الأحد ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
ذاكرة
بقلم صبري هاشم

لا غابة فتزحف

منذ سكرتين ودعتُ النادلَ وتركتُ الحانة. مرّ الصيف ومرّ الشتاء وبي فاض شوق، فالحانةُ لما تزل مفتوحة في الليل والنادل أشرقت بعد لوعتين لكن الربيع تأخر.

عبرْنا النصفَ الأول من آذار وربيع برلين وراء سحابة داكنة يختفي.. يقال هنا إنه كلما كان الشتاء صقيعياً تأخر الربيع. عندما توقفت الحافلة المرقمة 100 أمام مبنى بيت الثقافات العالمية انتبهت إلى أن حدائق”التير كاردن" يابسة، جرداء وعلى أغصان أشجارها لم يبتهج برعم ولم تضحك خضرة كأنها إلى موت مطمئنة. الأرض لم تطلق صفرة محتملة وهي في تلك الساعة تكتسي وجهاً كالحاً كوجهي الهائم.

لم تمر الحافلة كعادتها من تحت البوابة الشهيرة ”بوابة براندنبورغ” إنما انحرفت محاذية مبنى البرلمان الألماني ”الرايشستاغ" ودخلت شارع ”تحت الزيزفون" الذي أعلن عصيانه التام على الربيع. في تلك الساعة التائهة معي، همٌّ تلبسني فلم أعد أعرف أين أترجل. نزلت في تقاطع شارع تحت الزيزفون مع شارع فردرش. ذهبت الحافلة وسرتُ باتجاه دار الأوبرا التي كانت تغط في صمت مطلق.. عبرتُ نحو جامعة "هامبولدت هاين". على صدر بوابتها الأمامية تجثم مفارش الكتب القديمة. أمضيتُ نصف ساعة في تقليب الكتب ثم ابتعتُ رواية "دون كيشوت" لسرفانتس. حتى هذه اللحظة لم أقرأها مترجمة إلى اللغة العربية قرأتُ عنها تلالاً من الدراسات أما الرواية نفسها فلم أعثر عليها يوماً في أية مكتبة عربية. مازال الكتاب بحالة جيدة. سحبتُ قدميّ باتجاه ميدان الكسندر. في الطريق استوقفني نصب ضحايا الحروب. دخلتُ المبنى. وجدتُ إكليلاً من الورد، مُهدى من الرئيس المكسيكي، موضوعاً أمام النصب. كلّ شيء مكفهر الوجه في اللحظة الصعبة. قلِق أنا والأخبار المبثوثة تقول إنّ درع الجزيرة، والمقصود هنا جزيرة العرب التي صار لها درع، يقف على أهبة الاستعداد دفاعاً عن الكويت ضد ضربة عراقية محتملة!.. تساءلتُ: أين يقف درع الجزيرة؟ أين يتواجد هذا الدرع المستقوي بالأمريكان والبريطانيين ونصف سكان المعمورة؟ الدرع يدافع عن الكويت عجيب! مَن يهدد الكويت؟ العراق الآن لا يستطيع تهديد نملة والدرع المكوّن من جيوش البلدان الستة: المملكة السعودية، الإمارات المتحدة، عُمان، الكويت، البحرين، قطر، سيحارب مَن؟.. من المفيد القول إنّ الجزيرة العربية لا تشتمل على اليمن السعيد. اليمن يظلّ بعيداً عن رأس الفتنة.. اليمن منذ فجر التأريخ لا يدخل في لعبة قذرة كهذه. اليمانيون أسسوا حضارة بدون هؤلاء الرعيان. اليمن أصل السلالات يظل كبيراً حكيماً ويستنكف من عقول الصغار.

منذ بضعة شهور نتابع برعب أخبار تطبيق القرار 1441 الصادر عن الأمم المتحدة والقاضي بنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية. أقسم بكل رؤوس أبقار أمريكا وبكل قناني الويسكي الاسكتلندية، المعتقة منها وغير المعتقة. أقسم بكل العُقل الخليجية والضفائر اليهودية إن العراق لا يملك طلقة واحدة مما ذكرتم لكن زعيمنا الأرعن وجلادنا الأكبر يراوغكم في الأمر وهو دعيٌّ لا أكثر.. نحن نعرف ابن قحبتنا هذا يتجشأ كذباً ليواري ضعفه وخيبته ويستر عجزه.

وصلتُ إلى ميدان الكسندر، دخلتُ حانةً تشع نادلها شهوةً.. أنثى الجحيم المغيرة على غابة الجسد.. امرأة النار.. صبية الشموس اللاهبة.. امرأة تسكن رقة الكؤوس. قلتُ لها أُريدُ رقّة الكأس.. أريد رضاباً معتقاً.. أريدك، أريد كأساً موشّاةً ببريق عينين ساحرتين.. ضحكت ثم غادرتني تمتطي الصهيل. عندما عادت كنتُ من عطرها ثملاً.

إلهي لماذا يأتمر الأمريكيون والبريطانيون والأسبان في جزر الآزور البرتغالية في مؤتمر إعلان حرب ضد العراق. لِمَ لا يتآمروا في جزيرة العرب القريبة منا وبحماية درع الجزيرة!

أنا أتفهم موقف السيد طوني بلير رئيس وزراء بريطانيا المعادي للعراق ربما أقرن هذا الموقف بموقف ثأري فنحن طردنا بريطانيا عام 1958 شرّ طرداً. وأنا أتفهم موقف السيد جورج دبليو بوش المعادي للعراق وأسوغ تدميره العراق كلياً فالأمر متعلق بأمن إسرائيل والسيطرة على منابع النفط والحقد الأعمى على حضارة لا يملكها هو. وأنا أعذر السيد أثنار رئيس وزراء أسبانيا إن أعلن علينا حرباً ضروساً فأجدادنا احتلوا أسبانيا واستعمروها دهراً وهو يرد تلك الصفعة، التي لا ذنب لنا فيها، إلى وجوهنا. إنما الذي لا أفهمه هو الدور البرتغالي في معاداتنا فنحن لم نفعل للبرتغال شيئاً سيئاً وكذلك لم نفعل لهولندا أو الدنمارك أو اليابان أو قطر. يا إلهي حتى قطر التي سمعتُ بها أول مرة في حرب تحرير الكويت أو ما يسمى "حرب الخليج الثانية”العام 1991 حيث أفادت وكالات الأخبار عن قصف الطيارين القطريين لمواقع في البصرة. لماذا؟ لماذا أيها القطريون؟ ماذا فعلنا لكم؟ أعرف أن هذا الزمان زمانكم وأعرف أنكم تستقوون بأمريكا وأعرف أن”الجمل لو طاح تكثر سكاكينه" لكن لماذا؟ على العراقي العربي أن يمتلك ذاكرة قوية. على العراقي العربي أن لا ينسى. إنني أدعوك أيها العراقي العربي الأحمق أن تحمل إلى قبرك ذاكرة التاريخ.

ماذا فعلتَ بنا أيها الرئيس الحقير صدام حسين؟ ماذا فعلتَ بنا حتى جعلتَ صغار هوّام الأرض يقتلنا؟

من جزر الآزور وجهت القمة الثلاثية أمراً لمجلس الأمن في أن يتخذ قراراً أخيراً يقضي بضرب العراق. قرار واحد لا غير.

عندما جلبت النادل معها كأساً ثانية، استقبلتها بابتسامة عريضة. قلتُ: سنخرج من قصر الحمراء.. سنترك الأندلس.. سنترك أسبانيا ونعتذر لكم أيها الأوربيون عما فعله بكم أجدادنا. لم تفهم النادل الفاتنة ما أريد إنما ظلت تبادلني ابتسامة لم ترق إلى سحرها ابتسامة فاتنة أخرى.

***

الاثنين ليلة السابع عشر على الثامن عشر من آذار/ مارس وفي الساعة الثانية صباحاً بتوقيت برلين أعطى الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش مهلة للرئيس صدام حسين وولديه لمدة ثماني وأربعين ساعة لترك العراق. الرئيس الأمريكي يعلن من على شاشة التلفاز المهلة والنادل مازالت منذ البارحة على ابتسامتها.. تلك الابتسامة التي لم تفارقني أبداً.. تحمل رقتها في كأس أبدية. قلتُ: أريدك أنتِ في الكأس. ضحكت.. مضت إلى الطاولة المجاورة. أحدهم همس في أُذنها. صرختُ: سيرفض صدام المهلة. سيحترق العراق.. هذا المجنون لا يفكر بعقله وسيرفض الخروج من العراق. سكتُّ ثم أضفتُ: وهؤلاء قادة العالم مجانين أيضاً. كيف يطلبون من رئيس بلد ما مغادرة بلده. أين يذهب؟ إن لم يحتضنه بلده لا تحتضنه بلدان المعمورة. كيف تطردون رجلاً من بلده وأنتم الغرباء؟ سيأخذ بجريرته حالما يأتي حاكم عادل.

الاستهتار في أقصى ذروته.. البغي في أبغض حالاته. الرئيس بوش في قمة انفلاته ونحن في الثامن عشر من آذار ولم نقرأ بعد سطوراً من "الثامن عشر من برومير.. نابليون بونابرت".

حلِّي ضفيرتك الذهب أيتها النادل الشهية واتبعي خفقان قلبي. كم شهية أنتِ وكم عذباً هذا المبسم. مازلتُ أتشبث بالكأس.. أتفحص طبع أناملك على بهائها. اليوم وحيداً أجلس في الحانة، والحانة كل الحانة تتطيب بقطرة عرق نضحها النهر المسكون بحرائق الأزل.. بحريق الصدر.

فلترفض قراراً أممياً يا سيادة الرئيس مادمنا حطباً أبدياً.. نحن شعلة التاريخ السرمدية.. نحن محرقة الأزل. في البرلمان البريطاني يتبختر السيد طوني بلير. كان مزهواً بفوزه. لقد انتزع من غابة الحمير”مجلس العموم البريطاني”قراراً بالحرب على العراق. في تلك الأثناء صوّت مجلس الخراف البريطاني لصالح الحرب والعراقيون في فم الرحى تطحنهم ليل نهار.

دعينا نتعر أيتها النادل ونتعرق ومن قطرة عرق أخرى يسكبها جسدك ستسكر الأكوان.

خذ كأساً أخرى

تقول بغنج آسر.

للأربعاء أوجه عدة فمنهم من أطلق عليها أربعاء الرماد والأربعاء الدامي والأربعاء الأسود وأربعاء الفرح والأربعاء الحزينة وأربعاء الأعراس وأربعاء الموت والميلاد والمضاجعة والملاقحة والمسافدة والخيانة والأربعاء الأبيض والأحمر وطيري يا طيارة طيري وتتوارد الأخبار عبر وكالات الأنباء وشاشات التلفزة وإذاعات الأوغاد أن عدداً من الجنود والضباط العراقيين استسلموا في ظهيرة اليوم للقوات الأمريكية والحرب ما بدأت.

هل بدأت الحرب؟

الحرب التي نحن وقودها منذ ربع قرن استعجلتنا مثل كل مرة. القوات الغازية”المحررة”تُطلق عبر الأثير رسائل صوتية تشلّ قدرات الجندي العراقي. الرسائل تقول: أيها الجندي المقاتل اعتزل الحرب. فكرة جيدة. لمَن تقاتل أيها الجندي المصادر الحقوق؟ مَن يستحق الدفاع؟ أيها الجندي الجائع، الذاوي أي مصلحة لك بكل هذه الحروب؟ هل تدافع عن وطن ما؟ لكن هذا الوطن يحرقه أبناؤه وعليك أنتَ الدفاع عنه. أيها الجندي البريء أنا بكل محبة أدعوك إلى الحانة.. إلى كأس مبردة.. نشرب سوية نخب اعتزالك الحرب. هل تقبل دعوتي؟

في الساعة الرابعة عصراً حسب توقيت برلين.. أي قبل ساعة فقط، اجتمع مجلس الأمن وألقت كل من ألمانيا، فرنسا، روسيا، سوريا، كلماتها الرافضة للحرب. الصادق الوحيد من بين هذه البلدان هو سوريا لأنها المتضرر الفعلي الوحيد.هي مهددة الوجود بينما الآخرون يخشون هيمنة الولايات المتحدة على منابع النفط. ما فائدة أن ترفض الحرب أو لا ترفض فهي قادمة بسرعة جنونية والمهلة التي قدمتها قمة”الآزور" لصدام وأبنائه لم يبق منها سوى دقائق. عيون العالم مشدودة إلى أجهزة التلفزة والأسماع مربوطة إلى وكالات الأنباء. أجزم أن نصف الكرة الأرضية في حالة من الترقب التام لما قد يأتي بعد عشرة دقائق من الآن.

ما الذي تريده من بلدي أيها السيد المجنون جورج دبليو بوش كان بإمكانكم الإطاحة بعميلكم صدام حسين متى ما شئتم وكان بإمكانكم التخلص منه بأيسر السبل بدون حرب وموت وتدمير لأبهى الحضارات.. كان بإمكانكم التقاطه هو وأبناؤه وكل حاشيته بدون أن تؤذوا عراقياً واحداً، لكن مشروعكم أكبر من مجرد إسقاط دكتاتور.

دقيقتان تفصلنا عن المهلة التي أعطيت لصدام وولديه.. كل أجهزة التلفزة على سطح الكرة الأرضية أوقفت كاميراتها على بغداد في الليل. أيها العالم المسلوب الإرادة هل ترى بغداد في الليل؟ هل تستحق عاصمة الرشيد أن تقصف بوردة بيضاء وليس بصاروخ؟ أنا أجزم أن هناك أكثر من قومية في العراق تتمنى محو بغداد عن بكرة أبيها. أجزم أن كل الذين لا يمتون بصلة إلى حضارة وادي الرافدين يرومون تدمير العراق وأهل العراق.

جامدة هي الشاشة أمام بهاء بغداد.. أمام هدوئها.. أمام استلقائها المسالم. أيّ عروس أنتِ في هذه الساعة؟ أي فاتنة ترتمي ببراءة العذارى على ضفتي الحنين؟

جامدة هي الشاشة أيتها النادل الجميلة، المتألقة.. أنا أحبك لأنك نادل فللنادل طعم الحضور وللندل عدل فهنّ يوزعن رحيقاً بكرم بين الناس.. هن يسكرنني بلون الكأس.. أحبك لأنك طيبة ولأنك فواحة كالنعناع ولأنك أشهى من الشهد.. أنتِ ألذّ خمرة وأرق عصفورة اكتنفت حانة. هل ترين بغداد؟ هي هادئة في السَحَر ودجلة هادئ هو الآخر. بغداد تضحك في الظلام، تدمع في دجلة، تبكي على ضفاف دجلة. الإنارة في سَحَر بغداد تزيدها سِحْراً. إلى جواري اجلسي وتمتعي بهذا المشهد الجميل. بغداد عند الفجر.. تمتعي برؤيتها قبل الذبح. تقترب النادل، إلى جواري تجلس ونتفحص سوية، من على شاشة التلفاز، سحر بغداد.

أخذتني إغفاءة. كنتُ إلى جوار النادل أو هي إلى جواري. رأيتُ أمي في المنام. جاءت باكية قالت: ابتنِ لي قبراً يا ولدي فقبري بلا شاهدة. فزعتُ، وجدتُ الحانة مغلقة والنادل مرتمية على أريكة من ماء. لا أدري هل خرجت أمي أم لا لكني صحوتُ على صوت يمامة الباكي:

اصح..

اصح ذُبحت بغداد.

فتحتُ عيني رأيتُ الدكتاتور بالبزة العسكرية يتوعد من على شاشة التلفاز بنصر مؤزر. أربعون صاروخاً سقطت على بغداد في فجر العشرين من آذار.

سأخرج إلى الشارع، سأصرخ في كل شوارع برلين، سأندد بالحرب ومجرمي الحرب. سأندد بكل العالم. قلبي يبكي.. قلبي أيها العراق يبكي دماً.

***

في ميدان الكسندر خرج الألمان في مظاهرة عظيمة منددة بالحرب. الألمان مثلنا طحنتهم الحروب في حربين عالميتين.. الألمان صادقون في مشاعرهم. تقدمتُ رأيتُ النادل في المقدمة تحمل لافتة كتب عليها: لا للحرب على العراق. تساءلتُ ونفسي: أيها المنفيّ ماذا تقول وأنتَ ترى بلدك يحترق من على شاشة التلفاز؟

أيها الغريب أي مشاعر تنتابك حين ترى الخراب يحلّ ببلدك؟

أسئلتي هذه ذهبت أدراج الرياح حين علمتُ بعد حين أنّ 95% من المنفيين والمغتربين والمهاجرين من شيوعيين وأكراد وأحزاب إسلامية شيعية في الغالب وليبراليين يقفون مع غزو العراق واحتلاله.

في يدي وضعت النادل كأساً.

قالت: اسكر.

وتركت ابتسامتها ترتسم في صمت الحانة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى