الأربعاء ٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم صبري هاشم

وطن القسوة .. الوجوه البيضاء

عن أدب الداخل والخارج

منذ الهجرة الثانية الشاملة لمثقفي العراق ، التي بدأت مباشرة بعد حرب الخليج الثانية أو ما تسمى بحرب تحرير الكويت في العام 1991م ، جرى الحديث بصورة تعسفية عن أدب الداخل وأدب الخارج وعن مثقفي الداخل ومثقفي الخارج وتطور الأمر بعدئذ ليشمل ناس الخارج وناس الداخل وأخيراً شملتنا تقليعة مخرفة تصنفنا إلى هاربين نحو الخارج ومقيمين في الداخل . ومثلما انقسمنا إلى طوائف وأقوام وأديان ومذاهب ، وكأن العراق البلد الوحيد في العالم الذي يتأسس على التنوع ويشتمل على " المكونات " التي شطرت المجتمع بقوة وعصفت بحياة مئات الآلاف من الناس الأبرياء ، انقسمنا إلى أدباء خارج وأدباء داخل ضمن كتل كروية صلدة تُدحرج ، إلى أي جهة ، متى ما أريد لها ذلك. ومادام الحديث يجري عن أدباء الخارج فلابدّ من توضيح نُعزّي به النفوس حول هذا المصطلح الملتبس الذي سوّقه البعض ليخلط الأوراق ويمزج الأفكار ويعبث بالعقل السوي قبل كل شيء ويسلبنا حق الوجود علماً أننا لم نكن نسمع عن أدب الداخل وأدب الخارج قبل هذه الهجرة . فأدب الخارج مصطلح مدسوس يراد به كل مثقف يعيش في الغربة " الخارج " وهذا خطأ فاضح . وعليه فأننا نعرِّف أولاً أدب المنفى الذي اعتبره البعض جزءاً من أدب الخارج دون تمييز ، حيث صار أدب المنفى ملازماً لأدب الخارج ، مستدرجاً بذلك عدداً لا بأس به من الأدباء إلى هذا الفخ القاتل . أنا شخصياً لا أقبل أن أكون جزءاً من أدب الخارج المشوّه . وعليه أجد نفسي مضطراً لتوضيح الالتباس ، مضمناً توضيحي بعض الردود على أطروحات واتهامات طالت أدباء الخارج بشقيهم المنفي والمهاجر دون وعي من مطلقيها وتندرج تحت ظلال ذهنية قاصرة وأحياناً ناقمة وحتى متخلفة كأن تعيدنا إلى زهو المراهقة العراقية المعذبة التي لا ترى في أوربا ونسائها سوى وعاء لاحتواء ماء الفحولة الشرقية الساخن الذي يمكنه إخصاب جميع الأرحام في بلاد الغرب برشّة واحدة وتعيدنا أيضاً إلى التحاسد الغجري ، و " الغجري لا يحسد الغجري إلاّ على ارتفاع عدد الزبائن وكمية المراهم والعطورات المستخدمة " ، حين يعتقد العاقل منّا ، فما بالك بالمجنون ، بأن المقيمين في أوربا يحوون المال في أكياس كبيرة وينثرونها فوق رؤوس النساء في أماكن اللهو والخمر وقد " شبعوا نوماً طويلاً وشبعوا ايروتيكياً " فيما أخوتهم يرزحون تحت ثقل العوز والفاقة . فعلى أيّ عالم غريب وخرب سنصحو حين يغادر العقل ؟

أدب المنفى أسسه المنفيون " الذين أُجبروا على المنفى" . أسسه الأدباء الشيوعيون الحالمون بمجتمع خال ، من التمييز بين البشر على أساس العرق والمذهب والمنطقة والقبيلة ، خال من القهر الطبقي والاجتماعي والديني المسلط على الرقاب في كل لحظة . أسسه الحالمون بمجتمع تسود فيه قيم العدالة والحريات والمساواة ودولة القانون . أسسه من نبتوا وتفتحوا على أرض الرافدين والذين نبتوا في تلك الأرض الكريمة وتفتحت أورادهم في الشتات . المُضَحّون ، الصادقون ، الثوريون ، الرائعون الذين فجعتهم الحقيقة السياسية فيما بعد وصدمتهم رغبات القادة وتهاووا بأحلامهم الجميلة من عل فتخلى البعض منهم عن تلك الصفات النبيلة التي حملها لأعوام . أدب المنفى أسسه رجال طموحون دعوا إلى وطن مسوّرٍ بالأمان والفرح والحياة البهية ويسكن لبّه الفضيلة و الجَمال لا تنتشر في ربوعه السجون والقبور ولا تعصف في سمائه رياح الفجائع وروائح الموت . أدب المنفى أسسه الذين ضاقت بهم أرض العراق فرفضهم المكان وخذلتهم شعوب عاهرة راحت تتبعث تحت وهج الدنانير وتحت لهاث السياط . أسسه المعذبون الذين مرّت عليهم أيام سوداء كانوا خلالها يتوسلون مبيت ليلة عند صديق أو قريب هرباً من وجه الجلاد فلم يجدوا .

أدب المنفى أسسه الخارجون من الموت والظلم والسجون والتعسف السياسي ، الهاربون عبر الجبال والوديان وعبر الصحاري على أقدامهم التي أكلتها المسافات ليدخلوا بلداناً غير آمنة ، بلا جوازات سفر ، في أكثر الحالات ، أو وثيقة إثبات هوية . أسسه أولئك الذين ركبوا الجبال والجِمال والبغال وتركوا الأمهات والأخوات والآباء والأخوان والزوجات والأبناء في ذمة الزمن الذي لا يرحم وكان الخوف يلازمهم أينما حطوا الرحال ، أينما أقاموا ، في أرض الشتات . أدب المنفى أسسه الذين رفضوا ثقافة الاستبداد ، التي انتظم تحت خيمتها كل القتلة والانتهازيين والنفعيين والمتساقطين ، وأسسوا ثقافة إنسانية بديلة وكوّنوا لهم رابطة تجمعهم بدلاً من اتحاد بلادهم المتحزب للسلطة وأصدروا مجلاتهم التي لو استمرت لكانت بديلاً رائعاً عن كل خروقات وتفاهات ثقافة الداخل التعبوية . هؤلاء الأبطال فجعتهم المواقف وصدمتهم الحقائق وأفزعهم الدجل الفكري فيما بعد فتنازل البعض منهم ، لضعف في تكوينه الأخلاقي والسلوكي ، عن القيم العظيمة والمعاني الشريفة ولبس ثياب الشيطان ليطلق العنان لنفسه المريضة في أن تنتفع ما تشاء والبعض الآخر أخذته رومانسية الثوريين إلى الجبال ليموت برصاص القتلة والخونة وهو يحلم بانتصار القيم الحضارية السامية والبعض أسكتته الصدمة وأكلت حشاشة روحه الدهشة والبعض صار بطانة لقيادات لا تستحق سوى الإهمال ووضعها مع المهملات من الأشياء الصغيرة لكنها امتلكت المال والجاه والسطوة وتمكنت أو "مُكِّنت" فصارت قيمة كبيرة على أكتاف الضحايا من أشرف وأنبل أبناء العراق .

في المنفى فقست بيوض بعضنا بعيداً عن القسوة والموت والدمار و البطش وسياط الجلاد وعيون السلطة وأجهزة تعذيبها ومخبريها وحزبييها لكن هذا البعض ظلّ يحمل الوطن بين أضلعه . يحمل عبق طلع النخيل في روحه الذي ينهض فيه كلما هبّ نسيم وأينما استنشق رائحة اسم العراق . لا يعرف معاناة الغريب والمنفي إلاّ من عاش الغربة والمنفى أما أولئك الذين تخمروا بثقافة الدكتاتورية ، التحفوا بلحافها وتخلقوا بأخلاقها ، وإن ادعوا غير هذا فهم ضمن سياقها حتماً ، ورضعوا من ضرع نظامها ثم انقلبوا عليها عند الجولة الأولى ليركبوا مركباً آخر مبحراً إلى ساحل الأمان فهؤلاء لا يعرفون للغريب والمنفي معاناة . كان حلمي الوحيد قبل الغزو واحتلال بغداد وسقوطها المدوي أن يُقتص من صدام بالنفي ، بالنفي فقط !! . وها نحن وبعد استرخاء ، البعض ، الآخر " أديب الداخل " على أثر زوال "كابوس" النظام وبعد زوال "طيور الشؤم" ، كما يدعي ، عن سمائه عاد ليتهم الجميع ، هكذا دفعة واحدة وفي سلة واحدة " أدباء الخارج " بأن لهم شرفات " تطلّ على هذا الميدان أو فوق ذاك البار أو قرب المواقع التي تهتم بالأنس والطرب " . هل تبادلني المكان يا سيدي القائل بهذا ؟ أتوسل إليك أن تبادلني المكان . بادلني المكان ليوم واحد وسأترك لك الشرفة والحانة والميدان ودعني ألعق تراب البصرة أو بغداد . دعني أدخل العراق ليوم واحد وأبكي على قبري أبويّ وبعدها خذ العمر إن بقيت فيه بقية . تعال ذق طعم المنفى وذلّ المساعدة التي تُقذف بوجهك مع ألف كلمة إهانة ، هذا ما جنيناه من نضالنا الطويل ، وعلامة سخرية . أرجوك أحمل عني هذا الوزر ولو لساعة . ها نحن " فرسان الخارج" نريد العودة لكن إلى وطن يحكمه العقلاء ، إلى وطن يحترم أبناءه ، إلى وطن لا تتحكم فيه الفتاوى والميليشات وسطوة الأفكار القبيلية والغيبية ، إلى وطن لا نُسأل فيه عن انتمائنا الديني والمذهبي ، إلى وطن بلا دبابات واتهامات : مَن لم يكن منّا فهو إرهابي ، ومن وقف ضد أمريكا المحتلة لبلده فهو إرهابي ، ومن انتقد العملية السياسية فهو إرهابي ، ومن لم يقرأ قصيدة في مدح الحسين والوضع الجديد فهو إرهابي ، ومن لم يغنِ للعراق "الجديد" فهو إرهابي . ومن قال إنّ الدم العراقي ، العربي تحديداً ، يسيل في الشوارع منذ أكثر من ثلاث سنوات فهو إرهابي . نريد أن نعود لكن إلى أين ؟ وها أنتم تكفرون باسم الديمقراطية التي نزلت عليكم فجأة حتى الأنبياء والخلفاء بحيث جعلتم محمداً إرهابياً وأبا بكر الصديق إرهابياً والفاروق العادل إرهابياً ، بل رميتم بأفكار كل المصلحين إلى القمامة . نريد أن نعود إلى وطن حلمنا به لا إلى وطن ممزق معذب تحكمه المفخخات وفرق الموت والعصابات و ديمقراطية سخر منها أرذل الديمقراطيين ، أرجو أن لا يخرج لي ديمقراطي ويقول إن العراق بلد ديمقراطي منذ جلجامش وعاهرته عشتار حتى الغلام الفارسي . نريد أن نعود لكن أين نضع رؤوسنا المتعبة ؟ أ في حجر خليل زاده أو فوق عباءة الحكيم أو على شروال جلال ؟ وهذه الشعوب التي لم توفر لنا ، في زمن السلم ، ليلة مبيت واحدة قبل مغادرتنا المكان ولم تصرخ بوجه الجلاد من أجل عشرات الآلاف من أبنائها الطيبين بل راحت تتعهر أمامه ، هل توفر لنا ليلة مبيت في زمن الحرب والكراهية ؟ أنّى لها أن تفتح ذراعيها لمَن " يتجولون في حانات أوربا وحدائق البلدان العربية " ولا يشعرون بمأساة الوطن . نحن أدباء المنفى لم يبق في أعمارنا ما يجعلنا نتجول في حانات أوربا فلقد تجاوز أصغرنا سن الخمسين بسنوات ونحن أدباء المنفى نحب ارتياد حانات أوربا وأماكن الأنس والطرب ولكن هي لا تحبنا ولا تريدنا . هي لا تحب الجيوب الخاوية ولا الوجوه السمراء والهامات السوداء ولا تحب من اكتهل منا وشاخ . حانات أوربا لا نألفها أو تألفنا وهذا الأمر ينسحب على الشارع الأوربي أيضاً . منذ أكثر من عشر سنوات ، وهذه تجربة شخصية ، أمرّ كل يوم ، ثلاث مرات على الأقل ، في شارع الآبار دون أن ألقي على أحد التحية أو تُلقى علي التحية . منذ عشر سنوات ، لم أجلس مع أوربي أو أدخل حانة أو أذهب إلى ملهى " تهتم بالأنس والطرب والنساء " . لستُ أنا وحيد زمانه إنما أجزم أنها حال تسعين بالمائة من أدباء المنفى .

على أي حال فنحن "طواويس" آخر الزمان ، ولا أظن أنّ طاووس أول الزمان يختلف عن طاووس آخر الزمان إلاّ إذا كان ريش الأول أسود وأبيض مثل التلفزيون ، لم نخذل الوطن لحظة واحدة فلقد خدمناه خدمتنا الإلزامية المقررة علينا ومن أجل شعوبه المتطلعة إلى "الحرية" ! دخلنا السجون والمعتقلات لمرّات عديدة ودفعنا من شبابنا في مواقع النضال والكفاح المسلح ومن أجل مقارعة الديكتاتورية سنوات طويلة وكتبنا في الوطن وعنه أجمل وأرق الكلام وحين حاصره العالم الحصار الظالم وقفنا مع أهله الذين هم أهلنا حتى آخر رغيف اقتسمناه ، وهذه ليست منّة منّا ، معهم . لكن بالمقابل ومنذ ثلاثين عاماً ماذا قدم لنا الوطن الذي سوف "يلاحقنا بحسابه الأخلاقي والاجتماعي والفكري وسيلاحق حتى ظلالنا القاتمة " ؟ ماذا قدم لنا هذا الوطن الذي لا يُعرف عن أبنائه غير القسوة والذي نُدعى الآن للوقوف معه بعد أن أدخلتم إليه كل قذارات الدنيا وكل رعاة البقر في العالم وكل الغجر بل وكل سفلة المعمورة حتى أسقطوا آخر آجُرّة فيه وجعلتم الدبابات وكل مخابرات المعمورة ترعى في جسده ؟ مع مَن نقف ؟ أ مع الأمريكان وبقية الخلق وهم يحتلونه ؟ أ مع السنة أم مع الشيعة أم مع الأكراد ؟ مع من نقف ؟ هل نقف مع المليشيات المتقاتلة ؟ مع مَن منها ؟ أهذه دعوة مخرف أم هي دعوة طائشة ؟ أليست هذه دعوة لئيمة لقبول الاحتلال وأذناب الاحتلال ؟ هذا تحامل على مَن بقي نظيفاً حتى اللحظة الأخيرة ، ويبدو أن هناك مَن لم يعد يتحمل مَن بقيت يده بيضاء ووجهه مشرقاً . لم ندخل وطناً حكمه قاتل فكيف ندخله وقد ترنح تحت سطوة مليون قاتل ؟

لم يقدم لنا أحد ولم نطلب من أحد أن يقدم لنا "جرار العسل ولا عصير الكرز" . أنا لم أر الكرز في حياتي إلى أن وصلت ألمانيا عام 1990 وذكّرني شكله بشفتي حليمة العذارية التي أصبحت فيما بعد إحدى بطلات روايتي " الخلاسيون " . قلت لم نطلب من "الحزانى" ، يا لوعتي عليكم ، أن يقدموا لنا شيئاً سوى أن يتركونا بلا شتيمة ، يتركونا أن نموت بسلام ولا نريد حتى من يواري أشلاءنا الثرى فنحن أدباء المنفى لا ندري كيف سنقبر لقد ظلّت قبور من ماتوا بلا شاهدات دون أن تتقدم جهة "وطنية" أو تلك التي تملك جرار العسل وعصير الكرز بالتبرع فيما نفط العراق يسيل على الأرض ويسرقه كل من هبّ ودبّ من ميلشيات الحكيم والصدر وثار الله والطلباني والبرزاني وأمريكا وبريطانيا ووو، والوطن الذي سيلاحق "ظلالنا القاتمة" لم يفكر بوضع شاهدة على قبر . قبل أيام صرخ أحدهم " مناضل احتلالي " مطالباً حكومته " الوطنية " التي تحكم وطناً كامل السيادة : أن لا تنقلوا رفات هؤلاء " أعداء أمريكا " ، وهم مجموعة من أشرف مثقفي العراق ، لتدفن في الوطن . لُعِنتِ من جثة فلتُحرقي ويُنثر رمادك في الهواء . هذه وصيتي يا أحبائي . هذه وصيتي يا زوجتي العزيزة احرقيها ولا تطأطئي رأسك لخائن وعميل .

أدب المنفى أسسه المنفيون الذين خرجوا من العراق في الفترة المحصور من نهاية العام 1978 حتى نهاية العام 1981 . خلال هذه الفترة اكتمل منفى الشيوعيين ، وكل قادم ما بعد هذا التاريخ لا يعد قدومه غير هروب من الحرب التي اشتعلت في تلك الأيام . لم يأتِ سوى أنفار معدودين ليسوا من دين الشيوعية وإن ادعوا !
أدباء في المنفى ، لم يتواطئوا مع محتل . لم يغردوا لغاز . لم يبيعوا ضمائرهم لأحد . حملوا العراق في أحداقهم . ذادوا عنه ، عن شعوبهم . قارعوا الظلم والدكتاتورية والاستبداد . جاعوا من أجل غيرهم . عملوا في أكثر الأماكن قسوة عليهم . جندوا طاقاتهم لقول الكلمة الصادقة . هؤلاء من ذوي الوجوه البيضاء مازالوا أحراراً في أرض الشتات ، في المنافي . هم على قلتهم يشكلون صيحة حقٍّ يعمل المبغضون على إضاعتها ونحوهم تتوجه سهام الكراهية لأنهم أنقياء حتى الرمق الأخير ولأنهم خارج المجتمعات المدنسة ، ولأنهم بلا كعب آخيل .

أدب المهجر ، ويشكل مع أدب المنفى ما يسمى بأدب الخارج ، وينتظم تحته كل أولئك الأدباء الذين وصلوا إلى بلدان الشتات بعد حرب الخليج الثانية أو ما يسمى بحرب تحرير الكويت في العام 1991 م . غادروا العراق ليس بسبب خلاف سياسي مع السلطة ، فجلّهم منها ، أو لصراع فكري معها أو بسبب ارتكاب بطولة ما ، إنما بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرضه العالم على العراق قبل وبعد الحرب والذي استمر حتى احتلال بغداد في 9 نيسان 2003 . خرجوا بسبب تردي الحالة الاقتصادية و" بعضهم " لانحسار هبات النظام وانقباض أيادي صدام عنهم وهم على الأغلب بعثيون ساهم عدد منهم بتمجيد شخص صدام حسين ومدح نظامه فكتبوا عنه القصائد ومجّدوا حروبه بتأليف روايات ونصوص لا قيمة فنية فيها وهم لم يحرموا من زيارة العراق ولم يُحجر على نتاجهم من قبل النظام وظلّوا يتواصلون مع أهلهم وأصدقائهم ومؤسساتهم في الداخل بدون مساءلة من أحد على العكس من أدباء المنفى الذين غيّبوا تماماً ، ومنهم مَن كان شيوعياً متلهفاً للخلاص من سطوة الدكتاتورية وكان قد دُفن حيّاً في منفى اسمه " الداخل" ثم طحنته آلة البعث الهمجية طحناً وأجبرته على الابتعاد عن العمل السياسي بعد أن أشبعته ذلاّ وفقراً وربما كان ، من الذين خرجوا في هذه الفترة ، رجال أمن ومخابرات أُرسلوا إلى بلدان الشتات ليندسوا ويخربوا الثقافة المُؤسسة في الخارج وقد أفلح بعضهم بتهشيم العلاقات بين الناس ولما يزل الستار قائماً بينهم وبين أدباء المنفى حتى جاء الغزو ومن ثم الاحتلال ليلتقي هؤلاء ببعض أولئك على الوليمة أو في الخيانة وكانت فرصة للبعثيين منهم من أن يلتصقوا بالمحتل أو يدخلوا في أحزاب جديدة بعد أن يغيروا جلودهم ويبعدوا عنهم تهمة البعثية التي كانت ملصقة بهم من قبل ، فلقد أنقذهم من أصدر قرار اجتثاث البعث الذي اعتبر البعثي هو ذلك العضو الذي يحمل الدرجات الحزبية الثلاث والتي هي عضو فرقة وشعبة وفرع متجاهلاً أن أعتى القتلة وأشرس المجرمين هم من درجات أدنى من هذه ، عندئذٍ تحولوا من ثقافة الاستبداد التي مارسوها حين كانوا في أحضان النظام إلى ثقافة الاحتلال التي تعني شيئاً واحداً في نهاية المطاف ، ليدخلوا في الفتنه ويدافعوا عنها مع بعض من أدباء المنافي الذين رُغّبوا بالمال الذي سال له لعابهم وهم يعلمون الحكمة التي تقول : إمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم. هذه الفتنة التي ستأتي على كل شيء ، وإنْ استمرت ثلاث سنوات أخرى ستأتي على وطن من أجمل الأوطان عندئذ سيكتب هؤلاء " الأفذاذ " مرثية بلادهم الخالدة . هكذا نحن إذن أمام أدباء مُسُوخ ساووا بين الوطن والديكتاتور وهم يعلمون أنّ العراق لا يساوي شخصاً ، مهما بلغت عظمته ، ولا يساوي حزباً أو طائفة مهما تضخمت ، لكننا مع هذا لا نعمم رأياً أو على الخلق نطلق النعوت فلقد غادر العراق ، في نفس الفترة ، أدباء رائعون ربما لم يتورطوا في أمر دنيء أو في فتنة سياسية وكانوا على درجة من الخلق والنزاهة وهم منتشرون في الشتات .

أدباء في "الداخل" صامتون لم يقولوا كلمة ضد الظلم والاستبداد ، لم يدلوا بدلو إزاء أي قضية وطنية ولم يقولوا كلمة ضد غاز ومحتل حتى لو كانت حمالة أوجه . هؤلاء شياطين خرساء .

لقد تابعنا خلال سنوات المنفى أكثر ما كتب في الداخل شعراً ونثراً وتواصلنا مع كل جديد وكنا نعلم عن كل إصدار حتى لو لم نقرأه فكنا ، رغم الحصار المفروض علينا من " النظام " ، على بينة من كل اسم جديد يظهر في ساحة الداخل الأدبية فهل كنتم على دراية بنتاجنا يا أحبابنا في الداخل ؟ ونحن نعلم أن أدباء في الداخل لم يقدموا شيئاً مهماً وخاصة في سنوات الحرب أو ما سمي بأدب التعبئة الحربية ومع هذا فبعضهم تعلّم ركوب الموج فهو يعمل في مؤسسات صدام التي لا تُعطى إلاّ للبعثيين ، وأنا لستُ ضد البعثيين العقائديين المخلصين لعقيدتهم ، الصداميين المنافقين كالمواقع الثقافية ووسائل الإعلام ويدعي أنه ليس مع النظام ليركب موجة أخرى ويصبح مسئولاً في دولة نصّبها المحتل . لكن هناك بالمقابل أدباء في الداخل صمدوا حتى الشهقة الأخيرة . صمتوا اتقاء للشرّ وصوناً للنفس . كَفّوا عن الكتابة في الزمن الاستبدادي وخرجوا في الزمن الرديء ليقولوا كلمتهم بوجه الاحتلال . هؤلاء وجوه بيضاء وإن غشاها ليل عابر.

أدباء من "الداخل" ومنهم من صار في "الخارج" لعقوا في طبق الذلِّ الصدامي فسُطّرت أسماؤهم في قائمة طويلة ، " رغم قسوتها على آخرين لم يسهموا في الوليمة " ، جعلتهم ينتفضون مثل كائنات صغيرة تصارع الاختناق وأدباء من الداخل والخارج بشقيه المنفي والمهاجر جاءوا مع الفتح الأمريكي ، المبارك من المعارضة السياسية ، بالمئات ومسحوا حذاء السيدة كونداليسا رايز .

أطالب ، رحمة بأجيالنا القادمة ، بفتح قائمة جديدة لأكبر عدد من الأدباء " والمثقفين " الخونة في التاريخ . حيث لم تشهد أمة من الأمم هذا العدد من الأدباء الخونة . إنها أكبر ظاهرة خيانة في التاريخ ارتكبها أدباء العراق بحق وطنهم . يا الله أيّ كارثة حلّت بأرض الرافدين ! . لقد ساهم هؤلاء بتبرير الموت الذي حصد ومازال يحصد الأبرياء منذ أكثر من ثلاث سنوات. هؤلاء لا يقبل منهم اعتذار ولا حتى توبة جماعية .

مازلتُ في صلب الموضوع فالسادة الذين حضروا من "الخارج" واحتفى بهم وبمنجزهم الإبداعي "أدباء الداخل" ، يتعرضون الآن للملامة من قبل المحتفي بسبب عودتهم إلى الخارج ويجري تعييرهم لا بل نالتهم سخرية مرّة في بعض كتابات "أدباء الداخل " فما اعتقدوه كرماً كان صدقةً ومنّة عليهم ، لأنهم بعد الحفاوة والتكريم غادروا الوطن ولم " يمكثوا " إلى جوار زملائهم في وطن يحترق !! . عليهم إذن أن يتوازنوا في الوقوف ، ونحن نقرّ بنزاهة شخصيات مهمة منهم ، إن هم بلا كعب آخيل فالداخل ليس كالخارج والخارج ليس واحداً ، ولكن هيهات فالداخل لم يحتفِ إلاّ ببعض الذين أيدوا الاحتلال أو من الذين آثروا الصمت ، اللهم إلاّ ما ندر ، فليحصدوا إذن ما زرعوا !

لا يستقيم الحال في العراق ما لم ينزع العراقيون ، وعلى رأسهم رجال الفكر والثقافة ، إلى الحكمة ، والحكمة لا تُطلب إلاّ من أصحاء العقول فهي لا تطلب من شيخ مخرف ولا من شاب طائش .

على ( بعض ) أدباء الداخل أن ينتبهوا إلى وطن ينفرط من بين أصابعهم كحبات المسبحة. عليهم أن لا ينشغلوا بشتم ضحاياهم في "الخارج" (المنفى) ويضيعوا العراق .

فيا ( بعض ) أدباء الداخل حافظوا على وطنكم ولا تسايروا الموجة فلقد رأيتم ما حلّ بصدام وأدبائه.
يا ( بعض ) أدباء الداخل تأكدوا أنّ لا ثقافة تحت ظلال دبابات الاحتلال مثلما لا ثقافة تحت ظل الدكتاتورية وها أنتم رأيتم بأم أعينكم ثقافة البؤس التي لا قيمة لها. يا ( بعض ) أدباء الداخل لم نسمع عنكم إدانة للاحتلال والاحتراب الداخلي ، مثلما لم نسمع من قبل إدانة للطغيان ، ولم نقرأ إلاّ عن تسرب بعضكم من حزب البعث ليصطف مع أحزاب العملية السياسية . يا ( بعض ) أدباء الداخل، العراق أكبر من كل الكبائر.

أنا اخترت المنفيين في المنفى والمنفيين في الوطن . لقد وجدت بين هؤلاء وبين أولئك وجوهاً بيضاء .

عن أدب الداخل والخارج

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى