الاثنين ٧ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
قصص
بقلم أحمد زياد محبك

العدوان على لبنان

1. قانا 2006

أستيقظ في الثامنة صباحاً على ضجيج وصخب وضوضاء، أنهض مستاء، أمضي إلى غرفة الجلوس، لم أنم سوى ثلاث ساعات، وصلت إلى البيت على ما أظن في الخامسة، الدوار يلف رأسي، يتناهى إلى سمعي صوت المعلق في التلفاز، ماذا؟ هل هي إعادة لكأس العالم؟ أولادي أمام التلفاز، أقف ذاهلاً.

في ليلة أمس كنت مع ثلة من الصحب، سهرنا إلى الرابعة عند الفجر، في مطعم إنديانا، تناولنا دجاج الكنتاكي والهمبرجر الأمريكي والبيتزا الإيطالية، البيتزا طازجة محمولة بالطائرة من روما، هكذا قيل لنا، نعرف أنها مجرد كذبة، ولكننا استمتعنا بها، دخنَّا الكنت والمارلبورو والونستون، شربنا الكوكاكولا، واحتسينا الوايت ليبل، والنبيذ السكوتلندي، تبادلنا نكتاً وطرائف بذيئة عن الجنس والقادة والملوك، غنت لنا أشهر مغنية في بارات باريس، هكذا قيل لنا أيضاً، وإن كان أقذر بار في باريس لا يعرفها، المهم أننا عشنا جواً باريسياً فخماً، وأظنها بنت بلدي، فقد رقصت في النهاية الرقص الشرقي، لم ينغص عليَّ الحفل سوى وجود مديري في المطعم، المدير العام للشركة بنفسه، كان قد حجز مائدة خاصة به وبصحبه قريبة من المرقص، مع ذلك جاءت الراقصة إلى مائدتنا، هزت ثدييها أمامي، وضعت بينهما مئة دولار، رفعت مئة الدولار إلى أعلى، عرضتها على الرواد، أظن مديري رأى مئة الدولار، وضعتها بين ثدييها، نكاية في المدير، وأبيت إلا أن أدفع أنا الحساب، دفعته بالدولار أيضاً، ثم رجعنا في سيارات المرسيدس والفولفو والكاديلاك، كنا نتسابق على الطريق.
في التلفاز أرى جثة ممزقة، في نقل مباشر، أفرك عيني، أسأل:
 ما هذا؟
ويتكلم المذيع وهو يعيد الخبر:
 في الواحدة بعد منتصف ليل السبت 29/7 شنت إسرائيل خمسين غارة على قانا، وقع أكثر من خمسين شهيداً داخل مبنى واحد، كانوا قد لجؤوا إليه، وهم من المدنيين، فيهم بضعة رجال، والبقية نساء وأطفال وشيوخ.
أصيح بالأولاد:
 انتقلوا إلى قناة أخرى.
ويسأل أمجد، أصغر أولادي:
 بابا، قانا بعيدة؟
وأجيبه:
 هي بعيدة، لا تخف، الطائرات لن تصل إلينا.
يجيبني:
ـ لا، أنا لا أخاف، أنا أريد الذهاب إلى قانا لإنقاذ الجرحى، سأقاتل الإسرائيليين.
أسأل غاضباً:
 أين أمكم، لتقفل هذا التلفاز؟
يجيبني أمجد:
 أمي ذهبت مع أخي حامد، للتبرع بالدم.
أحس بالغثيان، أندفع نحو الشرفة، لأفرغ ما بجوفي من بقايا الخمرة.
في الشرفة، أقف ذاهلاً، في شرفتنا، في الشرفات المقابلة، في الشارع، أرى أعلام حزب الله.

2. وهي أم:

دهش الطبيب وهو يرى الممرضة إلى جواره تسقط على الأرض، وقد أغمي عليها، حملها الطبيب المساعد وخرج بها من غرفة العلميات، في غرفة الإنعاش قال لها:
 ماذا جرى؟ أعرفك قوية جريئة، في قانا الأولى رأيت مشاهد أكثر ألماً، لا أنسى يوم حملت بين يديك طفلة تهشم رأسها، ولم يبق سوى نصف الجمجمة، ضممتها أنت بنفسك على صدرك، قبلت وجهها المدمى، ماذا حصل اليوم؟ ما رأيت في قانا الثانية مثل ما رأيت في قانا الأولى.
أجابت:
 في قانا الثانية الوضع اختلف، اليوم أنا أم، وعندي ثلاثة أطفال.

3. في المقهى :

فوجئنا بالنادل، وهو يقول لنا:
 إذا سمحتم، هي الرابعة صباحاً، المقهى سيغلق أبوابه.
دهشنا، نظرنا إلى الساعة، لم نصدق، التفت إليه أبو العز، أكبر تجارنا في السوق، ونحن ـ تجار البلد ـ ضيوف على مائدته، صاح به آمراً :
 هيا بدل لنا هذه النراجيل، هات نفساً جديداً من المعسل، المقهى لن يغلق، ألم تسمع بالعدوان الإسرائيلي على لبنان، هذه هي الحرب السادسة، نحن هنا نناقش قضايا الأمة العربية بأسرها.
ويرد النادل:
 لا بأس، اسهروا اليوم إلى ما شئتم، فهذه آخر ليلة لكم في هذا المقهى.
تتوتر الأعصاب، تتسع الحدق، أبو العز يكاد ينهض، يصيح به:
 ماذا تقول هل تريد أن نموت؟!
ويرد النادل بهدوء:
 المعلم حول المقهى إلى ملجأ، سوف يستقبل فيه صباح غد عدداً من الأسر اللبنانية المهجرة من الجنوب.

4. نصر الله :

" هيا اهبطوا بسرعة، اقفزوا"، هكذا صاح بهم السائق، وفتح الباب، فتحت النوافذ، أربعة رجال أخذوا يلقون بالأولاد من النوافذ، نسوة يقفزن من الحافلة، وهي تسير، وقطعة قماش بيضاء فوقها ترفرف، كانوا متوجهين نحو صيدا، لعلها تكون أكثر أمناً، تاركين خلفهم بيوتهم المدمرة في الجنوب، ولكن طائرات فـ 15 الإسرائيلية تفاجئهم.

ثلاث عجائز يترددن، ثم يجدن أنه لابد، فيقفزن، آخر من هبطت امرأة حامل، تناولتها بالأيدي بعض النسوة، والحافلة تسير، أخيراً قفز الرجال الأربعة، واحد منهم في الأربعين من العمر، والآخرون في الستينات، وانطلق السائق بالحافلة، يريد أن يبتعد بها عن القوم ما استطاع، خلع قميصه الداخلي الأبيض، وأخذ يلوح به من النافذة، سمع صوت فحيح، هو من غير شك صاروخ يستهدفه هو والحافلة، ويقفز من الحافلة ويتركها تمضي وحدها.

الأرض استقبلت الجميع، أعشاب الصيف اليابسة احتضنت الأطفال، الأشواك الصفراء رقت ولانت، الحصى والصخور الناتئة أصبحت كالعهن، لم يخدش ذراع، لم يكسر عظم، لم يصب أحد بأي رضّ.

المرأة الحامل جاءها المخاض، لم يكن ثمة شجرة، أوت إلى صخرة بيضاء ملساء، كانت لها كالأم، أحاطت بها النسوة، مع أزيز طائرات فـ15 فوق الرؤوس وفحيحها والزعيق كان المخاض سهلاً وسريعاً، وعلى الفور أصبحت الحامل أماً، وضعت طفلة، بحجر مدبب قطعت امرأة حبل السرة، رفعت النسوة المناديل عن الرؤوس، لففن بها الطفلة، وتحلَّق حولها الرجال والنساء والأطفال، علت الزغاريد، في السماء تشاركها الطائرات بالزعيق، المدفعية في الميدان القريب تطلق قذائفها، تكاد تبلغ إحدى وعشرين قذيفة، كأنها تطلقها في استقبال المولودة، القنابل العنقودية تسقط من السماء هدايا، تشتعل النار في الحافلة كأنها شمعة توقد.

سأل أحدهم الأم:
 أي اسم اخترت للطفلة.
ردت:
 نصر الله
وصاح الجميع يهتفون باسم الطفلة:
 نصر الله، نصر الله.

5. زهرات الجنوب:

قالت زهرة صغيرة في الجنوب لأختها الكبيرة:
 أسمع يا أختي هدير دبابات، وأشم رائحة قنابل وانفجارات، ليتني كنت بجوار صخرة، لأحتمي بظلها، وريقاتي ترتعش، أخشى أن تدوسني دبابة، فتقتل الرحيق، تخنق الشذى، تميت نسلي، تلغي وجودي كله.
أجابتها أختها الكبيرة:
 لا تخشي شيئاً يا أختي، جذورك ضاربة في تراب الجنوب، وهو مجبول بدماء رجال، ما زالوا أحياء، هم وأولادهم والأحفاد، يحمون ظلك، يصونون الشذى، يدفعون بصدورهم عنك الأذى.
ردت الزهرة الصغيرة وهي تسمع هدير دبابة تقترب:
 ها قد وصلت الدبابة، إني أرتعش، سوف تدوسني.
تجيبها أختها الكبيرة:
 فلتدس أوراقنا والتاج معاً، لا تخشي، جذورنا ضاربة في الأعماق، لقد مروا من هنا من قبل، داسوا جدتنا والأم، مزقوا كل شيء، ثم اندحروا، وتراجعوا، ونبتنا نحن أنا وأنت هنا في تراب الجنوب من جديد، أوراقنا أكثر خضرة، أزهارنا أكثر عطراً، لونتنا الدماء، أكسبتنا شذى لا يزول.

مرة أخرى تهمس الزهرة الصغيرة، ويسقط عنها الطل كالدمعة:
 أختي أرجوك، اقتربي مني أكثر، لنموت معاً، الدبابة يغطيني ظل مدفعها الممتد إلى الأمام، يخنقني، هل من الضروري أن نموت مثل أمنا والجدة لنبعث من جديد؟!

ويدوي انفجار، تعطب الدبابة، تلبث حيث هي، لا تتقدم، يسقط عنها مدفعها، يزول عن الزهرة الصغيرة الظل الكريه.
الزهرة الصغيرة تتنفس الصعداء، ترسل عبقها الفاغم لتجلو دخان البارود، تقول لها أختها الكبيرة:
 قلت لك اطمئني، لن نزول، عطرنا سيبقى، يحمينا رجال حزب الله.

6. دمى الأطفال :

من بين الأنقاض المتراكمة في ساحة المدرسة يلتقط رجال الإنقاذ دمى كثيرة. أين الأطفال؟!

7. الحافلة

الحافلة تنتقل من عاصمة إلى عاصمة، من شرق الوطن العربي إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، والتلفزيون المعلق فوق رأس السائق يبث أغاني ومسلسلات وأفلاماً، والركاب بين هرج ومرج وطرب وغناء.
طفل يتقدم من السائق يهمس له:
 أرجوك، انتقل بنا إلى قناة المنار، لنرى ماذا يجري في الجنوب.

أحمد


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى