الخميس ٢٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم محسن الذهبي

عذرا نوح

(( ليت فمي يعثر على
هذا الصمت البدائي
الذي هو مثل صوتٍ بلوري
ولد نقياً ))

  أوسيب ماندلشتام –

لحظة سقط ميتا بين التخوت الخشبية المتآكلة, لثغ صياغ الأحذية الصغير. فغرقنا في موجة ضحك عالية وهو ممدد امامنا .. مطعون في القلب .. وفي الخاصرة . يده متخشبة ملقاة بإهمال تحت التخت الذي هجره لاعبو الدومينو وتركوا الأحجار السود ميتة على المنضدة ينفر من بينها الدوش مقلوبا على قفاه مصرحا عن نفسه بخيلا ء خبيث .

قالت - سلاما...

وتخطت الرقاب لتمد يدها تداعب كفه الملقاة تحت التخت. انفرجت الأصابع وضمت كفها البض الصغير بحنان أبوي بارد .

 أنت مقتول اذن ..! من القاتل .. !

 أنتِ ... أو ربما هو .. ومن المحتمل أن يكون ذاك المجنون ذا الطبل المثقوب

 أحدنا أم الجميع ؟

 الكل مشارك, فالقتل شركة مساهمة ، كل يساهم بما في جعبته لكني أجزم ان الرجل النحاسي الواقف منذ عقود في منتصف الساحة يحرس جسر الشهداء من السرقة كان واحدا منهم .

 أيدينا بيضاء , لا دماء تلوثها .. نحن أبرياء إذن ..!!

سحبت يدها تتفحصها ببلاهة, وتركت أصابعه تسقط على بلاط المقهى الموشوم بآلاف الألوان من أوساخ الأزمنة الغابرة ولتمسح دموعها التي راحت تنز مدرارا , فيغرق المكان .. ليغتسل الجسد المسجى بالدمع. هذا أوان الغسل إذن .. غسل الأموات الأول .. والموت المليون .. بل وغسل الجمعة والجنابة وبقية الغسول الواجبة والمستحبة .. لكنه لن يكون غسل الموت الأخير .

العناكب وحدها لا تسمع البكاء ونعيق أبواق نحاسية تودع جنازة لا تبرح مكانها فراحت ترقص بجنون المنتصر.

سألتني ولفافة الدخان بين شفتيها :

 نارك ..؟

رحت أبحث في جيوبي عن علبة كبريت , بينما مد هو يده من تحت التخت بعود مشتعل , مدت عنقها الأبيض لتلامس لفافتها عودة المشتعل , فهبت روحي وهرعت إليها مذعورا خوف أن يندلع الحريق .

المطر الأسود يداهمنا منذ أيام فلا يترك لونا نقيا إلا ورسم عليه لوحة للحداد الطويل. أرعدت صاعقة في الأفق القريب فارتبكت يدي وسقط الكتاب . ابتسمت بخبث عاهر...

 خائف ..!!

 ومن لايخاف في مثل هذه الايام .؟

تململت في جلستها وصرخت بي :

 أريد أن أخرج.

 في هذا الجو ؟

 أجل

وراحت تتشح بمئزرها الفاقع بحمرة الدم المتدفق، تلفه عقدا حول عنقها . خرجت , فتبعتها مهرولا وقفت مستندة الى عمود الإسمنت مررت بها فسارت إلى جانبي . رمقنا الجندى ببسمة ميتة لم أجد لها معنى في كل قواميس الدنيا. أخبرتها فأمسكت سيكارتها و شوت بنارها ظاهر يدي كي أستذكر معنى تلك البسمه في لغة البكاء ساعة أعود من نزهتي في شوارع الموت بمدينة موبوءة بالوحشه .

تراتيل أشجار الكالبتوس في زوايا شوارع (الوزيرية) العتيقة بأغصانها المتهدله توحي بغربة السنوات الميتة من عمرها .جعلتني أمد يدي في جيبي ...أبحث فيه عن بقايا أجنحة فراشات صغيرة ملونة خبأتها من أعوام فرحي القديم لعلها تكفي لصنع جناحين أطير بهما ,أطوف الدنيا ...أبحث عن مدن لا تعرف غير الحب و الشمس و الشجر .

تصطدم يداي بهوة فراغ بعمق الجيب المملوء بالثقوب ...سأحلق بعيدا ..بجناحي نسر عجوز ..حمامة غضه ..او حتى عصفور صغير ..لا شيء..يداي تستمران في البحث عن لا شيء..أخرجهما ..فلا أجد غير بقايا أجنحة مطحونه بلون الطيف تلتصق على بنان الأصابع لا تكفي لصنع جنح نملة ...أطيرُ عليها حلما صغيرا صوب البعيد ...البعيد..

تمد عيونها نحوي كسهام قوس عربي ..فأرتد إلى داخل نفسي مجروحا

 عم تبحث!!!

 لاشيء...مجرد أحلأم كنت أخبئها ..لكنها..تبخرت..!

 يالك من حالم ....

من البعد البعيد فرقعت أصوات انفجارات متوالية ،و قصف بعيد .هدير صفارات الإنذار ..يعلو ثم يخفت ......الأرض من حولنا تتحطم ،أسفلت الشارع يتشقق تحت أقدامنا .الحصاة المتطايرة تضيع في الظلمة فلا تجد غير أجسادنا المتراصة بخوفها لترجمنا .تكبر الشقوق فتتسع أفواهها. أسيجة الدور المنهارة و قضبان التسليح المنسلخه عن جلدها الإسمنتي تحاصرنا.. يغدو المكان قفصا ؛ نتقافز كعصافير تبحث عن ملاذ. تتعثر قدماها فتكاد ان تنكفىء على وجهها.. أحتضنها بكلتي يديّ . يلتصق جسدها بي ..نهداها يمسان صدري و يداي تستطيلان لتنعقدان علىظهرها . تضغط بقوة..خدها الريان ينام على فمي .فيتصاعد فيَ احساس باغفاءة راعشة لرقصة مأتم ناعمة كالبلور..ريح هوجاء تهب من تحتنا ...أتون جهنم يا إلهي...إنها جهنم الحمراء .. إنه الموت، لحظة هو الموت...لحظة هو الحب .لحظة واحدة وينطفىء الفنار..شيء ما لزج ينهمر كسيل في جسدي،يتدفق كالندى ليسقط بين دفتي جبل أملس الصخر متوازي التكوير.

 متوهم إذ تبحث عن الحرية هنا..

 إن لم أجدها هنا ‘ فلن أجدها في مكان آخر .

 آه..ه.ه..ه...ه

 ولدت هنا و لن أموت بأرض غيرها.

هدأت العاصفة..و لاحت الأغصان المتكسرة تحت ضوء سيارة إسعاف مارقة بسرعة الريح ،مغسولة بماء الندى ، مرايا الزجاج المتهشم المتناثرة تعكس أضواء متراقصة و صوت خرير بعيد ..يقترب... الماء يغطي أسفلت الشارع .

 لحظة .. واحد .. إثنان .. ثلاثة

 ماذا تعد !!

 أعد لحظات الزمن الضائع و المضيع...

يرتفع الماء بشكل محسوس ليغطي الشارع .قدماي تخوضان فيه ، أرفع قدمي اليسرى فأسمع إنسكاب الماء خارجا من حذائي ،أسحقه بقوة و بحقد فيراودني شعور بالغرق.

 نحن نغرق..!

 ........

 نغرق .. نغر ..ق...

تستمر في الضحك ،فتنتقل العدوى لي فأغرق في موجة ضحك مدوية.. الماء و الضحك يرتفعان داخل نفسي يطرقان بكل اتجاه ،أحسهما يخرجان من عيني .. من أنفي .. من كل فتحة في جسدي. فأغدو طبلا يضطرب بالضحك و يغوص في الطوفان .أذكر أن الماء لا لون ولا طعم و لا رائحة له ..فأمد يدي ..أغترف براحتي شيئا منه ، أدنيه من شفتي ،فتستفزني رائحة زنخة كرائحة جثث طرية .

أغترف بكلتي يدي ، أشرب ...و أشرب لكني لا أرتوي فيزداد عطشي .ترتسم على شفتي بسمة لا تميز عن عصفة موت لا لون و لاطعم و لا رائحة له، فسقطت من عيني دمعتان بحجم راحة اليد ، أغترفها لشفتي فأحس بعض الا رتواء.

أمسك يدها لعلها تسندني لأسير خطوتي، علنا نجتاز المكان ،فأجدها تهتز كنبتة لا جذور لها ،أحاول أن أتقدم خطوة ََََََََََأخرى الى الأمام .

 الى أين ..؟

 أي مكان يعصمنا ..

يعاودها مس الضحك فتغرق فيه من جديد

 لا عاصم اليوم لنا ..

أحاول الإمساك بها ، يبعدها الموج عني ،أبحث عنها فلا أسمع سوى صدى ضحكات ترن قربي مبتعدة فتطيش مع صوت ارتطام الماء بالجدران لا بد أن أتقدم ...و لكن الى أين ..؟ ليس هذا بمهم الآن . تساعدني أغصان اليوكالبتوس المتدلية على رفع جسدي خطوة أخرى ، لكن الخطوة التاليه هي الأصعب ..لا شيء أتكىء عليه بعد أن تجاوزت الشجرة الهرمة ..من يوصلني الى الشجرة الأخرى ..أعرف أن البعد أمتار قليلة و لكن لا شيء سوى الفراغ ، أيرتفع الماء بطول قامتي ؟ إذن هو الغرق بعد أن نسينا السباحة في نهر دجله ساعة سورها الحاكم بأمر الله خوف ان يسرقه الغوغاء ..من ينقذني إذن؟... و أي نوح سأنتظر ؟ أتراه قد بنى فلكه منتظرا تلك الساعة .أم أنه لم يفكر بعد ببنائه . يالبلاهة الفكرة . وفي العالم اليوم ما لا يحصى من السفن و الغواصات و بوارج الحرب و أنا أنتظر ( نوح) و فلكه ، ومالي لا أنتظر ..؟ ثم ما حيلتي غير الانتظار او السقوط في تيه الطوفان ..لا.. لن أسقط فقد قالها جدي و لا زلت أذكرها بوضوح ( إحذر من أن يموت في جبينك شعاع الأمل ) السقوط يعني الموت هنا ، فلا بد من الوصول ، سأواصل بكل ما بقى لي من قوة ..لابد من التقدم خطوة أخرى الى أمام ..خطوة ..إثنتان..و أترنح ..لأسقط في لجة الماء ،أنجرف معه أحاول القيام و الوقوف على قدميّ من جديد ، لا أمل .الماء يرتفع أعلى من قامتي . إنه الغرق فأرفع يديّ أعلى من قامتي أحس بهما يخترقان الماء، لكن أي يد تمتد لتنتشلني و انا أصارع هذا الطوفان ..؟

الزمن يمر و يداي تمتد وتمتد الى أعلى لأقف مصلوبا تحت الماء منتظرا لنوح جديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى