الأربعاء ٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم مروة كريديه

الطائفية متراس الفساد


الطائفية السياسية في لبنان :

يقف اللبناني اليوم يتطلع الى عقود أُتخم فيها مآسي ومعاناة ، يبحث علّه يجد مكمن الداء في وطن نازف، فيجد أمامه صورة وطن مزقته "الطائفية السياسية" التي تُعدّ العمود الفقري والمحور الأساسي للمنظومة السياسية اللبنانية، فالطائفية في لبنان بالتحديد مرتبطة بالميدان السياسي لا بالميدان العقائدي أو الديني، فهي طائفية سياسية بامتياز ، وهي السوق السوداء لأسهم السياسة ، ومعظم الساسة الحاليين يتلاعبون بهذا السوق صعودًا وهبوطًا ،الأمر الذي يعيد انتاج شروط "صراع طائفي من جديد " الذي احد اشكاله "الحرب المسلحة " .
وإذا كان الساسة اللبنانيون اليوم على "إجماع " بضرورة ضبط الشارع إلا أنهم بمواقفهم المتشنجة ثقافِيًّا وفكريًّا، يعملون على إيجاد المناخات "الطائفية" المقززة ، فالطائفية السياسية تشكل سوقا موازية أكثر مما تعكس إرادة نَشر قيم مذهب فكري او تيار عقائدي لجماعات معينة.

هذا التصوّر وهذا المُعطى النظري نابع من فرضية أساسية مفادها أنّ الطائفية لا علاقة لها بتعدد الطوائف او تنوع المذاهب او الديانات، فالتعددية الدينية والثقافية بدون شك هي مصدر تنوع وإثراء للمجتمعات البشرية وخصوُصًا ضمن الوطن الواحد ، فمن الممكن تماما أن يكون المجتمع متعدد المذاهب والإثنيات والعرقيات من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء دولة طائفية أو سيطرة الطائفية على الحياة السياسية،لأن الولاء هو للدولة والقانون الذي تمثله.
وعندما نقول أن الولاء للدولة أولا ينبغي ، ان يكون هناك " دولة " بمفهومها الكامل الدولة المتحملة لمسؤولياتها الكاملة تجاه مواطينها ورعاياها ، لا ان تكون إدارة "الدولة " طائفة " من جملة الطوائف "الموجودة .

فعملية الربط بين منطق العمل المجتمعي ومنطق عمل الدولة، وهو المنطق السائد حاليًّا الذي يعتبر الطائفية التي تمارسها النخب السياسية انعكاسا مباشرا وطبيعيا للتعددية الطائفية التي تسم المجتمع ، هذا المنطق يقود لا محالة إلى الاعتقاد بأن محاربة الطائفية تمر عبر إدانة "المجتمع " و جميع العصبيات والتضامنات الأهلية وحلها، لتكوين مجتمع خال من العصبيات الأهلية. وهو ما يعني عمليا تفكيك عرى التلاحم الإجتماعي، وبذلك تتحول الحكومة واجهزة الدولة والعاملين في كوادرها إلى طائفة وحيدة، محتكرة للسلطة والثروة جميعا، بصورة نهائية، في وجه شعب أُفرغ من أي علاقة اجتماعية، وتحول إلى ذرات لا تعمل ولا تتحرك ولا تفكر ولا تشعر إلا عبر طائفة السلطة وبإرادتها وأوامرها.

فالطائفية هي ليست مجرد شعور عدائي لأفراد من طائفة نحو طائفة أخرى، بل هي أيضًا استراتيجية موازية تستخدمها بعض فئات النخبة السياسية في التنافس على السلطة أو سياسة منهجية تتبعها سلطة معينة في سبيل تأمين قاعدة اجتماعية شعبية او إتنية أو مذهبية تعزز مواقعها الاستراتيجية وهو ما تعمد اليه "الأحزاب الطائفية المؤدلجة في لبنان "لتكريس الطائفية كحتمية اجتماعية وتاريخية لا ترد .

ويزعم" ملوك الطوائف " اليوم أنهم يريديون تطبيق اتفاق الطائف ،بالرغم من ان اتفاق الطائف ليس "مقدسًّا " وبالرغم من أنه كرّس التمثيل الطائفي في الفئات الأولى، فاتفاق الطائف يطالب ب" إلغاء الطائفية "وفق صيغة نُقلت إلى الدستور اللبناني بعد تعديله بناءً على مضمون وثيقة الوفاق الوطني.
وذلك عبر المادة 95 من الدستور التي ورد فيها:" إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء الفئة الأولى من الموظفين وما يعادل الفئة الأولى، وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيّد بمبدأ الاختصاص والكفاءة" .

و في المادّة نفسها ورد ايضًا: "على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية".

هذه الهيئة لم تشكَّل حتّى الآن، و هذه النصوص لم توضع موضع التطبيق بعد اكثر من ستة عشر عامًا على إعلان اتفاق الطائف ، وفي هذا مخالفة للدستورمع العلم أنه كان من الواجب تشكيلها من اوائل التسعينيات وكان بالامكان تجاوز الحالة الطائفية واعتبار هذه الهيئة مرجعية و منبراً للحوار المنتظم في كل شأن وطني، وتسخير السياسات التربوية والانمائية لها .

الديموقراطية والفساد :

لا شك في انّ الديموقراطيّة مطلب حيوي وملح في آن، وهو محلّ إجماع عند كافّة اللبنانيين بكلّ شرائحهم (او على الأقل كما يُصَرِّحون )، ومن المفارقات أن لبنان بلد تكثر فيه الحريّات الشكليّة وتغيب فيه الديموقراطيات الفعلية ، لذا فإن التأكيد على الديموقراطية مطلب محوري، فالحياة السياسية تنعدم في غياب الديموقراطية ، ولا استقرار أو اطمئنان إلى المستقبل في ظل القمع الطائفي، سواء كان قمعًا مباشرًا او مقنَّع ، وتبقى الحريّات بدون شك مهددة في ظل الانظمة الدوغمائية والاستبدادية ، غير أنّ الديموقراطية تتلازم مع أمور تمس جوهر البناء السياسي ولا يمكن تحيدها منها قانون المحاسبة وتكافؤ الفرص والتمثيل الشعبي الحقيقي في الحكومة وكلّ هذه الامور غائبة حاليًّا في ظل النظام القائم.

• فالديموقراطية متلازمة بشكل مباشر مع قانون المحاسبة على كافَّة الصُعد ، لذلك فإن قانون المحاسبة في ظل "النظام الطائفي الحالي " معطَلَّ بالكامل ، وأنّ بعض الزعماء السياسيين اللبنانيين يتخذون من الطائفية متراساً يقفون خلفه للاتقاء من موضوع المحاسبة او المسائلة بموضوع هدر او غيره ، ولو فُتح ملف أحدهم من هدرٍ أو اختلاس، أعتبر ذلك مسًّا بطائفته، وأعلن أن ذلك خط أحمر ينبغي ألا يقترب منه أحد ، علما ان الفساد لا يقتصر على طائفة دون أخرى ،وأصبحت الطائفية هي المتراس المنيع والحصن الحصين الذي يحتمي به الفاسد كي يتقي مغبة المساءلة والمحاسبة. وبما أن العدالة لا تميز بين فرد وآخر وهي غير متجزأة فالمحاسبة لا تطاول أحداً من الفاسدين في طائفة معينة من دون سواه في سائر الطوائف، لذلك نجد ان قانون الثراء غير المشروع لم يُطَبَّق ولو لمرة واحدة في حقّ أحد الساسة اللبنانيين "الأكارم"، مع أن روائح بعضهم تفوح فساداً ، وانّ ثرائه وثراء زوجته الفاحش والمفاجئ موضع مئة علامة استفهام .

• الديموقراطية متلازمة بشكل مباشر مع تكافؤ الفرص، وهي غائبة في ظل "نظام المحسوبيات الطائقي الحالي" الذي لا يَصل فيه أحد إلى موقع او وظيفة أو منصب بجدارة او كفاءة ، بل يصل لانه "زلمة فلان " و"محسوب على الحزب الفلاني " ، وهذا جوهر الفساد ...

• الديموقراطية تتلازم مع تمثيل شعبي حقيقيّ، وما انتجه الانتخابات النيابية اللبنانية هو فوز ممثلين للطوائف، على حساب التمثيل الشعبي الصحيح.الأمر الذي أنتج نظامًا شبه أوتوقراطيّ، وأصبحت قرارات السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية رهن باتفاق أصحاب المحادل الانتخابية، الذين يتزعّمون أكبر الكتل النيابية، وعددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. إن اتفقوا على قرارأصدروه وإذا اختلفوا تعطل القرارفي كلتا السلطتين.

أمام المعطيات السالفة الذكر نجد أن التصور السائد عن الطائفية في لبنان،خطير وخطير جدًّا، وهو مكمن الفساد ، لأنه يُكرس مفهوم أن الطائفية داخل الدولة هي انعكاس للطائفية داخل المجتمع، وعلى الأفراد القبول بالتعايش داخل الدولة مع ممارسات طائفية عديدة، الأمر الذي يؤدي إلى شرعنة قيام الدولة الطائفية نفسها، بوصفها حتمية اجتماعية أو تعبيرا عن خصوصية محلّية لا يمكن التجاوز عنها من دون ارتكاب مخاطر السير في اتجاه اقتسام غير عادل للسلطة والثرورة المرتبطة بها.

والكارثة أن هذا التصور عمل على تحرير النخبة، في الحكم والحكومة ، من مسؤولياتها تجاه بناء دولة حديثة حقيقية، قوامها مفهوم الحق والقانون، لا تقاسم السلطة بين نخب الطوائف وأرباب الكراسي " والعشائر القائمة،الامر الذي ادى إلى رفع الممارسات الطائفية عن طاولة النقد واصبحت "الطائفية " ذلك "اللاهوت المحرم" الذي ينبغي ألا نقترب منه، لأن التصور الموجود حاليّا وحَّد تماما بين منطق عمل الدولة ومنطق عمل المجتمع الأهلي، ملغيا بذلك أي إمكانية لتصور دولة سياسية ديموقراطية .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى