الثلاثاء ١٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم محمد البوزيدي

من يوميات الدخول المدرسي

إهداء: إلى علية الصامدة في الجبل

للجبال رنين خاص / صمت عميق لا يخترق إلا من أصوات الرعد الرهيبة التي اقترب موعدها مع دنو موعد أكتوبر، فضاء استثنائي للتأمل والحلول في الذات ، متسع للإنسكاب والتسكع في العوالم الخفية التي يزيدها بياض الثلوج الموسمية التي اقترب أوانها رونقا خاصا ،أفق مفتوح لفضاءات مغلقة تصادر حق الذات في التفسح والتفاؤل والبسمة الجميلة .

وعلى الوادي الماثل أمامها يصدح الخرير بالأصوات العذبة:هل هي ابتسامة؟ أم أنين صامت على طول المسافة وعلى الهجران والافتراق، إنه يجري...لا يتوقف ، لكن إلى أين يذهب ؟؟وسيتركها وحيدة تتأمل اختفاءه ؟ وحتى متى ؟ يغادر دون كلمة وداع بعدما حل دون استئذان .

وهكذا كان على ليلى أن تتوقف لحظات لتفهم ماذا يجري أمامها ، بعد 10 دقائق قفزت من شرودها الرومانسي، لقد قطعت مسافات لمدة 4 ساعات في حافلة مهترئة يسوقها سائق يدخن الكيف علانية في *سبسي* متهالك طوال الطريق، ويتحدث عن المخدرات كمن يتحدث عن سلعة ضرورية للعيش اليومي ..

كانت متضايقة من أثر الدخان الذي اخترق المكان رغم فتح كل النوافذ ، ولم تتنسم هواء نقيا إلا قبل لحظات ، حين نزلت قال لها السائق الذي تجاوز عقده الخمسين بسنتين وبصوت من يشفق لحالها : من هذه الطريق ستجدين الفرعية المعلومة وهي تبعد ب 8 كلم ستصلينها في 20 دقيقة وكالخارج من سجن خاص تنفست الصعداء إذن. وأخذت تشق الطريق مسرعة خشية حلول الظلام فلا يبدو أي بارقة أمل ،فلا سيارات تجوب المكان ولا أعمدة كهربائية..تضيء العتمات الراهنة التي ستجد نفسها أمامها بعد ساعة، ورغم كل الوصايا نسيت *البيل//المصباح اليدوي * الذي نصحوها بأخذه كوسيلة تربوية مهمة للتعايش والتفاعل مع القرى النائية التي لم تسمع عن تنمية ما سوى في المذياع .
كانت تمتلك معلومات عن المدرسة : تبعد المركزية عنها ب 10 كلم ،أهلها كرماء كعادتهم ،المدير لا يحضر إلى هناك إلا مرة كل شهر ليستمتع بمأدبة عند شيخ القرية الكريم الذي يوجد ابنه في فرنسا والذي يوفر له كل موارده المالية الذي تجعل موقعه قويا في البلدة ،لا مرافق عمومية هناك لكن شبكة الهاتف النقال تغطي الفضاء شرط أن تكون بطاقتك من عيار جوال...

ورغم ذلك ومعاناة أخرى فهي محظوظة في تعيينها الأول مقارنة بتعيينات أخرى.
كانت حقيبتها ثقيلة نسبيا تزن 10 كيلوغرامات لم تضع فيها سوى قنينة الغاز الضرورية، وقطعة لحم ، ومراجع ورواية ومجموعة قصصية للفقيدة مليكة مستظرف ، وأقلام ونقود احتياطية لكل ما قد لا يخطر على البال ، لم تنس الأداة الضرورية لشحن بطارية الهاتف النقال من محرك الكهرباء بالقرية الذي يشتغل لساعتين، أما التعيين فمازال في الجيب .
كانت تعاني إرهاقا خاصا لذلك كانت تتوقف كل 50 مترا للإستراحة ، فرغم أنها استعدت نفسانيا لكل ما حكته زميلاتها عن التعيينات في الأماكن النائية فلم تكن تتصور أن الرحلة ستستمر 4 ساعات وأنه سيقذف بها في هذه المنطقة النائية من شمال المغرب ، ورغم ذاك تتذكر نصيحة ومقولة أمها أنها محظوظة فالكثيرات من زميلات دراستها ما زلن عاطلات ،وهذه العطالة تحيل على عطالة أخرى أخطر ......

أما ليلى فمحظوظة من ناحيتين : فهي موظفة عمومية ستضمن أجرة وتقاعدا "محترما "، كما أن الوظيفة مسلك آمن للخروج من جحيم العنوسة الذي اكتسح المجتمع المغربي و اخترق أغلب الفتيات فامتص طراوتهن فأصبحن مثل تين مجفف في خريف شارد ، ولقد تهافت عليها زملاء في المركز بنية حسنة لكنها مازالت ترفض . فالطموح أقوى للتزوج بأصحاب مهنة أخرى غير التعليم تجنبا لعد التيهان اللامتناهي في الفرعيات وصداع الالتحاقات بالأزواج و..و...فهي*سلعة*مضمونة النفاذ،لكن وجدت نفسها في هذه اللحظات تطرح السؤال هل تكفي العطل ليتقدم لها الفارس المقبل فمن سيراها ليقترح عليها الزواج ........؟؟؟؟؟؟؟؟

في لحظة معينة ومن حسن حظها توقف أحد الأطفال الذي كان ذاهبا بدوره لذات القرية، سلم عليها دون أن يمد يديه –فقد حكوا لها أن الجميع محافظ جدا حتى في أبسط الأمور- ،عرض عليها الركوب مع حقيبتها الذي يسمونه هنا–الموزيط- قدمته له واعتذرت عن الركوب رغم حاجتها للإستراحة.

أخذ الإثنان يشقان الطريق الوعرة في صمت عميق ،لم تدر كيف كسرته لتسأل عن الدوار، فانبرى يحكي لها ببراءة خاصة : مازال أمامنا 15 دقيقة من الطريق. لقد حضر المدير قبل يومين وأخبرنا بمعلمة قادمة جديدة ، ففي المدرسة 4 معلمين وقسمان ، كانا فضاءين لعرس بقل أيام
ولتتعمق أكثر سألته:هل لديكم متاجر ؟ لم يفهم حتى أعادت الجملة وشرحتها له فقد نسي اللغة العربية التي كان يدرسها منذ شهرين .
  آه... نعم هناك واحد يبيع للمعلمين بطائق تعبئة الهاتف والسجائر وقنينة الغاز..ويتكلف بإحضار بعض الأشياء بناء على طلبهم أما الخبز والماء فتلك مهمتنا يا أستاذة.

  -وأين يسكن هؤلاء المعلمين ؟
  في المدرسة بيت واحد يسكنه معلمان أما المعلمات فتسكنان في منزل الشيخ، إنه إنسان طيب...

كانت تحاول أن تتصور وضعها الجديد منذ الغد ،لكن بعد برهة صاح الصغير :ها قد وصلنا ،حينها خرجت العيون التائهة في كل مكان لتستكشف الضيفة الجديدة على القرية .
وجدت الشيخ في استقبالها ..رحب بها وأدخلها للمنزل وقدمها للنساء اللواتي تحلقن حولها في جلسة استجواب/استنطاق أولية شملت الاسم والفصل والأصل والهوايات و..و..و...و.....وحين أحست إحداهن بتضايقها من كثرة الأسئلة أغلقت باب الكلام بأن ختمت الجلسة : مرحبا بيك على سلامتك ....مثلك كانت المعلمة اللي فاتت ظريفة بحالك .....
أحست ليلى بأن هذه الشهادة الأولية نجاح خاص في اقتحام عالم شريد يدقق في كل الأمور...

بعد لحظات كان موعد العشاء قد حل ،وماهي إلا لحظات حتى كانت خادمة من خدم المنزل ترافقها لبيتها الجديد ، لم تكن الساعة قد تجاوزت السابعة والنصف مساء وهو موعدها المعتاد للتفسح في المدينة فإذا به يصبح توقيتا جديدا للنوم.
جلست تتأمل الجدران الطينية التي أحاطت بها حاولت فهم ما يجري لكنها فكرت في اغتنام الوقت حتى لا ينقطع الكهرباء .
استلقت مرهقة ،أغمضت الأجفان ،لكنها رفضت، فالإرهاق بلغ مبلغا هائلا لكن الأعين بقيت مفتوحة على الآفاق كانت تتذكر وصايا الصباح قبل أن تنطلق من منزلها ووصايا/ عليمات أخيها خالد المفترض التقيد بها ولو ضد إرادتها الحرة : نساء الدوار محافظات فلائحة الممنوعات ستمتد لتشمل أشياء عدة ،لا للسراويل الطويلة ،لا للحديث مع الرجال إلا عبر الأطفال كقناة تواصل ، عدم الضحك كثيرا ....عدم المعارضة ولو ضد المنطق العام ..........
أضافت أمها : قد لا تتفقين مع هذه الأمور لكن هذا هو قانون العمل بالمناطق القروية....وإلا....

لم تدر كيف اغرورقت عيناها بالدموع، كانت تود اطمئنان عائلتها على سلامة الوصول لكن بطارية الهاتف فقدت حرارتها.....تذكرت أن أمامها موسم كامل من....والعذاب الخاص ...
طبعا ستكون في سجن خاص ، فجأة تذكرت قول أمها أنها محظوظة ، حبست الدموع التي لم تعهد أن تنزل من مقلتيها إلا في حالة الفرح لكن الدموع انضافت بغزارة ..
قد تنضبط مؤقتا لكل الممنوعات.... لكن أسئلة أخرى لن تتحمل فأين الجرائد ؟أين ستبحث عن المواقع التي ألفت ارتيادها ؟أين دربها بين هذه الدروب ؟

لم تدري كيف تساءلت كذلك: هل سأطلق الورق والقلم أم ماذا ؟؟
هل سيبلعني الفضاء أم سأنتصر عليه ؟

في لحظة انتفضت من تأملاتها لقد صممت على المقاومة باستغلال بحر الاوقات الميتة بكتابة روايتها الجديدة التي لم تجد متسعا من الوقت لكتابتها وسط روتين الحياة اليومية بالمدينة.....

إهداء: إلى علية الصامدة في الجبل

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى