الجمعة ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم محمود عبد الوهاب محمود

الطريق

نظرت الدكتورة إلى الأشعة ثم قالت:

 المنظر لا يسر، عندك ثلاثة ضروس يحتاجون إلى حشو عصب، افتح فمك أكثر.

فتح فمه بينما إرتدت الكيس البلاستيك وأدخلت إصبعها.

عبثت قليلآ ثم عادت تنظر فى الأشعة.

 مثلما توقعت تمامآ، ضرسان فى الفك العلوى الأيسر، و آخر فى الفك العلوى الأيمن.

عادت وأدخلت إصبعها فى فمه، وضعته على الأسنان وعبثت قليلآ ثم سألته وإصبعها لا يزال فى فمه:

 أيوجد ألم فى هذه الناحية أيضآ؟

أدهشه أن تسأله وإصبعها فى فمه.

أجاب فعض إصبعها:

 أيوه.

عادت إلى مكتبها بعد إنتهاء الكشف بينما غادر الكرسى الكبير وجلس قبالتها إلى المكتب.

بدأت تشرح بالورقة والقلم شكل الضرس وكيف يكون الحشو، وكيفية عمل الطربوش المزمع تنفيذه بعد الإنتهاء من حشو الضرس، ثم قالت:

 من الضرورى أن تفعل الشىء بالطريقة الصحيحة الواجبة وذلك حتى يعيش عشرين و ثلاثين وأربعين سنة لو لزم الأمر.

كان قد تخطي الأربعين فقال لها:

 لا أظن أن فى العمر أربعين سنة أخرى.

ردت قائلة:

 لا إن شاء الله تعيش حتى المائه.

لم يعجبه الكلام، غير أنها لم تعبأ بتعبير الإمتعاض على وجهه.

أضافت:

 بس خد بالك السنين إللى جاية مش زى إللى راحت، إحنا عضمنا بيضعف وأسناننا بتنخلع وخلافه، لذا ينبغى علينا أن نحسب حساب السنين.

سألها وهو يهز سلسلة المفاتيح:

 وكم سيكلفنى حساب السنين ؟

 أربعمائة جنية لكل ضرس، أما الطربوش فيتكلف ستمائة وخمسين جنيهآ لكل ضرس أيضآ، ولابد أن تترك الأشعة عندنا أثناء فترة العلاج، أما عن مواعيدى فأنا أبدأ عمليات الحشو فى الثانية ظهرآ وأنتهي منها قبل المساء. المساء مخصص للكشف فقط، وسوف أحشو لك ضرسآ واحدآ فى كل مرة وسيستغرق الأمر ساعة ونصفآ.

انتصب واقفآ قبل أن تتم جملتها الأخيرة و مد يده بالسلام.

 على العموم سوف أفكر فى الأمر وربما استطعت الشهر القادم أن أبدأ بضرس أو اثنين، أما الآن فسآخذ الأشعة بالطبع.

أشارت بإصبعها وابتسامة خفيفة على وجهها بينما كان قد وصل إلى الباب:

 و لكن لا تهمل الموضوع، لقد جاءنى زبون فى مثل حالتك و نصحته نفس النصيحة، ثم غاب ستة أشهر وحادثنى بعدها وهو يصرخ من الألم نادمآ على أنه لم يبدأ العلاج مبكرآ كما أشرت عليه.

غادر العيادة و نزل إلى الشارع.

كان الجو شديد البرودة والشارع مظلم نوعآ ما وخالى من المارة، أخذ طريقه إلى منزله القريب، غير أنه لما إقترب لم يشعر برغبة فى الصعود إلى الشقة فأخذ طريقه ماشيآ فى الشارع الملىء بالأشجار.

لم تكن به حاجة حقيقية للمشى غير أنه لم يكن لديه أى شىء آخر يفعله.
ترك قدميه تقوداه قليلآ فى الشارع الرئيسى حتى تخطي الشارع الفرعى الذى يقع به منزله.

كان قد مل الجلوس على القهوة منذ زمن بعيد ولم يعد قادرآ على تحمل صخب الرواد، كما أن التليفزيون الكبير الذى إشتراه مؤخرآ لتسليته فى المنزل قد فقد بريقه بسرعه غريبة وأصبح يبدو له شيئآ سخيفآ مملآ فى أقل من شهر.
لم يبق إلا المشى إذن.

وصل إلى منزل الكوبرى عند صاحب توكيل السيارات فخطر له أن يذهب إلى البار القريب.

عدل عن الفكرة لأن البار به نساء لن يتوقفن عن محاولة إضحاكه وتسليته وهو لا يعنيه كل ذلك.

لقد بدأ يحس بأنه لم يعد يستطيع التواصل مع النساء كما فى الماضى بالرغم من شوقه الشديد لهن، وهذا هو الذى لم يستطع أن يفهمه.
كان قد وصل إلى شارع "نوال" فعاد أدراجه سائرآ فى شارع "شاهين" حتى وصل إلى مطلع الكوبرى.

خطر له أن يصعد الكوبرى كنوع من الرياضة، ويسير حتى يصل إلى ميدان التحرير فينزل السلالم، ويعاود الصعود من الناحية الأخرى ليرى المراكب النيلية التى إعتاد التردد عليها فى سنوات الحب، لكنه عدل عن رأيه.
تذكر حبيبته التى كان يقبلها فى السيارة بالقرب من منزله، تحسس شفتيه وهو يسير، كان يريد التأكد من أنه هو حقآ الذى فعل ذلك.

عبرت خياله لحظة جميلة قالت له فيها: "مش هنا.. فى البيت"، كان ذلك عندما أراد أن يصل إلى صدرها بشفتيه.

لقد حدث ذلك منذ سنوات قليله وقبل أن يصل إلى سن الأربعين.
لم يكن يعانى من آلام الأسنان.

ولم يكن لديه مثل هذا "الكرش" الواضح الذى يضفى على عمره سنوات إضافية.

وكان يسهر معها أحيانآ حتى قرب الفجر فينام ساعتين ثم تكون به القوة ليقوم إلى العمل.

ما الذى تغير؟

عاد فتذكر كلام الدكتورة:

 بس خد بالك السنين اللى جاية مش زى إللى راحت.
بدا الكلام له منطقيآ، والأدلة دامغة لا تفيد معها المكابرة، فهو من ناحيه يحتاج إلى إصلاح حقيقى لأسنانه، ومن ناحية أخرى فإنه يزداد وزنآ بإستمرار بسبب إكثاره من الشراب، وقد يحدث السيناريو الأسوأ فيزيد أكثر حتى يصبح شكله قبيحآ كبعض الناس الذين عرفهم والذين شوه أجسامهم إدمانهم للشراب.

منذ متى بدأ يكثر من الشراب؟

تذكر أن ذلك قد تزامن مع بدايه قصة حبه الأخيرة وفشله فيها، ثم حاجته إلى نسيان كل ذلك.

مشى حتى وجد نفسه فجأة أمام "الجيم" الذى كان يتردد عليه بين الحين و الآخر.

كان يمكث فيه شهورآ يحمل كتل الحديد الثقيلة ويطاوعه جسده فيلعب تمارين عنيفة لتقوية الأكتاف والصدر والظهر والبطن.
أدهشه أن جسده لا زال كما كان قويآ متناسقآ بالرغم من قسوته عليه فى
السهر و الشراب.

فكر أنه بالتأكيد يستطيع أن يعود إلى سابق عهده قبل الأربعين.
كل ما يحتاجه إعطاء الرياضة بعض الإخلاص فيعود كما كان.

ما الذى ضعف فيه إذن؟

ثلاثة أسنان يلزمهم الحشو أو الاستبدال فى أسوأ الأحوال.

ماذا أيضآ؟

الكرش الذى تدلى والوجه الذى انتفخ بفعل الشراب؟ لقد عالجهما من قبل لما إمتنع وبدأ فى لعب الرياضة، وهو بالتأكيد يستطيع أن يفعل هذا ثانية.

أهذا كل شىء؟

أدهشه أن يكون هذا فعلآ هو كل شىء.

كيف تحدث زيارة الدكتورة كل هذا الإكتئاب؟

عليها اللعنة.

قرر أن يعاود الذهاب "للجيم" إبتداء من اليوم التالى، غير أنه وهو عائد إلى المنزل هاجمته بعض الأفكارالحزينة غير تلك التى هاجمته من قبل، فقرر أن يذهب فى زيارة أخرى إلى البارعلى أساس أن تكون هذه هى الزيارة الأخيرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى