الخميس ١٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم صبحي غندور

خواطر عربية على أرضٍ أميركية

اضطررت في الأسبوع الماضي لأن أقود سيارتي على مدار أكثر من 12 ساعة في يومٍ واحد، وبدون رفيق درب، عابراً ثماني ولايات أميركية ما بين العاصمة واشنطن ومنتصف ولاية ويسكنسون في الوسط الشمالي للولايات المتحدة. ولم تكن هذه هي المرّة الأولى التي أتنقّل فيها برّاً بين ولايات أميركية، لكن جدّة التجربة لي كانت بأنّي أفعل ذلك دون رفقة أحد ممّا أتاح لي شيئاً من الخلوة مع الطريق ومع جغرافية الأرض الأميركية ومع سلسلة من البرامج الإذاعية الإخبارية التي كنت أتابع سماعها على محطة NPR الأميركية المعروفة.

أولى الملاحظات التي راودت ذهني هي التساؤل عن كيفية الجمع في التجربة الأميركية بين تنوّع الطبيعة الجغرافية ووحدة النظام المستخدم عليها. أيضاً، بين تعدّدية المجتمع واختلاف ألوان البشر فيه وأصولهم الثقافية والعرقية والدينية، وبين انتمائهم جميعاً إلى هويّة أميركية واحدة تجمعهم وتوحّد بينهم.

فخلال مسافة قاربت الألف ميل، عبرت ولايات ذات طبيعة جبلية وأخرى هي سهول ممتدّة. ولايات يتميّز بعضها بالتصنيع والمدن الصاخبة، وبعضها الآخر بالزراعة والحياة الهادئة البسيطة. وتجد في أيّ محطة أو استراحة على الطريق أشكالاً وألواناً مختلفة من الناس لكن جميعهم يستخدمون التسهيلات ذاتها في الولايات كلها، ولا تعرف أنّك انتقلت من ولاية إلى أخرى إلا من خلال دفع رسوم "الطريق السريع" أو من لافتات صغيرة على جانب الطريق.

وتساءلت في نفسي: لِمَ نجح الأميركيون (والأوروبيون الآن أيضاً) فيما فشل فيه العرب؟ فالمسافة التي قطعتها برّاً في يوم واحد هي تقريباً كالمسافة ما بين بيروت وجدّة أو بين بيروت والكويت. فلِمَ استطاع الأميركيون القادمون من أصول ثقافية مختلفة أن يحقّقوا تكاملاً على الأرض الأميركية بين ولايات تمتدّ من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، بينما فشلت الدول العربية في تحقيق ذلك رغم ما هي عليه من وحدة ثقافة وأرض وتاريخ وحضارة ومصالح مشتركة؟

أيضاً، لِمَ نجحت تجربة السوق الأوروبية المشتركة، التي تزامن تأسيسها مع تأسيس جامعة الدول العربية، في التحوّل إلى اتحاد فيدرالي بين أمم أوروبية مختلفة، بينما تزداد الدول العربية انقساماً وصراعاً في علاقاتها مع بعضها البعض، بل وفي داخل أوطانها نفسها أحياناً؟

أليست المشكلة عربياً هي في انعدام الإرادة السياسية بتحقيق التكامل والاتحاد، وأيضاً في خطأ الإدارة السياسية للأوضاع العربية؟!

صحيح أنّ المنطقة العربية هي منطقة صراعات دولية، وأنّ حدودها الراهنة هي محصّلة تسويات أوروبية تمّت في مطلع القرن الماضي، وبأنّ الأمّة العربية ينخر في قلبها جسم صهيوني غريب استنزف طاقات الأمّة لعقود طويلة، لكن هذه العوامل كلّها هي أيضاً أسباب مهمّة للتكامل والتوحّد السليم بين الأقطار العربية. فلا الأمن الوطني لأيِّ بلدٍ عربي يمكن تحقيقه بمعزل عن الأمن العربي العام، ولا التنمية العربية الشاملة ممكنة بدون تكامل الثروات والطاقات العربية المبعثرة والمستنزفة من قبل شركات الخارج أو في بلدان الخارج أحياناً أخرى.

بلا شكّ، فإنّ المدخل السليم لتكامل الدول والأوطان هو صلاحية النظام السياسي الذي تقوم عليه هذه الدول. فالبناء الدستوري السليم الذي يقوم على مرجعية الناس في الحكم وفي الوصول إليه، هو الأرض الصلبة المطلوبة لأي عملية تكامل بين الدول. هكذا كان درس التجربة الأميركية التي وضعت أولاً دستورها الشهير قبل أكثر من مائتي عام وجعلته المرجع الوحيد للحاكمين والمحكومين في ثلاثة عشرة ولاية، فإذا بهذه التجربة الدستورية والتكاملية تتطوّر على مدى قرنين من الزمن لتضمّ الآن خمسين ولاية أميركية هي في مجموعها اليوم أكبر قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية في العالم، لكن ليس بمقدور أي ولاية منها أن تعيش وتزدهر بدون الولايات الأخرى ونمط الحياة المشتركة الرابط بينها جميعاً، فهي وحدة "الكل" الجامع لخصوصيات متنوعة ومختلفة.

***

وفي رحلة الطريق هذه استمعت لبرنامجين إخباريين على المحطة الإذاعية (National Public Radio)، أحدهما عن العلاقة بين الدين والدولة، والآخر كان مقابلة هاتفية مع رامي خوري محرّر جريدة (الدايلي ستار) الصادرة في بيروت حول مسألة الهوية الوطنية في البلدان العربية.

البرنامج الأول كان حواراً مع سام هاريس مؤلف الكتاب الجديد الذي صدر هذا العام تحت عنوان "رسالة إلى أمَّة مسيحية" حيث يحذّر الكاتب من خطر نموّ التيّار الديني في الولايات المتحدة والتأثير المتزايد لهذا التيّار على صنع السياسة العامة الأميركية. ويعتبر المؤلف أنّ الدين هو العائق الكبير أمام سيادة العقلانية في المجتمعات وأنّ المطلوب هو التشدّد في فصل الدين عن الدولة.

البرنامج الآخر كان حواراً مع رامي خوري عمّا لمسه خلال زيارته لدولة الإمارات العربية ولقائه مع مجموعة من الشباب العرب هناك (إضافة إلى استطلاع جرى خلال فترة زيارته) حول مسألة الهوية الوطنية في البلدان العربية، وكيف أنّ هؤلاء الشباب يؤكّدون الآن على الهوية الوطنية بعدما كانت الهوية الإسلامية والهوية القومية العربية هما السائدتان في عقود سابقة.

وكانت ملاحظاتي على البرنامج الأول حول الدين والدولة أنّه تعامل مع الموضوع من منطلق مسلّمات في المفاهيم وليس من نسبية المعرفة والإدراك لطبيعة كلٍّ من الدين والدولة. ففي تقديري أنّ المشكلة ليست في إحداث "الفصل" أو عدمه بين الدين والدولة في أيّ مجتمع، بل المشكلة هي في كيفيّة فهم الدين وفي كيفيّة بناء الدولة. فالفصل بين الدين والدولة ليس ضمانة لتقدم المجتمع أو لتحقيق الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية فيه بدلالة تجربة الاتحاد السوفييتي التي جرى الفصل فيها بين الدين والدولة، ولم تنجح هذه التجربة في الاستمرار ولا في بناء مجتمعات واحدة ديمقراطية متقدّمة. أيضاً، نجد في التجربة العلمانية التونسية أنّ الفصل قد حدث لكن بلا بناء سليم للدولة وبشيء من العزل لدور الدين في المجتمع عموماً. وهكذا كانت التجربة التركية أيضاً في تطبيق العلمانية.

وهناك في العالم نماذج مختلفة من الدول العلمانية واللاعلمانية، وفي المجموعتين هناك أزمات كثيرة تتعلّق إمّا في كيفية فهم الدين أو في كيفية بناء الدولة. فقبل الوصول إلى الفصل المنشود بين الدولة السياسية والمرجعيات الدينية، فإنّ المجتمع بحاجة إلى فهم سليم للدين يحرص على قيمه ومبادئه وغاية وجوده في الحياة من حيث الدعوة للإيمان الديني والعمل الصالح في أيّ مجتمع، كما هناك حاجة قصوى إلى بناء الدول الخاضعة لمرجعية الناس فقط، ولفصل السلطات فيها.

أمّا البرنامج الآخر عن مسألة الهوية الوطنية في البلاد العربية، فوجدت نفسي أتساءل عن هذا الضياع العربي في موضوع الهوية، وكيف ينظر بعض العرب إلى دوائر انتمائهم بشكل متناقض دون أيِّ مبرّر موضوعي لذلك. فالانتماء للدين أو للتاريخ الحضاري الإسلامي لا يتناقض مع الانتماء للهوية الثقافية العربية ولا مع الانتماءات الوطنية المتعدّدة في أرجاء الأمَّة العربية. تماماً كما هو الحال الآن بين الولايات الأميركية أو بين بلدان الاتحاد الأوروبي. المشكلة هي الآن أساساً لا في كيفية رؤية هذه الانتماءات الثلاث: الدينية والقومية والوطنية، بل هي في هذا التفسّخ الحاصل داخل بعض الأوطان العربية، وفي تغذية الانقسامات الطائفية والمذهبية والأثنية.

فالتخلّي عن الانتماءات الجامعة بين العرب لن يؤدّي إلى تقوية الهوية الوطنية، بل إنّ ذلك هو مقدّمة للتخلّي عن الهوية الوطنية نفسها لصالح انتماءات طائفية ومذهبية ضيقة تدفع بصراعاتها إلى حروب أهلية عربية تدمّر الداخل وتفيد كلَّ مشاريع الهيمنة الأجنبية والإقليمية.

***

كانت رحلة سفر طويلة على طريق أميركية، لكنّها كانت مناسبةً أيضاً لوقفة خواطر مع النفس العربية، تلك التي تبحث الآن في جنس هويتها بينما الأعداء يطرقون الأبواب وبعضهم بات في الداخل!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى