الأحد ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم محمد البقاش

الجثتان المتعفنتان

جراء التهجير القـسري مــن الأندلس، وجـراء التقتــيل والتنكــيل بمسلــمي غر ناطة وقرطــبة وإشـبيليا وسرقسـطة ، جراء مـــــجازر وفظائع نسلتها محاكم التفتيش فر العديد بأرواحهم مسلميــن ويهـودا، قطعوا المتوسط ليستوطنوا عند ضفته الأخرى..

نزل جد " بني بوفراح " ب " تلامبــوط " أقــام جد العمرانيــــين بأرض رحبة واسعة، أنجب هناك ذرية كثيرة فتكاثر نسله عبر قرون عديدة حتى اشتاق بعض منـــهم إلى عبـــور المضــــيق، إلــى أرض أجدادهم بالأندلس بحثا عن العمل..
شب حسن وسليم في القرية، يحرثـان الأرض ويرعــيان الأغنــام والمعز.. اقتنيا قاربا صغيرا حملاه ونزلا به إلى البــحر، ثــم أرسيـــاه بميناء صغير ب " الطريس " استعدادا لخــوض البحر قصــد صـــيد السمك..
مضت سنوات على عملهما يصطادان الســمك، ويبيعانــه بثمــــن بخس لا يغني، ثم افترقا..

ذهب سليم باتجاه مدينة طنجة إلى عائلة له بحومة " البرامــــل " بالجبل الكبير، بقي حسن في قريته تارة يخوض البحر، وتارة يحرث ويرعى الماشية، وقليلا ما يتردد على " تاركيست " و الحسيمة بحثــا عن عمل..

سمع حسن بمغامرات الهجرة السرية وعبور البوغاز، ظل يتحدث عنها مع شباب القرية، والقرى المجاورة، حين يقدم الصيف ويـــحث المهاجرين على التوجه نحو بلدهم لزيارة أهلهم وذويهم يزداد حســـن شوقا، ويمتلأ طمعا في العيش بأوروبا، يشاهد أفرادا من قريته عنــــد زيارتهم المعهودة وقد لبسوا ثوب النعمة، وذاقوا بحبوحة العيـش دون دراية بسبيل ذلك، لا يفكر في النتائج والعواقب، لا يحيل المظاهــــــر إلى المعاناة، وشقوة الاغتراب، ظل على حاله من التفكير يشاهد ببني بوفراح ودار قبع دار لقمان المغربي وقد تغيرت، تستفسره أطلالهـا عن سبب بيئته حتى قرر خوض تجربة مع شباب القرية..

مكث سلــيم بطنـجة يعمل بكـده وعـرق جبـينه، تعود العــمل فـــي المقاولات الصغرى والكبرى للبناء حتى أضحى من أمهر الحرفيـين، تغيرت حاله ، تعلم أشياء كثيرة، ولكـن أجرته لم تتغــير، لــم تحســن المقاولات أداءها، بل ظلت أجرته في حدود أربعين درهما..

يتردد سليم على مقاهي " مرشان " و " سبيلة الجماعة "، يخــالط الناس ويغشى تجمعات الشباب الضائع الذي لا يزال يقف عند بــــاب داره أو دار جاره منذ ثلاثين سنة أو يزيد، يقضي معظم وقته بحيــــه قرب أبويه واخوته وجيرانه وأصدقائه، يدخن الكيف والهاش محاولـة منه نسيان نفسه فضلا عن نسيان مجتمعه ودولته التي برع في خــلق النكث عن وعودها وعهودها، لم يعد يجد ما يعبث به إلا وقته وحياته والعبث ذاته، يتصف بالفطنة والنباهة، يحمل رصيدا معرفيا، بـــــيده شواهد مدرسية وجامعية، بملك قلبا شجاعا وارادة محطمة.. عــــرف سليم منهم أشياء كثيرة، وتعرف إلى الكثير من رواد الهجرة السريـة، ينطلقون بقارب صغير من شاطئ " مرقالة "، تبدأ رحلتهم من البـــر أولا، ثم من البحر ثانيا، يتجمعون ب " القسيعات " ويدخلون فم الواد الحار من القنطرة الضخمة التي بناها آباؤهم بإشراف الاستعمـار الإسباني أيام كانت طنجة دولية، يسيرون قلبها، يعبرونها جنبا إلـى جنب مع عبور الماء الحار، يدوسون بأقدامهـم قاذورات يخــلفها مــن يتستر فيها لقضاء حاجته، يقطعون مآت الأمتار حـتى يصــلوا إلـى مصبها عند البحر ب " حجار الثلاثـة " ليجدوا هناك القــارب الـــذي يقلهم إلى إسبانيا..

رتب حسن مع بعض شباب قريته ما يحـتاج إلـى ترتيــب، فكــــر وقدر، ووضع مخططا ثم نظر، نظر كـيف يتحقق عبــور البحر إلــى الضفة الأخرى، إلى إيطاليا رغم طول المسافة، لم يعد يخشى البحـر، وهل يخشى الخل ؟ صار له خليلا.. وفي ليلة حالكة السواد تــــــقرر لديهم الانطلاق فتأهبوا ثم انطلقوا..

انطلقوا من قرب جزيرة باديس عند العتمة، ثم توغلوا في البحــر، يمخر قاربهم عبابـه، صـاروا أميالا حتى أسفـر عليـهم الصبــح ، ثــم أشرقت شمس يوم سيــمر، ويأتي بعده يوم آخــر إلى أجـل لا يعلمــه حسن، ولا من يقرأ قصة حسن، كانوا يتبادلون الحديث في اطمئنــان، أمـارات الفرح تغشــى وجوهــهم، أذهانهم لا تــكاد تخفــي بنـــاءهـــا لتصورات وأحلام جميلة.. بيـنما هم على حالتــهم تلك إذ تغـير وجـه حسن، تغير حاله ففطنوا له، سأله أحدهم قائلا :

 ما بك يا حسن ؟

 لا شيء.

 لا، بل هناك ما يعكر صفو ذهنك.

 ألا تحسون بالقادم إليكم يلفح وجوهكم بنعومة ؟.

تلفتوا لعلهم يبصروا الناعم يلفح وجوههم فلم يتبينوه، فقالوا :

 ليس هناك شيء.

فألقى حسن القول :

 القادم إليكم لا يطمئنني، فلنرجع بسرعة.

أدار مقود قاربه فاستدارت مقدمته، وبدأ يحاول اختصار الطــريق إلى أقرب يابسة، أصدقاؤه في هـرج ومـرج منقســمون على أنفسهــم بشأن الذهاب أو الإياب ، بينما هم كذلك إذ سادهم صمت مطبق بســبب ميل قاربهم في كل الجهات، طفــق يختبط عالـيا سافـلا، أحـسوا بــأن البحر بدأ يهيج، بدت الأمواج تتلاطم مقتربة منهم، وما أن ســــــاروا أميالا دون إبصار أي أثر ليابسة حتى هبت عليهم ريح عاتية، قـــــدم العاصف من الشرق لا يستأذن، كان شديدا قويا، قلب قاربهم بسرعة، سقطوا في البحر فغرق بسرعة كل من لم يكن يتقن السباحة، وظــــل يسبح حتى حين حسن وبعض من معه، ظلوا يسبحون حتـــى خارت قواهم، ونفـذت طاقتـهم، وتجمدوا من شـدة الـبرد، ثم غرقـوا جميعـا، غـرق القـارب وغرق حسن، وجميع من كان معــه، ولم ينــج منهـــم أحـد..

انطلق سليم من هجرته بعد غرق صديقه الحميم حسن بثلاثـة أيام، انطلق قاربهم يمخر عباب البـحر إلـى الضفـة الأخــرى، إذا ســـاروا مستقيمين فـلن يقطعـوا أكـثر من ثمانيـة عشـر كيلومتر، تحركوا مــن شاطئ مرقالة ليلا مخلفين وراءهم أهلا وأقارب وأصدقاء يدعون لهم بالتوفيق، لم تكن رحلتهم طويلة، تكفيهم ليلة واحدة ببضع سويعــــات حتى يطأوا أرض جدهم "طريف"، قضوا أربع ساعات فـي عرض البـحر حذرين يقظــين من الدوريـات التـي تجـوب البـحر إن ليــلا أو نهارا، وقبل الفجر بمدة ظهرت على بعد محسوس هدتهم إليه النجـوم دوريـة، وعندهــا أوقف عــبد العزيز محـرك قاربــه ولاذوا جميعــا بالصمت، صمتوا لعل صمتهم وسكونهم يجنبهم الأسر والاعتقال..

كشفت الدورية بتقنياتــها المتـطورة أمرهــم، فصارت تدنــو منهــم وتقــترب حتى حاصرتـهم، سلـطت عليهم أنــوارها القويــة فحولـــت البروجيكتورات ليلهم إلى نهار، ثم صارت تحوم حول قاربهم بعنف، شرعت تسرع في دوراتها حولهم، ظل رذاذها يصنع أمواجا عاتــية، وتيارات مائية جارفة إلى أن فقد القارب توازنه، وابتدأ في الاختـباط حتى غرق بفعل ما يحدثـه محركهـا الضخــم من هيجــان لا يحتمـــله القارب الصغير، لم تتوقف إلا بعد أن غاص القارب في ماء البحـــر، هوى إلى الأسفل بمن فيه، ثم انطلقت بسرعة عالية مخلفة رذاذا كأنـه الشلال..

مضى أسبوع كامـل على غــرق حـسـن، وأربـعة أيام عاريـة مـن لياليها على غرق سليم..

وصبيحة يوم الجمعة ألقى البحر بجثة مهترئة في "المريصات" بـ"الغندوري"، وألقى بجثة أخرى بشاطئ مرقالة..

حملت الجثتان وقد تغيرت معالمهما وتعرتا من الثياب، نقلتا إلـــى مسـتودع الأمـوات بمستشفى "دوق دو طوفـال " ثــم إلــى مــقــبـرة المجاهدين..

وضعتا وهما مهترئتان متعفنتان فـي انتظـار مـن يدفنهـما، كانــت الجنازة تأتي ومعها أحياء يواروها التراب، وتأتي الأخرى ومعها من يحسن إليها، إلا جثتا الغريقين..

بقيتا تنتظران ولا أحد يحـفل بهمـا، تـفوح منهـما روائـح يتجاهلهـا الأحياء، ولا تندب، أو تحث وتفرض على الأحياء مواراتها التــراب، المتسولون في المقبرة يمدون أيديهم لأخذ الصدقـات مـن خـبز وتــين وتـمر ونقـود زهـيدة، يأخذون الصدقـات مـن الأحيـاء الذيـن قدمــــوا بموتاهم، لهم منطق يمنعهم عن دفن الضائعين الذين لم يصطحبهـــــم أهل أو أقارب حتى تنقضي طلائع الجنازات المصحوبة..

وعـند مغـيب شمـس غاضبة، حـملت الجثـتان علـى مضـض، ثــم وضعتا في حفرتيهما، كان القبران متلامسـين، ولـم تكـن الجثــتان إلا لسليم وحسن، دفنا قرب بعضهما البعض قريبين جارين متحابين كـما كانا في الأحياء بقرية بني بوفراح.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى