الأربعاء ٢٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦

العلويون في تركيا.. الإسلام التركي والعلمانية النابذة

عقيل محفوظ

العلوية، وهذا تعريف مؤقت، هي أحد المذاهب أو المدارس الدينية في الإسلام، وتمثّل تسمية <علويين> غطاء لعدد كبير من الجماعات الدينية الشيعية، ويشكلون (5203) من السكان. معظم العلويين هم إثنياً ولغوياً أتراك انحدروا من وسط وشرق الأناضول وأطلقت عليهم عدة تسميات من قبيل القزلباش (Kizilbash) والبكتاشية (Bektashi) والتهتاجية (Tahtaci) فضلاً عن تسميات أخرى لها طابع إثني مثل الزاز (Zaza) إلخ، ويشمل مسمّى العلوية جماعات عدة متباينة مثل: الأتراك والعرب والأكراد والتركمان (Turkomans) واليورك (Yoruk) والتهتاجي (Tahtaci) وتختلف نسب توزعهم الإحصائي بين الانتماءات المذكورة، غير أن المتفق عليه أن أكثرهم من الأتراك ويليهم الأكراد. ويواجه العلويون مشكلات عديدة، ذلك أن مفهوم الهوية لديهم غير محدّد أو متفق عليه بينهم، كما أن التوزع أو التنوع الإثني العرقي واللغوي يُوَسِّع دائرة الجدال الداخلي بينهم (وفي تركيا عموماً) حول أولوية الانتماء هل هي للأساس الديني أم للأساس الإثني؟

وقد واجه العلويون إقصاءً جغرافياً وسياسياً وبيولوجياً في فترة الدولة العثمانية التي لم تعترف بهم، بل قامت بحملات منظمة ضدّهم خلال عدة قرون، وقد دفعهم ذلك إلى تبني وتطوير نظام عقيدي وسلوكي بهدف الحفاظ على وجودهم الأمر الذي وصل بهم تاريخياً إلى طقوس دينية وتجليات ثقافية تختلف قليلاً أو كثيراً عن الطقوس الدينية والثقافية المعروفة تقليدياً في المجال الإسلامي.

مثلت الحركة الكمالية نقطة تحوّل هامة بالنسبة لهم، إذ أيدوا النظام العلماني للدولة الذي منحهم لأول مرة فرصة معاودة الاتصال بالبيئة الاجتماعية والسياسية المحيطة بهم، وأمسوا مواطنين كغيرهم، ولكنهم بحسب تقييمهم مازالوا مواطنين من الدرجة الثانية، لأن السياسة العامة تُمارس تمييزاً ضدهم في قضايا كثيرة على صعيد فرص العمل والإنفاق العام والخدمات ومواقع الإدارة، الأمر الذي دفعهم نحو اليسار السياسي. كما اتجه كثير من العلويين لبناء أو إعادة بناء هويتهم الخاصة في ضوء المفاهيم اليسارية والماركسية، أو لإحياء هوية دينية، وليس بالضرورة هوية إثنية بذاتها، يدفعهم إلى ذلك تنامي تهديد الأصولية الدينية السنية وضعف العلمانية ومحاباة النظام السياسي والدولة لقوى الإسلام السياسي على حسابهم، ولكن ثمة عامل أكثر حيوية أو جدية في الاتجاه نحو إحياء الهوية وهو ثورة المعلومات وانخراطهم المستمرّ والمكثف بالعالم.

لا تعترف الدولة بالعلويين كجماعة دينية، وبالتالي فليس لديهم، كعلويين، صلات جوهرية مع المؤسسات الرسمية، ولكن ثمة استثناءات إذ تذكر الباحثة إيما سنكلير ويب (Emma Sinclair Webb) أن المسؤولين الأتراك يشاركون منذ فترة قصيرة في الاحتفالات الدينية للعلويين، خصوصاً في إحياء ذكرى <حاجي بكتاش> وهي <أكبر حدث منفرد عند الأقلية العلوية في تركيا>، تقول سنكلير ويب:
<في السنوات الأخيرة ولا سيما بعد الأحداث المأساوية التي شهدتها سيفاس في تموز/يوليو (3991) دأب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وممثلو الأحزاب السياسية الرئيسة على حضور هذا النشاط الذي يستمر ثلاثة أيام بانتظام. ومن خلال التغطية الواسعة التي يحظى بها من وسائل الإعلام الكبيرة... ارتقى النشاط بمعنى ما إلى مصاف <الوطني>، وهي عملية تمثل جانباً واحداً من تنامي حضور العلويين والعلوية في الحياة العامة في تركيا الحديثة>.

ولكن مع ذلك تُعتَبَر المساجد وأماكن النشاط الديني الأخرى الخاصة بهم ك<بيت الجمع> غير قانونية من وجهة النظر الرسمية، وفي ضوء ذلك حاول عمدة اسطنبول عن حزب الرفاه (السابق)، بصورة غير مباشرة، إغلاقها! وعلاوة على ذلك، فإن الحكومة لا تقدم أي معونات أو مرتبات لرجال الدين والمؤسسات الخيرية الدينية للعلويين، وليس لديهم أي ممثل في إدارة الشؤون الدينية التي تمولها وتشرف عليها الحكومة. وهكذا فإن العلويين يفتقدون للحماية القانونية لحقوقهم أكثر من الجماعات الدينية الأخرى غير المسلمة، ومصدر القلق الأساسي لديهم هو عدم توافر الإرادة السياسية والقدرة لدى السلطات للاعتراف بهم كجماعة دينية وحمايتهم من المضايقات وأشكال الإساءة التي يتعرّضون لها من قبل جماعات التطرف الديني والمذهبي.

الهوية

تطرح الهوية العلوية نفسها جزءاً من الهوية الكلية للمجتمع والدولة في تركيا، ولذا فهي لا تعتبر نفسها هويةً كلية أو بديلة للهوية العامة أو الهويات الفرعية، وهي لا تُعارض المشروع العلماني من حيث المبدأ. وقد كانت المسألة العلوية من المسائل <المسكوت عنها> في السياسة التركية لفترة طويلة، ولم يتكرر ذكرها إلا في سياق توتر العلاقة بين الإسلام والدولة كون ذلك يحيل، حسبما درجت وسائل الإعلام والكتابات السياسية، إلى المسألة المذهبية في تركيا، خصوصاً أن النسيج الإسلامي مكوّن من جماعتين دينيتين رئيستين هما السنة والعلويون. وحتى فترة قريبة، لم يُنظَر إلى الهوية العلوية في تركيا كحالة مذهبية، وإنما كحالة سياسية علمانية، لأن العلويين نشطوا مع الحركة الكمالية في لحظتيها الرئيستين لحظة حرب الاستقلال ولحظة بناء <الدولة الأمة>، وقد أصبح العلويون منذ ذلك الحين مؤيدين شديدي الحماس للعلمانية السياسية. وسبق أن ذكرنا أن الهوية العلوية هي هوية دينية في سياق الإسلام الشيعي، وهذا يُحيل بصورة مباشرة إلى فرضية أو واقع التنافس العلوي السني في تركيا بدلاً من صيغة التنافس أو الصراع العلماني الإسلامي، وهي الصيغة الأكثر شيوعاً، على الرغم من أن الصيغة الثانية تحيل إلى الصيغة الأولى، لدى المتشددين على الأقل. وسيكون من المهم القيام بمراجعة أولية للكلام السابق، ذلك أن الحال تتطلب توسيع قاعدة الهوية ومصادرها فلا تقتصر على الشيعة أو على كون العلوية طريقة صوفية بالأساس تجلت بصور شتى في تركيا وغيرها. إذ تتحدث بعض الدراسات عن أن العلوية تعود إلى أصول ثقافية شامانية (Shamanism) في البعد أو المعنى الاجتماعي على الأقل، وهو ما هيأ لها الارتباط بأصول مشتركة أو <واحدة> مع الأتراك، وقد ذكرنا سابقاً أن أكثر الجماعة العلوية في تركيا هي من الأتراك. وذهب المنظر القومي التركي ضياء كوك آلب (Zia Gokalp) (6781 4291) إلى اعتبارها <الدين القومي للأتراك>. وقد برزت المسألة العلوية في إطار سياسي وأصبح من الصعب تغيير الصورة، وتتجلى الرؤية الإيديولوجية من خلال الدراسات التركية التي تحدّدها وفق الخطوط العامة التالية:

 تأكيد فرادتها في إطار الإسلام أو اعتبارها مدرسة تأويلية وغير معترف بها من قبل المذاهب التقليدية في الإسلام.
 تعريفها وتأكيد مطابقتها للعلمانية التركية.
 تعريفها كنظام قيم فلسفي إنسي، وإيديولوجيا لا دينية (Nonreligious)، ببعدها الفلسفي الصوفي، حسبما يفعل الدارسون الإنسيون (Humanists).
 قراءتها قراءة ماركسية وتعريفها بالأبعاد الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية حسبما يفعل الدارسون اليساريون الماركسيون.

الإسلام التركي

ومن الملاحظ الحضور المبالغ فيه للبعد (أو المعنى) السياسي في تحديد هوية من المفترض أن تكون دينية وصوفية بالأساس، ويبدو أن لذلك مبررات تاريخية، لا تخصّ الجذر الثوري للإسلام الشيعي فقط، وإنما أيضاً مبررات تخصّ الأتراك أنفسهم ذلك أن حاجي بكتاش ولي (Haci Bektaci Vale) الذي تُنسب إلية شريحة كبيرة من العلويين وتُعرف باسم البكتاشية (Bektasi)، كان قائداً ثورياً، وهو الذي حمى الأتراك من أن يتعربوا (Arabization) أو أن يصبحوا إيرانيين (Iranization) وثمة من يعتبره قديساً ومبشراً بالإنسية الدهرية أو العلمانية، وهو ما أعطى طريقته انتشاراً واسعاً من البلقان إلى آسيا الوسطى. وتتعدد الآراء بشأن الهوية العلوية التي تعتبر هوية مركبة متعددة، سواء في بعدها الديني الإسلامي والثقافي الآسيوي الشاماني والدهري أو في بعدها التركي، حسب ما تؤكد الخطابات القومية التركية.

إن الهوية العلوية على الرغم من أبعادها التركية التاريخية، إلا أنها سابقة على التشكل القومي التركي، إذ كان ثمة دين ومجتمع علوي قبل ذلك، كما أن ثمة خصوصية ثقافية للهوية العلوية تميّزها عن الإسلام التقليدي. وقد طوّرت الجماعة العلوية في الأناضول، في بعض الحالات، طقوساً وشعائر وأنماطَ سلوك محلية واعتقادات تتمثل عناصر من أديان وثقافات وحضارات عديدة، وهذا أمر يمكن تفهمه على اعتبار أن الأناضول كانت تتقاطع فيها أديان وثقافات كثيرة.

إتجه العلويون إلى إعادة تعريف وتحديد هويتهم، تجلياتها على الأقل، حسب تغير الظروف التاريخية للإمبراطورية العثمانية وتركيا الجمهورية. وهذا يعني أن تشكلهم كان يستجيب لتغيرات سياسية بصورة واضحة، ولذا فقد تناول الدارسون الهوية العلوية، كما ذكرنا، كمصطلح سياسي يرتبط بمشروع تركيا كدولة أمة وليس كدولة <ملل>، لأن نظام <الملل> لم يكن يعترف بها. وإذن، فقد تطورت الهوية العلوية مع ظهور القومية في الإمبراطورية العثمانية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث حاول المثقفون تمييز الأتراك عن العثمانيين من خلال كشف <الإسلام التركي>، وبعد إعلان الجمهورية التركية اعتبرت التنظيرات القومية والدولتية العلمانية أن العلوية (Alevilik) هي نموذج للإسلام القومي المعلمن (Secularized)، ولكن تزايد الاستقطاب السياسي في مرحلة الستينيات والسبعينيات فأصبحت الهوية العلوية يسارية الطابع، وتبنى كثير من العلويين الإيديولوجيا الماركسيةَ في مواجهة إيديولوجيا اليمين القومي المتطرف والإسلام السياسي الصاعد، وشهدت الصراعات درجات عالية من العنف والدموية توّجها الجيش بانقلاب عسكري وبسياسات إثنية متسلطة. وقد شكلت الانقلابات العسكرية المعادية لليسار، خصوصاً انقلاب (0891) ذا الطبيعة الدينية الواضحة صدمة للعلويين العلمانيين الذين شعروا أن الدولة تتأسلم بصورة متسارعة، وبالتالي فهي تضطهد اليسار لأسباب تحال إلى الأصول الاجتماعية والمذهبية لأتباعه، وليس فقط لأسباب سياسية وإيديولوجية! وقد لاحظت كاثرينا رودفيري (Catherina Raudvere) طبيعة التجاذبات السياسية في تركيا وتداعياتها على مسألة الهوية في دراسة لها عن مدينة اسطنبول، وتعتبر رودوفيري أن الهوية العلوية تتطور في اسطنبول بسبب ظروف سوسيوسياسية، إذ تتنافس المنظمات العلوية والسنية في الأحياء الفقيرة والمَهَاجِر المحيطة بالمدن لملء الفراغ الإيديولوجي من خلال شبكات دعم وعلاقات مادية وخدمية وإيديولوجية. وهذا يعني أن الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية والضغوط السياسية من قبل اليمين والمؤسسات الأمنية والإسلام السياسي تدفع الهوية العلوية للتشكل بصورة أكثر حذراً وتوتراً، ويبدو أن ثمة اتجاه لإعطاء الهوية بُعداً دينياً وثقافياً أكثر، بعدما شعر العلويون بتغيير طبيعة الدولة وتراجع اليسار وهزال العلمانية وتصاعد الأسلمة، الأمر الذي يفسر اهتمامهم بإنشاء مراكز بحثية دينية وثقافية ومؤسسات في الشتات (في أوربا) تقوم بدراسة العلوية، فضلاً عن اهتمامهم بتكثيف جهودهم وحركاتهم المطلبية بشأن الهوية وتغيير السياسة العامة تجاههم وإعطائهم وضع الجماعة الدينية المعترف بها، والإنفاق على مؤسساتهم الدينية وتشكيل هيئة شؤون دينية على غرار هيئة الشؤون الدينية الإسلامية السنية أو المشاركة بها.

جدلية التوحّد الانقسام المذهبي

يبرز الجدل والصراع المذهبي في تركيا بين الجماعتين الكبريين وهما السنة والعلويون، ولكن ذلك يتخذ أحياناً مسمّى الصراع بين العلمانيين والإسلاميين وحتى بين اليسار واليمين، خصوصاً أن الجماعة العلوية تتبنّى بصورة واسعة الآراء العلمانية واليسارية في حين أن الجماعة السنية تتبنّى بصورة متزايدة الآراء الدينية والمحافظة، وقد تجلى ذلك الصراع بصورة واضحة في فترة حكومة <الجبهة الوطنية> (13 آذار/ مارس 5791) بزعامة سليمان ديميريل وبمشاركة ألب أرسلان توركيش (Alparsalan Turkes) حيث مارست الحكومة والقوى الدينية السنية المتطرفة أعمال عنف ضد العلويين بمحاكاتهم بالشيوعيين. ويذكر فيروز أحمد أن الحكومة تواطأت مع اليمين المتطرف والإسلاميين في الصراع الأهلي مع اليسار والذي اتخذ كما ذكرنا شكل صراع مذهبي بغطاء سياسي، وإن المذابح التي قامت بها <الذئاب الرمادية> هي الذراع العسكري ل حزب العمل القومي (NAP) المشارك في الحكومة المذكورة كانت تتم تحت مقولات وشعارات يمينية دينية معادية لليسار ومركزة على العلويين، وهو ما اعتبره المناضل اليساري تسليم توره جزءاً من سياسة النظام السياسي والدولة التركية من أجل تحريك النزعات المذهبية الطائفية واستخدامها بصورة قصدية لإشغال الناس بنزاعات تفتيتية، بمواجهة مطالب الشعب في التحرر من التسلط والدكتاتورية وبناء دولة وطنية تعدّدية.

ولكن التوتر في العلاقات المذهبية لا يتعلّق بأعمال العنف فقط ولا بكون الجماعة العلوية يسارية النشاط والفعالية فحسب، وإنما أيضاً بالذهنية السياسية للنظام والدولة في تركيا، إذ يعتبر العلويون أن الجمهورية التركية ورثت بعضاً من عُقَد الدولة العثمانية، وخاصةً تجاه الجماعات الدينية المسلمة غير السنية والجماعات غير المسلمة.

وثمة آراء متشدّدة بشأن الجماعة العلوية لدى الأحزاب الدينية مثل حزب الرفاه (السابق ووريثه حزب العدالة والتنمية) والمؤسسات الدينية الأخرى كرئاسة الشؤون الدينية (وهي بمثابة وزارة للأوقاف الإسلامية) ومجلس الإفتاء، وهذا أمر يمكن تفهمه باعتباره امتداداً لصراعات تاريخية ودينية، وأما موقف مؤسسات الدولة الأخرى فإن ثمة <تجاهل> قصدي للمطالب العلوية في التمثيل في رئاسة الشؤون الدينية أو بتشكيل هيئة تمثيلية لهم تضمن حقوقهم الثقافية والدينية. وتتخذ المسألة أبعاداً سياسية واجتماعية متزايدة ليس فقط بسبب التشكل اليساري اليميني أو العلماني الإسلامي للصراع العلوي السني، وإنما أيضاً لأسباب أخرى مثل التغيرات الديمغرافية والاحتكاك الاجتماعي والمنافسات المحلية، يقول الباحث الإسلامي التركي علي بولاتش:

<إن الإثنيات والمذاهب المختلفة التي كانت تعيش سابقاً في الأرياف، فيما يشبه الغيتوات، بدأت نتيجة الهجرة تعيش في المدينة والأحياء الجديدة، بصورة مختلطة... وبدأت في المدن حياة ذات ثقافات متعددة. وتداخل العربي والكردي والعلوي والسني وظهرت مشكلة العيش معاً>.

غير أن التغيرات الديمغرافية أتت سريعة بفعل عوامل عديدة أبرزها سياسة الحكومة بشأن تهجير الأكراد والجماعات النشطة من الأرياف إلى المراكز المدينية، بحيث تسهل مراقبتها وضبط حركيتها السياسية والمطلبية، إلا أن ضعف السياسة الحكومية واهتزاز مفهوم الدولة والسياسة العامة والتنافس داخل الطبقة السياسية الحزبية وتنامي الولاء الديني السياسي أبرَزَ مشكلات جديدة أمام التجمعات المدينية المتضخمة وأمام التعايش المتعدد والمشترك والسلم الاجتماعي. لقد أصبحت المدن والمناطق الحضرية تعددية أكثر فأكثر واعتبر المدينيون الأتراك السنة أن الريفيين الأكراد (والعرب وغيرهم إلخ) من العلويين (والسنة وغيرهم إلخ) يزاحمونهم على السلطة والنفوذ والموارد، كما أنهم يطرحون أنماط عيش لم تتخذ شكل صراع تركي كردي أو سني علوي دوماً، وإنما كانت تتخذ شكل صراع اجتماعي وثقافي وطبقي بسبب الفروق في الأصول الاجتماعية ومستوى المعيشة بين المراكز الغنية والمنفتحة على الحداثة والرفاهية وبين الأطراف الفقيرة والمنغلقة ومتدنية مستوى المعيشة والمتخوّفة من الحداثة. وقد حرك ذلك مخاوف المكانة لدى المركز التركي (والديني) الذي رأى أنه، وباعتباره المركز، فإن على الآخر الطرفي والهامشي، حتى لو كان كبيراً وكثيراً، أن يتكيف معه لا أن يقترب منه أو يساويه، وهكذا زادت التوترات الاجتماعية ذات الإطار الاجتماعي والعرقي والمذهبي في السنوات الأخيرة، خصوصاً مدينة اسطنبول، حيث تتنافس المرجعيتان المذهبيتان (السنية والعلوية) على فرز واستقطاب الناس في أطر اجتماعية وسياسية انتخابية، الأمر الذي أثار موجات عنف في منتصف تسعينيات القرن العشرين، خصوصاً في آذار/ مارس 5991، وينطوي ذلك على تحول جوهري في السلوك السياسي إلى السلوك المدني والحقوقي.

وينبغي أن ينعكس ذلك على طبيعة المنافسة السياسية الدينية أو ما يُسمَّى الصراع المذهبي وهو ليس صراعاً بقدر ما هو تجاذبات تعبر عن حالة طبيعية أو تاريخية بين جماعتين ثمة فروق عديدة بينهما. وأما التركيز على الصراع المذهبي فهو من باب التضخيم القصدي سواء الإعلامي أو السياسي تقوم به شريحة واسعة (من الطرفين وإن لم يكن بصورة متساوية) لا يفيدها السلم الأهلي والتعايش الديني.

عقيل محفوظ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى