الثلاثاء ٨ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم أيمن جعفر محمد يوسف

أبــْجــَـدِيَّــــــــة ُ الوَجــــــَـع

نـَرْتــَكِـبُ / تـَرْتــَكِـبُـنــَــــا أبْــجـَدِيَّــــة ُ الوَجـــَع ِ حِـيْـنَ يَـلـْـهُـوْ المَـوْتُ وَالدَّمَــــارُ العَظِـيْـمُ
فِيْ أنــْفــُسِــنــَـــا ، فِيْ غـــَابَـــة ٍ الحَــيَـــاة ِ المَـدَنِــيَّـــة

الصَّـباحُ الغارقُ في فراديس ِالجحيم يَعْـلِـكـُـهُ الألمُ ، ترشقهُ بوارجُ الدَّمار و أصواتُ احتضار ِالأحياءِ،القتلى فيما بَعـْدُ ، تتضوَّعُ في السَّـماءِ الصَّافيةِ من كلِّ جميل ٍ، النقيَّةِ من كلِّ أمان ٍ. و أنا هنا في بيتِ خالتي التـّي أخبرتني بذلك ، و أخذتني حيثُ شبَّــاك الوجع ِ، لأطلَّ على شلالات ٍ وفيرة ٍ من الدِّماءِ ، و حصاد ٍ جَنـِّي ٍ من الأراوح ِالمتناثرة ِ، من اليواقيتِ المبعثرةِ على أرض ِالاحتراق . تتحادرُ دمعة ٌ حرَّى من مقلتيْ خالتي عليَّ لأنتبهَ إليها و أنتحبُ .

تأخذني بعيدا ً ، و تخبرني بما تحدّثها أفكارُها في نفسِها ، فلا أحدَ هنا ، في بيتها ، سوانا ، عن بلد ٍ العزّةُ قلبُهُ ، و لباسُه الجمالُ ، مهما بُلِيَ ثوبُه سيستبدلـُهُ ، فالمهمُّ ألاَّ يَبْـلى القلبُ الذي به يعيش !!

تقولُ لي إنَّ الأيـَّامَ النــَّازلة َ في لبنان ، مذ أسبوع ٍ ، ما عادتْ تعرفُ ما في جعبتِها ، صخبُ الأحداث أفقدها القدرة على التـَّركيز ، مزدحمة ً بالوقائع ِ، تحتاجُ لفترة ٍ لترتيبها و توضيبها ، و أهلُ لبنانَ وَحْدَهُمُ يخبرونها عن قتلاهم ، عن دمارهم ، عن عزّة أنفسهم ، عن إباء و حُسْن ِبلاء مقاومتهم ، عن صواريخ الكرامة الهاوية في نفوس الصَّهاينة رعبا ً ، عن عدوٍّ همجيٍّ دمويٍّ جبان ٍ، عن أمَّـــة ٍ أدارتْ ظهرها بامتياز ٍ مع مرتبةِ الشـَّرَفِ لوطنهم ، عن شعوب ٍ تحترقُ حزنا ً و غضبا ً ، فما عادتْ تميـِّزُ بينهما ، اختلطا ، وعند الاحتراق لا تمييز بين الأشياء المحترقة !!

تتركني إلى جوار التـّلفاز ، لا أرى الصُّور ، و لا أعرفُ هذا التـّلفاز ، لم أرهُ حتـّى ، سمعتها تقولُ لي إنـَّها ستجلسُنِي على كرسيٍّ بجوار التـّلفاز ، خشية نسياني ، فهي التي ستذهبُ إلى المطبخ بعد قليل ٍ قلبـُها مع ما سيقولـُهُ هذا التــّلفاز ، و لا أدركُ بعدُ أهميـَّة ما سيقولـُهُ ، لكنــَّها تناشدني الهدوءَ حتـّى تتمكـَّن من الاستماع
جيـِّدا ً . تغادرني ، و هأنذا وحيدة ٌ على الكرسيّ ، متعانقة الجسدِ ، في لباسيَ الثــََّـلجيّ أرفلُ ، و أتطلعُ إلى السَّـقفِ الصَّامدِ فيما خالتي في مطبخِها تطهو الكبرياء !!

أسمعها تهزجُ صمودا ً ، فيما يهزجُ التـّلفاز بالأخبار ِالعاجلةِ ، هكذا سمعتـهُ ، فتدعُ أهزوجَتـَها و تهرعُ لتسمعَ الأهازيجَ العاجلة . هزجَ بتدمير البارجة ، هزجَ إنَّ حزب الله دمَّر بارجة الصهاينة . لا أعرفُ حقيقة ً ما هي البارجة ُ، لكني أعرفُ جيـِّدا ً، مُذ ْوُلِدْتُ ، ما يعني " حزبُ الله " لنا ، و ما يعني " الصَّهاينة " أيضا ً بالمقدار ذاته رغم تناقض المشاعر تجاههما !!
بالمناسبة دعونا نتفقُ قبلا ً إنَّ ما أحدثكم به وفق ما أسمعه ، فأنا ما زلتُ لا أدركُ ما يجري ، أو ما جرى ، و أمامي عمرٌ من الانكسارات و الانتصارات حتى أبلغَ ذلك الإدراكَ ، و لنتفق أيضا ً على أنـَّني أتحدَّثُ بأبجديـَّتكم ، هذه الأبجديَّـة التـّي لمْ أرتكبها بَعْدُ.

تتصلُ خالتي الآن بجارتها الجديدة أمّ حسين ، تخبرها ، و صوتها مغموسٌ في ينابيع الشـّهد ، ينبئُ عن قلب ٍ يتقنُ فنَّ تجويدِ سورةِ الفرح ِ، و يخفقُ في كتـْم ِعبير الفخر !!

تطلبُ إليها الحضورَ فورا ً لمشاركتها إيَّـاها هذه اللحظات المُكهرِبَة الرّوح بتيَّارات البهجة ، و تعِدُهَا هي بسرعة الحضور . في المسافة بين إنهاء المكالمة و حضورها ، جلستْ الخالة العزيزة إلى جانبي و غدتْ ترسلُ عبر البريد البصريّ العاجل رسائل السَّعادة من خمائل عينيـْها إلى عيْنيّ . فيما صوتها المدجَّج بجحافل الافتخار يقول لي عن بطولات المقاومة الإسلاميَّة في مواجهة الأعداء ، عن أرواح ٍ ألماسيَّـة تحَاضِرُ في أمَّـتنا عن الإباء ، عن أمطار الرَّحمة تهطلُ على الصَّهاينة أمطارَ لهيب ٍ ، لينمو جميلا ً جليلا ً ذيَّـاكَ الفداء !!

هاهي الآن تدقّ جرسَ الفؤاد ، المشرع أمامها ، ليعانق روحها ، تجلسُ الأخرى إلى جانبي . تهديني وردة حنان ٍ من عيـْنيـْها . أبتسمُ ، فابتسامة ٌ مقابلة ٌو سؤالٌ عَمَّــنْ أكون . تجيبها خالتي ، و تحدِّثها عن أبي الرّابض هناك في منطقة مارون الرأس ، على الأرجح ، يقاومُ بكلَّ كيميائيـَّة فِعـْـل ِالمقاومَة ، بكلِّ سِحْر كلمة المقاومَة ، بكلِّ
ربيع ٍ ترسمُهُ المقاومَة ؛ لتكـتحلَ به أجفانُ الأوطان المقاومـِة !!
و عن أمي التـّي تركتني في عُهْدَتِهَا صباحا ً ، لتصطحبَ جارتنا العجوز إلى المستشفى ، بعد ارتفاع ضغط الأسى و انهيار ٍنفسيٍّ حادّ . نظرتْ إليَّ بعدذاك و أهدتني وردة ٍ إعجاب ٍ هذه المَرَّة !!
أنا المشاغبة المخربشة على صفحات حديثهما بصوتي ، توقفتُ عن اقتراف تلك ( الخربشة ) و رحتُ أقرأ حديثهما المسموع / المدوَّن على صفحة الحديث !!
جارة ُخالتي غرفتْ من ذكرياتها مصير زوجها ، الذي نسِفَ في اجتياح بيروت عام ألف و تسعمائة و اثنين و ثمانين في مبنى عمله . حين لم يكن سوى الدمارُ و الموتُ يلهوان في بيروت ، ربـَّما تحالفا يومها فالموتُ دمارٌ ، و الدَّمارُ موتٌ ، و لذا فليسَ مُسْتـَغـْرَبَـا ً تحالفهما و لهْوُهُمَا بكلِّ شيء ٍ ليس في بيروت و حسب ، و إنـَّما في لبنان كلــِّه ، الصَّابرُ صَبْرَ الأنبياء على بلائه ، و هو يرى أقوامَ المآسي تشيـِّد قصورَها و أبراجَها العالية فيه ، كافرة ً
بكلّ العواطف النـَّبيلة ، و النـَّواميس السَّـليمة .و الحربُ حديقة مَلاه ٍ للموت و الدَّمار و المآسي !!

وحدَها أسطورة العنقاء اقترفها المقاومونَ ، فمن احتراق لبنان وَلـَّدُوا لبنان العزّة ، التي زُفــَّتْ لهُ الحريَّـة
عروسا ً عام ألفيْن ، و فيه كان الإفراجُ عن قيد ولدها حسين المأسور بيد العدوّ . لربّما أحسَّـتها خالتي
تعاني من شيزوفرينا ، حين أظهرتْ وجهَ الحزن الدَّميم التـّي لفـَّته في قماط قلبها ، لها ، و هي إذ تتذكـَّر
زوجَها ، و تشكو ترمُّـلها ، و تعطـُّل ساعات بهجتها ، و إرضاعها ذاك الحزن عمرها .
ثمَّ إذا هي تظهرُ وجه الفرح الوسيم ، متورِّدَ الوجنتيـْـن ، حين ذِكرِهَا ليوم التحرير . هي عللتْ ذلك بقولها : " إنَّ الحزنَ طريق ٌ يفضي إلى الفرح ، و الفرحُ طريق ٌ يفضي إلى الحزن ، و عمليَّـة تحديدِ مشاعرنا تتحدَّدُ باللحظة الآنيَّـة التـّي نكونُ وقتها في أحدهما !!"
و قالت أيضا ً إنـَّنا في لبنان الآن على الحدود بينهما !!
الصَّمتُ أينعَ ، لترى صور التـّلفاز، الذي لا أعرفه و لم أرهُ بَعْدُ ، تعدو ، صاهلة ً ألما ً في قفار قلبيـْهما ،
مستدرجة ً عقليـْهما نحو فخِّ الذاكرة ، حيث يعرِّشُ الوجعُ ، و يلهو الموتُ ، كما الآن !!

تلا العَدْوَ دَوْسٌ بحوافر الخبر على قلبيْهما ، حين تمَّ الإعلانُ عن عدم تدخّـل الدول العربية فيما يحدث ، لتسرجَ الخيبة ُخيولها في قلبيْهما !!
بالطـَّبع لا أدركُ أشياءً هائلة ً في هذه الدّنيا التـّي جئتها منذ فترة قصيرة ، و منها عدم إدراكي ، كما خالتي ، عدم التدخـّل . خالتي قالتْ إنَّ أمّي تركتني عندها لأنـّها أختها ، و أمي ذهبتْ بجارتنا في غمرة الهلع إلى المستشفى لكونها بمثابة أخت ٍ لها ، و خالتي اتصلتْ بجارتها لعدِّها إيَّــــاها أختا ً تودُّ اقتسام الفرحة معها . فأينَ الدول العربيـّة من لبنان ؟؟ .. من أختها ؟؟!!
أنا ما زلتُ طفلة ً ، لا تتقنُ سوى السَّماع ، و النظر إلى السقف ، و إلى أعين ٍ ترسلُ عبر البريد البصري العاجل حديثها ، أو وردات حنان ٍ و إعجاب ٍ و رحمة ٍ ، و قبلات ٍ ، و رضاعة الحليب ، و مراسم أخرى خاصَّــة لا تليقُ سوى بمَـنْ بمثل سنِّي ، و لا تفقهُ ما يجري في العالم من حولها ، و لذا فإنـّي لا أفقهُ ما يحدثُ من حولي .
لكنـّي الآنَ أسمعُ صوتَ فتح خالتي لصفحة ٍ جديدة ٍ من الحديث ، تستهلـّها باسم الذكرى ، و تستعيذ ُ من الدّموع أنْ تسيِّـرَ قوافلها . ثمَّ تغدقُ في الغـَرْفِ من ذاكرتها ، فتخبـِرُ عن زوجها الشـّهيد الذي صارع الموت ، و أبى ألاَّ يموتَ قبلَ أنْ يُحِيـْلَ دَمَهُ القاني حبرا ً يختط ُّ ، برصانة الثـُّـلـُثِ ، أروعَ اللوحات البطوليَّــة ، بعد يوم ٍ يتيم ٍ فقط من زواجهما !!

عن ابن أخيها عليّ المستشهـَد والداهُ في غارة ٍ للعدوّ عام اثنين و ثمانين و تسعمائة و ألف ، و القابع الآن أسيرا ً عقب تربيتها له ، بعد أنْ تربّى فيه اليـُتـْمُ المشاغب ، منذ ثلاثة أعوام !!

عن وحدتها بعدهما ، و لولا سكنها مع أمي لكانتْ الآن مقتولة ً وحدة ً !!
حدَّثتها عن مجيئها إلى بيتها ، بعد تلك الفترة الطـّويلة ، منذ أيَّام ٍ لتلملمَ بعض الأغراض التي تركتها هنا ، حيث سينزلُ فيه جمع ٌ من أهلها في الجنوب ، الذين هجَّـرهم القصف العنيف على منطقتهم .
لم أسمعْ بعد ذلك و لفترة ٍ وجيزة ٍ حديثا ً منهما ، و للأسف وضعي لم يكُ ليسمحَ لي بأكثر من التـَّحديق في السـَّقف لكن بعد تلك الفترة ، سمعتُ شهقتهما ، هكذا أخالُ اللفظ السـَّليم وفق أبجديـَّتكم التي لمْ أرتكبها بعدُ ، فانفراط عبارات الأسى ، المحترفة مذاق الملح ، و سمعتُ من الخبر العاجل ذاك ، قصفا ً عنيفا ً قصفَ عدَّة
مبان ٍ سكنيَّــــة ٍ ، ما جعلني أسكنُ في أكواخ اللامبالاة . أجل اللامبالاة ، فأنا صحيحٌ أسمعُ ما يحدث لكنـِّي لا
أفهم ، و لا أدركُ سرَّ شهقتهما ، و نحيب خالتي الآن ، التي أدمنتْ على الهاتف ، و كلّ مرَّةٍ تقولُ بصوت ٍ يجلدهُ الألمُ المجنونُ إنـَّها لا تجيب .. لا تجيب!!
كنتُ أسمعُ نحيبها ، و ألفاظها ، و نعتها إيَّـــــايَ بالمسكينة ، لكنـِّي ، كما أخبرتكم ، لا أفهم ، لا أفهم ، لا أفهم .

فيما الوقتُ يسيرُ مبتلا ً بعويل خالتي و جارتها .
لا أدري الآن ، لمَ جَفـَّفَ الوقتُ ثيابَه من العويل ، و لِمََ لمْ أعدْ أسمعُ صوتَ خالتي أو جارتها و لا حتـّى الـتلفاز، و لِمَ أشعرُ بتغيِّر المكان الكنته قبلا ً ، غير أني أدركُ سماعي لأصوات ٍ أخرى غريبة ٍ عني ، كما أدركُ الآن و أنا إذ أفتحُ عينيَّ أنَّ السّقف تغيّر .
أصواتُ أطفال ٍ ربّما في مثل عمري أو أصغر أو أكبر ، و أصوات شيوخ ٍ و رجال ٍ و نساء ٍ و فتيان ٍو فتيات ٍ أسمعها ، يقبضُ عليها الوجعُ بكلِّ ما أوتيَ من شراسة ٍ . السّقف الغريب يهديني وردة حيرة ٍ ، و ثمَّـــــة شيءٌ غريبٌ آخر أنتبه إليه الآن ، يتمثل في هذا الشيء الموضوع على وجهي .

أمرٌ آخر لا أدركه ، و يبدو أني مقبلة على حياة ٍ لن أدركَ فيها شيئا ً . أينَ أنا ؟ أين خالتي ؟ أين جارتها ؟ أين التلفاز ؟ أين السقف الذي أعرفه ؟ أين أمي التي ما رأيتها منذ الصباح ؟
ابتلَّ الوقتُ صِفرا ً من الإجابات ، حتى سمعتُ وقع خطوات ٍ ، خطتْ فيَّ ذعرا ً . سمعتُ فتاة ً تقولُ هذه هي الطفلة مُومِئة ً إليَّ ، فصوتٌ رجوليّ يستفسرُ بصوت ٍ مُنـَـكــَّه ٍ حسرة ً عمَّــــا إذا كنتُ أنا فعلا ً الطفلة
المقصودة .ثمّ قال : " أحقا ً هذه الطفلة الرّضيعة ، التي أخبرتنا تلك المرأة الجريحة ، جارة خالتها ، أنها ابنة أحد المقاومين ، و التي فقدتْ أمها و خالتها في قصفيْـن متتابعيـْـن في منطقتين مختلفتين ، و انتشلتْ من بين الأنقاض
بأعجوبة ؟؟!!"

لا أدري الآن إنْ كنتُ سأرتكبُ أبجديتكم يوما ً ما ، لكني الآن ، وحسبَ التوقيت المحليّ للمصائب ، أرتكبُ أبجديَّـــة ً أخرى ، مستلة ً من مراعي الماضي الجميل ، و صحاري الحاضر المريع ، أبجديَّـــة َ الوَجــَع ِ .

قلبي الصغير الذي تصفه أمي بحبَّـــة بندق ، ينطقها ، فيما ينطق الطبيبُ باحتماليْـن فإما عودة أبي و إما فسأكون في دار الأيتام ، ثمَّ صلى و الفتاة أنْ يعودَ أبي منتصرا ً ، لينصرني من جيوش اليتم الكاسحة ، و التي ما إنْ أطلَّ هذا الطبيب ، عليَّ بنظرة شفقة ٍ ، حتى أدركتُ أيَّـــة قنابلَ عنقوديَّـــةٍ تستخدمها ؛ لأتشظى نحيبا ً .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى