الأربعاء ١٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم بلفراق فريدة

الصليب والعقل، الدبابة والأيقونة

إن الغرب يتناسى ماضيه،والشرق يقرأ التاريخ بعيون الموتى ،ونحن ربما في العصر الأخير من هذا العالم المليء بالمتناقضات ، وكأننا به عصر اختزل كل الأزمنة ، واجتاز كل المسافات الضوئية ليرسم صورة للصراع الأبدي بين الخير والشر ،وبين المعقول واللامعقول ليضع الانسانية في نقطة الصفر التي وقع حولها جدال بين الرب والملائكة في حوار استفساري مخلد في كل الكتب السماوية ،مصداقا لقوله تعالى : "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك .قال اني أعلم مالا تعلمون." ووضع ختمه السرمدي على هذا الكلام المقدس فخضعت كل الكائنات لذلك القرار الرباني بكل ما يحمله من نواميس ،وأبعادتاريخية تتعلق بحياة الانسان ،باعتباره محور الكينونة ومركز التفاعل لكل الأشياء المحيطة به.

ففي انجيل "متى "للعهد الجديد ، هناك فقرة يتكلم فيها الرب حسب المسيحيين عن محبة الأعداء بقوله:"سمعتم أنه قيل : أحب قريبك وأبغض عدوك،أما أنا فأقول : أحبوا أعداءكم وصلو لأجل الذين يضطهدونكم ،فتكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات ، فهو يطلع شمسه على الأشرار والصالحين ،ويمطر على الأبرار والظالمين فإن كنتم تحبون الذين يحبونكم ، فأي أجر لكم ؟ أما يعمل جباة الضرائب هذا ؟ وان كنتم لا تسلمون إلا على إخوتكم ،فماذا عملتم أكثر من غيركم ؟ أما يعمل الوثنيون هذا ؟ فكونوا أنتم كاملين ، كما أن أباكم السماوي كامل." [1]

وتأتي آية القرآن الكريم ،دستور المسلمين بقولها : "ادفع بالتي هي أحسن كأن الذي بينك وبينه عداوة ولي حميم " لتفند كل تحريف أو تزييف لحقائق الرسائل السماوية ،ورواسب الضغائن والأحقاد المستمرة في كل زمان ومكان ،والتي كانت ولا تزالتغلب كفة الشر على كفة الخير مما يقترفه الانسان ضد أخيه الانسان ،وما يذيقه من ألوان العذاب والمعاملات المدمرة البعيدة عن هذه التعاليم وتلك الشرائع.

ويقول أحد المفكرين الغربيين يدعى" Gustaveloubon"" جوستاف لوبون ": " طوال ستة قرون كان العرب ممدنين لأوروبا ، لما مدوها ،وعرفوها بالمعارف الفلسفية ، والعلمية ، والأدبية ،بل عن طريقهم اهتدى الغرب الى تراث الإغريق ."
وقد أيدته في ذلك المستشرقة الألمانية الشهيرة " زغريد هونكا" في كتابها الضخم " شمس العرب تسطع على الغرب " حينما قالت :"كل موجة علم أو معرفة قدمت لأوروبا ،كان مصدرها البلدان الاسلامية." [2]

كما أنها تحدثت كثيرا عن حالة العرب _تقصد المسلمين_ وحياتهم الفكرية والفلسفية والأسلوب الحضاري الي عاشوه دون سائر الأمم قائلة:"الحق يقال أن العاطفة الانسانية التي كانت رائدة العرب في معالجتهم للمريض أيا كان نوع المرض،وأيا كان خطره لهي مشرفة كل التشريف ولم يعرف لها الأوروبيون مثيلا ،بل لجأوا الى معاملة المرضى الذين لارجاء من شفائهم معاملة الحيوانات الضارية ، فكانوا يقصونهم عن المجتمع ،ويرمون بهم في أعماق السجون المظلمة وكأنهم مجرمون أشرار ، لاخير منهم ،ولا يستحقون رحمة أو شيئا من العدالة الانسانية، في الوقت الذي كان الأوربيون يتصرفون هذا التصرف ، كان العرب (المسلمون) يخصصون المستشفيات ، أو أجنحة منها لمرضى الجذام ،وغير ذلك من الأمراض المستعصية أو المعدية وكان عزل المرضى في أوروبا عن بقية البشر عملا حللته الكنيسة ،واشترك في تنفيذه رجال الدين ورجال الدولة مما جعل المريض يشعر بموته وهو حي ،وفي مثل ذلك الوقت كان فيه العرب ينظرون الى تلك العوارض والأمور نظرة علمية بحتة تدعمها التجربة ويغذيها البحث والتدقيق ،بينما كان النصارى الأوروبيون يقفون أمامها مكتوفي الأيدي ، مع سيطرة بعض الأفكار المهترئة والخرافية . [3]

ان المتأمل في مثل هذه الشهادات ومن أبناء الغرب خاصة ، تأخذه الدهشة والتعجب بل قد لا يصدق مايقال ،ويعتبره ضربا من الكذب ، ومبالغة في السخرية إزاء مايراه في الواقع العربيوالاسلامي اليوم فتختلج في نفسه حيرتين ،تتمخض عنهما أسئلة كثيرة منها ،لماذا انعكست الآية وانقلبت الموازين؟ ثم لماذا أصبح الغرب عربا ؟ والعرب غربا في عهود الظلام؟ والحيرة الثانية كيفية حصول هذا التغيير الجذري؟فأين ضاعت الحلقة المفقودة ؟ومتى وقع الانفصال وقطعت حبال الاتصال بين الأجيال؟

كل هذه التساؤلات تدور حول ذلك الانشطار الكبير والتقهقر ، لإكتشاف سر السقوط الكلي لأمة كانت في قمة الهرم ردحا من الزمن ، فإستيقظ خلفها فلم يجدو أنفسهم إلا تحت أنقاضه.
وبدأت الصورة التي رسمها التاريخ لأستاذ من جامعة "مونبوليه"Monpelier"، حين أخرج نظرية سنة 1348 في أوروبا،عام انتشر فيه مرض الطاعون ،يحلل فيها أسباب انتشار الوباء ،ويعللها بمسؤولية نظرة المريض ! وقد نصح ذلك الطبيب أو الكاهن الأوروبي أن يطلب من المريض اغماض عينيه ،ووضع خرقة عليهما قبل أن يعمد الى معاينته ،فتلك الصورة المقيتة انعكست في مرآة الواقع العربي والاسلامي اليوم ،وهي تنطبق على مجتمعاتنا الآن ،وتترسخ بعد مضي قرون طويلة لتعودالى أوساطنا المثقفة والجاهلة على حد سواء فيما نراه من ردود الأفعال السلبية ،والسيئة وغير المعقولة لمعالجة الأمراض ،بالشعودة والترانيم والطقوس الغريبة المبهمة .
وأمام الانحطاط الذي نتخبط فيه وضعفنا أمام الأمم ،أعطينا الفرصة للآخرين للإستهانة بنا وتحقير ديننا وقيمنا السامية التي طالما دسناها بالأقدام عن طريق الخنوع والركود وخور العزيمة وضعف الارادة والتذلل للغرب عن طريق الحكام المهزومين والمنكبين معظمهم على خدمة مصالحهم الدنياوية الزائلة،ففسح المجال واسعا للمتطفلين والجبناء المغرضين الحاملين لحقد تاريخي دفين ،لايريدون نفض الغبار عنه ،بل يحاولون في كل مرة طمسه واخفاءه بأكوام التبن المتعفن منذ آلاف السنين تحت دهابيز الدير والمعابد القديمة .

فحوار الحضارات المزعوم من قبل العديد من رجال الغرب ،وعلى رأسهم الكهنة والرهبان والمفكرين ماهو الاخدعة تاريخية ،يسعى هؤلاء من خلالها اثبات أنهم صناع الحضارة وحماتهاوملقنيها للمجتمعات البدائية والمتخلفة في نظرهم ،وفي طليعتها الشعوب الاسلامية ،وقد تناسوا الجذور الحقيقية والأسباب الفعلية للنهضة الأوروبية بعد القرون الوسطى الحالكة حتى القرن السادس عشر وفي المقابل ينظر المسلمون للشعوب والأديان نظرة احترام وتقديس وحسن معاملة اذ لم يثبت في يوم ما قيام عالم من العلماء المسلمين الكبار عبر التاريخ للإساءة الى الديانات الأخرى ، حتى وان كانت الديانة البودية ،على الرغم من معرفتهم اليقينية أن الدين عند الله الاسلام.

فكل الديانات السماوية تحظى بإجلال كبير لدى هؤلاء العلماء والمسيح عيسى نبي الله ،نحبه جميعنا مثلما نحب كل الأنبياء والمرسلين والمبعوثين من عند الله الواحد،رحمة للناس ولانفرق بين أحد مهم وعلى رأسهم الرسول محمد صلى الله علية وسلم النبي الخاتم ،فالاسلام هو الحقيقة المطلقة والمنطق السليم والعقل هو الذي يؤدي الى الايمان ،والقاعدة الأساسية للمعتقد الصحيح ،ومع ذلك لم يقم أحد من المسلمين بالاساءة أو الاستفزاز ، أو المس بمشاعر المسيحيين أو غيرهم في معتقداتهم ، أو طقوسهم على الرغم من أن كثيرا منها خيالي وغير منطقي ،ولايمت للحقيقة أو للإيمان يصلة ،ناهيك عن فضائح القساوسة والقضايا اللا أخلاقية المتورط فيها الكثير من الكهنة وأقطاب الكنائس ،من بينهم رؤساء وشخصيات مرموقة في تلك البلدان.

فلم يلتفت لها المسلمون للإشارة اليها بالبنان ،أو التشهير بتلك الحوادث ،متبعين تعاليم ربهم وحث نبيهم الكريم (لا اكراه في الدين )( لكم دينكم ولي ديني) (ادفع بالتي هي أحسن ) وغيرها من المبادىء المعاملاتية الراقية التي يدعونا الاسلام لتوخيها مع الآخرين ،سواء كانوا أعداء أم أولياء ،كما لك يثبت تاريخنا تولرط علماؤنا في فضائح ،أوجرائم منافية للدين وللقيم ،مما لطخ الكثير من رجال الدين في الغرب.
ولذر الرماد في عيون الرأي العالمي ،ولتمرير رسالة الحقد الدفين في خضم استقطاب الاسلام للأنظار ،خاصة في السنوات الأخيرة وبالخصوص عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 ،وفي لحظات التفاعل مع المستجدات المتناولة بقوة عبر الاعلام الدولي ،والتأثير الملحوظ في المجتمعات الغربية الذي أحدثته الموجة الارهابية ،بقيادة الزلايات المتحدة ،واسرائيل ضد الشعوب الاسلامية ،وظاهرة الشباب الانتحاري ورد فعله الذي يفوق كل التصورات في مجال التضحية من أجل قضيته مع البحث الدؤوب للكشف عن الاسلام ،وحقائقه المنطقية دفع ذلك بالكثير من شباب ومفكري وعلماء الغرب باعتناقه ،فبات خطر هذا الدين يداهم أوروبا وينافسها في عقر دارها ،وذلك فيه مساس بمصالح جهات كثيرة من بينها الكنيسة ورعاتها، فلا بد اذا من توقيف هذا التيار الجارف ومحاربة الاسلام وبنعته بأبشع النعوت ،وآخرها أنه الارهاب بعينه ،وأنه الارهاب بعينه ،ان قائده يدعو الى العنف والتمير وكل ما يشوه الصورة الجميلة التي رسمها أبناء الغرب الجديد.
لذلك يقف العديد ممن يخافون من الحق ،وأولهم البابا " بينيدكت السادس عشر "

كل في وقته الي يراه مناسبا ومن موقعه الاستراتيجي لمهاجمة هذا الدين الغريب الذي يكتسح العقول بمنطقه وجديته ويمتلك القلوب والأفئدة بالايمان الصادق لكن المشكلة قائمةفي موقف المدافعين عنه وهم يعانون التشرذم والضعف والاذلال ،مما لايدع للأمة فرصة الرد والتصدي الملائم سوى بالتنديدات والمظاهلاات الشعبية المقموعة عادة من طرف السلطة والصراخ عبر الشوارع ،والكتابة في الصحف والمجلات ،وذلك نصف الايمان .

فرئيس الفاتيكان ،كبير رجال الدين في أوروبا يضع كرسيه في مأزق تاريخي وديني وسياسي أمام العالم ، من خلال ماعرضه من أفكار بالية وحديث الايقونة المهترىء وما أساء به الى الاسلام ماهو بضار به الا نفسه و وستبي ذلك الأيام. فيبدو أن الشيخ الهرم ومن خلال تصريحاته ليس بمسيحي القلب والعقيدة ،لأنه خالف تعاليم الانجيل (الكتاب المقدس) وأخذ يهاجم من منبره ذلك ظلما وبهتانا دينا سماويا يدعو الى السلم والحوار والتسامح ،وذكر الرسول عليه الصلاة والسلام بسوء وهو يعرف جيدا لوكان رجل ايمان ،أنه نبي الرحمة والسلام ،فتطاول البابا بذلك على أوامر الرب التي يقول فيها حسبما ورد في باب الانتقام من انجيل متى :" سمعتم أنه قيل : عين بعين ،وسن بسن ، أما أنا فأقول لكم : لا تقاوموا من يسىء اليكم ،من لطمك على خدك الأيمن ، فحول له الآخر ومن أراد أن يخاصمك ليأخد ثوبك فاترك له رداءك أيضا ." [4]
فأين هذا البابا من ذاك الكلام المقدس ،والمتسامح الى أبعد الحدود ؟ فنحن لانريده أن يترك لنا رداءه المعفر بالخطايا وانما نريده فقط يعود الى تعاليم دينه الصحيح ،ويرجع الى خزائن التاريخ الذي لا ينسى ،وليتمعن مليا في البدع والخرافات ،وأنا سيج العنكبوت ،والخيال الذي يلف حياة الكثير من المسيحيين الباحثين عن الحقيقة الضائعة بين الجدران الخشبية المزركشة بالصور والمنمقة بالرموز الأسطورية ،ويسأل نفسه عن علاقتها بالصليب الذي لم يحمل سوى معنى القتل والحرب والاغتيال والارعاب ،والسيطرة منذ زمن المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام الى عصر الدبابة والابادة الجنسية والتدمير الانساني والحضاري بالقنابل العنقودية الفتاكة على أيدي الغربيين حماة الحضارة المزعومة والصليب المبتدع ،والدليل على ذلك هو أن الدول الاستعمارية كلها غربية وهي دائما تضطهد الشعوب باسم الحضارة أو الصليب محطمة كل القيم الأخلاقية والمثل الايمانية الحقة منذ بداية التأريخ البشري فالصليب بدعة والعقل حقيقة ،الاسلام منطق ،الدبابة واقع ،والايقونة خرافة .


[1انجيل متى ،العهد الجديد ،دور الكتاب المقدى ،الشرق الأوسط ،بيروت ط1 ،1995،ص12

[2زغريد هونكا،شمس العرب تسطع على الغرب ،منشورات دار الآفاق الجديدة ،بيروت ط6 ، 1981 ص541

[3المرجع نفسه ،ص274

[4انجيل متى ،المرجع السابق ،ص 12


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى