم يرد أن تسمى على اسمه لأن الأسطورة تقول بأن روحه ستقلق في كل مرة ينطق فيها اسمه بعد موته. لكن الحكومة الأمريكية كافأته بهذا القلق الأزلي، وجاء ليقول لنا كفى هذا القلق الموجع في القبر ... فقتلوه.

يغلق التلفاز ويتناول سجائره عن الطاولة ذاتها ويمضى إلى خارج البيت ليعيد ذات السيناريو اليومي في البحث عن عمل، وفي داخله شعور مجنون ولهفة بأن يضع رأسه على شيء ينبض حتى يشعر بشيء فقده منذ زمن.

يقف على الإشارة الضوئية ليعبر الشارع للجهة الأخرى، وتقف إلى جانبه فتاة في العشرينات من عمرها، يتأملها لكن بغير حس داخلي، وكأن وقوفها في هذه اللحظة نبهه لشيء لم يسبق له أن تنبه إليه، وهو فقدانه الإحساس بأشياء كثيرة، وكأنه لم يعد كأي ذكر أخر في العالم بداخله غريزة أقوى من الأنثى تتحرك، كان يشعر بها في الماضي تصل لدرجة الحيوانية بمجرد أن يرى أي أنثى عادية كانت تثيره ، يتفحصها بنظراته من أولها لأخرها، هذا الإحساس فقده، وكأن الإثارة لديه قد ماتت.

يسير باتجاه الصدفة في الشوارع محدقاً في كل ورقة معلقة على جدار أو واجهة محل تجاري، علها تحمل الفرصة المفقودة في عمل عادي يومي يساعد في سد الفجوة التي يعانيها، وتجره الصدفة للقاء صديق متعثر الحظ مثله لم يلقاه منذ زمن مضى، ويدعوه لشرب فنجان قهوة في مقهى شعبي قريب، رواده صحافيون و كتّاب، شيوعيون، مخبرون، وعاطلون عن العمل.
وجلسا بمحاذاة رجلٍ معروفٌ عنه بأنه يعمل تاجر عملة.
وفي لحظة مشحونة بعدم الرغبة بالضحك يبدأ حديثه على مسمع منه قائلاً: أتعلم أننا نظلم الحكومة حين نقول بأنها تسرق منا كل شيء.
 تسرق كل شيء !!! يقولها بدهشة ويضيف: أنا لم أقل شيء أنت الذي قلت، لكن كيف نظلمها ؟
 لأنها سرقت منا الأمل، وفرصة العمل، والحرية، والديمقراطية، وعجزت عن سرقة ضجرنا وطفرنا المشترك.
ويضحك الاثنان بصوت مرتفع يملأ أركان المكان .

بقلم: مهند الصلاحات

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى