الأربعاء ٢٣ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
الشاشة اللبنانية بين
بقلم مروة كريديه

"الكائنات الطربية" و"الكائنات السياسية"

غدت الأحداث السياسية اللبنانية الشغل الشاغل للبنانيين بكافة شرائحهم الفكرية، ومختلف توجُّهاتهم السياسية، وبغض النظر عن وظائفهم ومراكزهم وأعمارهم وطبقتهم الاجتماعية، فمعظمهم خبير عليم "بالأوضاع السياسية "و"الفنيّة"، على حدٍّ سواء.
والفضائيات "اللبنانية" الكريمة كفيلة بنقل "الصورة "بأمانة " و"شفافية " و"إخلاص " فهي تُخَرِّج لنا بشكل دائم "كائنات طربية" من " فنانين "و"فنانات" و"مطربين" و"مطربات"، عددهم أكبر من أن يُحصر والحمد لله، فلبنان حماه الله بلد يُعاني من "فرط النشاط" الفني والسياسي.

والشاشة مفتوحة، وتعامل كل الفنانين بالتساوي، والعدل، والإنصاف، فهم عندها "سواسية"، فغالبا ما يصرح بعض القيمين على الإعلام المرئي الفني، بأن سياستهم واضحة وصريحة ومُنفتحة لكلِّ فنان "صاعد" و"هابط"، " للفنان المطرب "القدير المبدع" و"لأنصاف المطربين"، وحتى "لمن لا صوت لهم"، إذ تتكفل "الصورة العارية" وكثيرا من "الدلال" مع غياب تام "للمعنى" حتى يكون الفنان فناناً عظيماً مرموقًا، ومطرباً بارعاً موهوباً، يقرع أسماعنا ب"نعيقه " و"نفيره" و"نحيبه"، ويطلعنا على محاسن "صورته" ويرينا إبداعات ما يسمى ب"اللوك" الجميل والجديد، الخارج عن المعهود المألوف، فيقفز أمام أعيننا قفزاً برفقة مجموعة المهرِّجات الفاتنات، ثم يطلّ علينا في اليوم التالي ضيفاً "خفيف الظل" كثير الحركة من خلال البرامج الفنية، ليخبرنا عن قصة حياته وعن "مشواره الفني الطويل العريض"، وعن أحدث إنجازاته في عالم الغناء الراقي، فيمنحه مُقدم البرنامج أفخم الألقاب الفنية بشفافية ودون أدنى مجاملات، ويسمي كل هذا التهريج فَنًّاً في عصر "الصورة " و"الفيديو كليب".

والفن شأنه شأن السياسة، فهو أحد مفردات الثقافة، ولا يمكن لمجموعة بشرية أو حضارة إنسانية أن تكون مزدهرة فنيّا وهي تعيش عصر "انحطاط فكري" و "سياسي".

فالشاشة السياسية لا تختلف كثيرًا عما تشهده الشاشة الفنية اللبنانية، إلا أننا بالسياسة أصبحنا" أعجوبة العصر"، ونستحق أن يُطلق علينا لقب شعب "فريد عصره وأوانه" لأن كل كبير ٍفينا ومتوسط وصغير وما بينهم، يدَّعي في السياسة فلسفة "عظيمة" حتى أن كليات العلوم السياسية في الجامعات الكبرى تدرس حالة "اللبننة" كحالة فريدة ودخلنا معاجم السياسة العالمية من بابها الواسع العريض.

وغدا المواطن اللبناني "الفهيم" بكل شاردة وواردة، العليم بالسياسة العالمية الخبير بالسياسة المحلّية، كائن "مسيس مؤدلج"، ينتظر "نشرة الأخبار" بفارغ الصبر ويسأل ربه السلوان لمصابه الجلل، كيف لا؟ وهو مع موعد مصيريٍ مُهم، يحمل له كلّ "جديد" و"مفاجئ"، فالنشرة الكريمة أشبه ما تكون بمسلسلٍ تراجيدي كوميدي "طويل"،بدأ منذ قيامة لبنان العظيم، ولا ندري متى تنتهي فصول هذا الإنتاج الفني "الضخم"، الذي لا ندري من هو المنتج والمخرج الحقيقي له، فقد توالى على إخراجه حتى الآن، العديد والكثير من مخرجي المسلسلات "السياسية" المعروفين على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، غير انه من المؤكد أن "الأبطال" الأكارم هم "كائنات لبنانية " وهم في الحقيقة " ساسة مؤدلجين "بامتياز.

فعندما تطل بعيونك إلى شاشتنا السياسية يلتفت نظرك إلى ثلاثة أمور مهمة للغاية:
بالدرجة الأولى: العدد الكبير الهائل للأفراد العاملين بالسياسة كمحترفين، هذا إذا استثنينا المتطفلين والهواة، ففي بلد صغير كلبنان لا يتجاوز عدد سكانه 4 ملايين نسمة يطل على شاشاته يوميا عشرات " لسياسيين" يتبجحون بخطابات ومهاترات "كلامية"، يتبعها سريعاً دعاوى قضائية ضد بعضهم البعض، وكلّ يدعي لنفسه الفهم ويقدم نفسه انه "الممثل الحقيقي عن الشعب" وأنه الأوحد المخوَّل بالإعلان عما يجول في بال "المواطن" ورؤيته هي الوحيدة القادرة على إخراج البلد من محنته وأزمته.

الأمر الثاني : أن وزراءنا الأكارم وان تعددت مهماتهم الوزارية، ألا أنهم في الحقيقة، يعملون عملاً واحداً أجمعين، فبدلاً من أن يهتم كل وزير بمهامه المؤسساتية وأعمال وزارته، ويعمل على تطوير العمل فيها، وإرساء المشاريع الاقتصادية والزراعية والإنمائية والتربوية كلّ بحسب اختصاصه، ويساهم في محاربة الفساد، والاهتمام بشؤون الرعية، نجد أن جميع الوزراء وكأنهم يحملون "حقيبة وزارية واحدة "، "ونشكر الله على هذه النعمة لأنهم متساوون في هذه الناحية على الأقل، همهم الكبير والعظيم، وأحاديثهم ومشاريعهم كلها متوقفة على "الوضع السياسي الحساس" الذي لولاهم ما كان "حسّاساً. والذي هو في الحقيقة صراع "مؤدلج" ومعدّل طائفياً بما يتناسب مع النقاط الحساسة والوتر المناسب لتحريك "الطوائف" على أرض "الشارع "للحفاظ "المصالح" و وراثة "الكراسي".

فالكراسي والمناصب موزعة حسب "الطوائف"، بل ما نراه أيضاً حسب "العائلات"، حيث يتفاخر فلان بأنه من "بيت سياسي "عريق، والآخر يتباهى بماضي أبيه وجده وكأن الفهم السياسي ينتقل بالخلايا الجينية، لا عبر المعايير العلمية والانتخابات والممارسة والكفاءة والتعلم والخبرة والضمير والمشاريع وبناء المؤسسات.

ونجد الزوجة تخلف زوجها بعد وفاته أوتوماتيكيًا كجزء من مؤخر صداقها، وترافق ابنها باجتماعاتها كي يتدرب ريثما يستلم "الأمانة" بعد عمر مديد، ونجد الأخ يرث منصب أخاه الوحيد، والجد يسلم المنصب لأحفاده ذكوراً كانوا أم إناثاً لا فرق فنحن "شعب منفتح"، وهكذا دواليك حتى يرث الله لبنان ومن عليه من الساسة أجمعين.

الأمر الثالث: أن كل الطبقة "السياسية" وكل هؤلاء المتناحرين متفقين بالإجماع، أكثرية وأقلية على استبعاد من تخوّل له نفسه، أو يمر في خاطره مجرد فكرة "إلغاء الطائفية السياسية"، وطرح مبدأ عدم ربط الكرسي بحبل الدين، وتحويل لبنان إلى مجتمع مدني.
خارج هذا المشهد المأساوي، تقف شريحة صامتة من البشر اللبنانيين، تنظر إلى تلك "الكائنات المذهبية" المقززة بتحسر. مجموعة لبنانية لا ولن تنتمي لدين ولا لمذهب ولا لعرق ولا تدعي وصلاً بأحد، ولا تريد أن يمثلها أحد من الموجودين من الطبقة السياسية الحاكمة.

شريحة لا شاشة لها ولا فضائية ولا حتى إذاعة صغيرة، ولا مكان لها على خارطة العمل السياسي. شريحة تنظر بحسرة كبيرة، وقلبها ينفطر وعينها تدمع وهي ترى "ملوك الطوائف " و"أمراء الحروب" أجمعين يجرون "البلد" لحرب طائفية أهلية جديدة، في ظل فساد مستشري بالمؤسسات، يتخفون خلف شعارات كبيرة ومصطلحات ضخمة رنانة ينادون بها تارةً باسم "الحرية" و"السيادة " و"الاستقلال" و"المقاومة" و"الوطنية" و"المصلحة اللبنانية"، وتارةً باسم "الوفاق" والتوافق" و"العيش و"التعايش" وأخيرا وليس آخر باسم"الحوار".
مروة كريدية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى