الأربعاء ٢٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم عادل الأسطة

العناوين والنهايات القصصية في مجموعة توفيق زيّاد " حال الدنيا "

I- العناوين:

يجدر في أثناء قراءة دلالات العنوان الرئيس والعناوين الفرعية في " حال الدنيا " الالتفات إلى أن الدراسات النقدية النظرية والتطبيقية لدلالة العنوان، بل وللنص المحيط بعامة، لم تكن شائعة ومعروفة، شيوعها وانتشارها في زمننا الحالي. ومن يلق نظرة على ما أنجز من دراسات نقدية لنصوص الأدب الفلسطيني، حتى نهاية الثمانينيات من ق20، حيث بدأ الالتفات إلى النص الموازي نظرياً وتطبيقياً، يلحظ هذا بوضوح. فقليلة، بل قليلة جداً، هي المراجعات النقدية التي أتى أصحابها فيها على دال العنوان( ).

ويمكن القول أيضاً أن زيّاداً نفسه لم يكن ملماً إلماماً نظرياً وتطبيقياً بهذا الجانب. لكن هذا لا يعني أنه لم يكن يفكر في عناوين لقصصه وقصائده، بل وفي شكل لوحة الغلاف. إن الناظر في غلاف " حال الدنيا "، في طبعتها الثانية التي صدرت بعد وفاة المؤلف، حين يقارنها بغلاف الطبعة الأولى، وهو الغلاف نفسه، مع تغير في الألوان فقط، يلحظ صورة رجل بلباس شعبية / فولكلورية، وهذا يتناسب مع العنوان الثانوي للمجموعة: قصص فولكلورية. ويدل هذا على أن ثمة تفكيراً في اختيار رسم ما يتناسب والعنوان أولاً، ويتناسب ومحتوى القصص ثانياً. إن القصة الأولى التي تتمحور حول شيخ القرية وخياطها، وتفصيل جبة جديدة كل عيد للشيخ يتناسب ولوحة الغلاف.

ولعل عدم إلمام زيّاد كثيراً بالمصطلحات النقدية النظرية الحديثة يبدو أفضل ما يبدو في بعض مراجعاته التي أنجزها لبعض المجموعات الشعرية الصادرة، مثل مراجعته لمجموعة محمود درويش الشعرية " عاشق من فلسطين " ( 1966) ( ).

ويذهب دارسو العنوان( ) إلى أنه يشكل رأس النص، وأنه أحياناً يعد بمثابة الموجه الرئيس للنص، فيما جسد النص يعد النواة، وأما الخاتمة فهي نتيجة النص ونهايته. ويعلن العنوان، كما يقول هؤلاء الدارسون، عن مقصدية المبدع ونواياه ومراميه الأيديولوجية. إنه مرجع يتضمن بداخله العلاقة والرمز وتكثيف المعنى، بحيث يحاول المؤلف أن يثبت فيه قصده برمته( ).

وعلينا، ونحن ندرس العنوان، أن نميز بين عناوين كلاسيكية وأخرى حديثة، إذ لاحظ الدارسـون أن العنوان الحديث يختلف عن العنوان التقليدي. وقد أتى على هذه الفوارق شعيب حليفي في دراسة تعد من الدراسات التأسيسية في الأدب العربي لاستراتيجية العنوان( ).

كان العنوان الكلاسيكي قضية تتم الإجابة عنها، فيما العنوان في المحكي الحديث هو علاقة تواصلية " فإذا كان الانسجام في الفكر الكلاسيكي يعني عدم الخروج عن النص، أي تحجيم سلطة التأويل وتقليص الاستعارة بوجهها الأكثر غرابة، فإن العنوان الروائي الحديث يكسر هذا الانسجام فنياً، فلم يعد يعبر بالضرورة عن الحدث أو الشخوص، بقدر ما صار يشكل عصياناً على النص( ). وهكذا فإن علاقة العنوان بالنص لم تعد، كما هو حال العنوان الكلاسيكي، علاقة سؤال – جواب، بقدر ما صارت علاقة سؤال ممتد من العنوان إلى النص، ولم يعد العنوان الحديث هو المعنى الوحيد الذي يحدده النص، بل إن النص يساهم في خلق مرايا ومعان متعددة للعنوان.

ولكن زيّاداً كتب قصصاً فولكلورية، أي شعبية وأرى أنه لم يخرج عن العنوان الكلاسيكي ومواصفاته، فعنوان قصصه يجمل القصة ويلخصها، وهو عنوان لا يحتمل تأويلات عديدة، إلا نادراً جداً. إنه عنوان واضح يقول الشيء مباشرة، مثل قصة زياد نفسها، القصة التي لا تحتمل تأويلات عديدة. ولننظر في العناوين، وهي:

 حال الدنيا.
 الشاهدان والمئذنة.
 الناموس.
 وجه البقرة الميتة.
 محمود لا ينسحب.
 كيف أصبح الحمار شيخاً للعسكر.
 عباس الصياد وديك الحجل.
 النحلة الملحدة.
 حكاية عن الحياة والموت.
 هكذا نحن.
 أختي أجمل مني.
 أبو حنيك وعبد القهوة.
 عن الباشوات والبكوات والحمير.

إنها عناوين يجد المرء فيها انزياحاً لغوياً، أو باستخدام مصطلحاتنا النقدية البلاغية، قلما يجد المرء فيها استعارة أو مجازاً والعنوان الوحيد الذي فيه جانب اسـتعاري هو عنوان " النحلة الملحدة "( ) ففيه لجأ زياد إلى استبدال مفردة بأخرى. واستخدام المفردة استخداماً مجازياً. وهذا الانزياح اللغوي بان أيضاً في القصة نفسها، فالقصة لا تخلو من رمز شفيف سرعان ما يكتشفه قارئها، بخاصة الذي عاش في سبعينيات القرن العشرين، أو الذي يلم بما جرى في تلك الفترة، وما قبلها بقليل، في العالم. ومثل هذا العنوان عنوان قصة " كيف أصبح الحمار شيخاً للعسكر؟ ".
وقبل أن أخوض في عناوين القصص، يجدر أن أتوقف أمام العنوان الذي اختاره الكاتب عنواناً للمجموعة كلها، وهو " حال الدنيا ".

وكما يلاحظ فإنه عنوان القصة الأولى، وأرى أن القاص كان موفقاً في اختيار هذا العنوان، دون غيره من بقية العناوين، بل وكان موفقاً في ترتيبه، حين أدرج هذه القصة في بداية المجموعة التي تبدأ وتنتهي به أيضاً. ونحن لا نقرأ عن حال الدنيا، كما يظهر في القصة الأولى، وإنما نقرأ عن حالها كما تبدي في المجموعة كلها، فكل قصة من قصص المجموعة تبرز لنا جانباً من جوانب هذه الدنيا، وهكذا فإذا كان العنوان عنوان القصة الأولى، فإنه أيضاً يمكن أن يكون عنواناً رئيساً لكل عنوان من القصص، فكل قصة تعكس جانباً من حال الدنيا.

وثمة أسئلة يثيرها المرء، قبل أن يلج إلى عالم القصص. وهذه الأسئلة قد يجد لها إجابة، حين ينظر في حال الدنيا في زمنه. وحال الدنيا في زمنه، قد يكون مطابقاً لحال الدنيا في الزمن الذي عاش فيه الكاتب، أو في الزمن الذي تجري فيه أحداث القصص، وقد يكون مختلفاً. وإذا ما كـان حال الدنيا في زمن الكاتب وفي زمن جريان الأحداث مشابهاً لحال الدنيا زمن قراءة النص، فإن القارئ، يخرج بنتيجة هي: إن ما تقوله القصص هو ما يقوله الواقع، وإذا ما كان حالها في زمنه مختلفاً، فإنه سيقرأ عن دنيا أخرى، عن عالم آخر. وهنا قد يصل إلى نتيجة أن حال الدنيا في الواقع غير حال الدنيا في القصص، وأن هذا الاختلاف قد يكون سببه أن القصص غير الواقع، أو أن الزمن المعيش، زمن القراءة، غير الزمن السابق، الزمن القصصي، أو زمن الكتابة.

وبما أن القصص فولكلورية – أي تراثية – فإنها تنتمي إلى الماضي، إلى الشعب أيضاً. وهكذا فإننا لسنا أمام زمنين مختلفين وحسب، وإنما سنجد أنفسنا أمام عالمين، بخاصة إذا كنا نعيش في واقع مغاير للواقع الذي يبرز في القصص الفولكلورية، وهذا ما يبدو لنا نحن، قراء هذه القصص، في بداية القرن الحادي والعشرين. إن أكثر قصص المجموعة تنتمي إلى عوالم أخرى مَضَى عليها زمن وأزمنة، وكثير مما يرد في القصص ما عاد موجوداً في زماننا نحن. إننا نقرأ قصصاً تنتمي إلى عالم لا يمت إلى عالمنا بصلة كبيرة. نقرأ هنا عن الأتراك وزوال حكمهم في فلسطين، بل ونقرأ عن الحاكم الجزار، ونقرأ عن بداية الانتداب البريطاني، ونقرأ أيضاً عن ثورات قاومت أمريكا في ستينيات القرن العشرين..

مكونات العناوين:

تحت مكونات العنوان يكتب شعيب حليفي في دراسته عن العنوان الرئيس والعنوان الفرعي( )، وعن خاصتي الغموض والحذف، وتحت هاتين يكتب عن تركيب العنوان، وهذا يتحدد في خمسة أنماط هي: الجملة الاسمية، الظروف، النعوت والصفات، النمط الجملي والنمط التعجبي. ويرى أيضاً أن هناك مكونات أخرى تنظر للعنوان نظرة متحررة وفاعلة وهي خمسة: المكون الفاعل، الزمني، الفضائي، الشيئي، والمكون الحدثي، والأحداث إما متحركة أو جامدة.
وعنوان المجموعة الرئيس هو " حال الدنيا " وأما عنوانها الفرعي فهو " قصص فولكلورية "، وهكذا يخبرنا زيّاد أننا سنقرأ قصصاً، وتحديداً قصصاً فولكلورية، وبذلك يقصي منذ البدء أي تأويل آخر يمكن أن نستحضره. فلو قرأنا العنوان الرئيس فقط، لربما ذهب بنا الخيال مذاهب شتى، وأوّلنا العنوان تأويلات عديدة أقصاها العنوان الفرعي. وكما ذكرت، ابتداء، فإن الإقصاء للتأويلات الأخرى يشمل العناوين الداخلية، عناوين القصص. إننا منذ اللحظة الأولى لولوجنا أي نص ندرك أنه قصة فولكلورية، بما تعنيه هذه المفردة التي تحدد الجنس الأدبي لقصص زيّاد.

وإذا ما توفقنا أمام خاصتي الغموض والحذف، أمكننا القول إن الخاصية الأولى شبه معدومة، فليس ثمة غموض في العناوين، وإذا ما كان الغموض موجوداً فإن النص سرعان ما يزيله، لأنه – أي النص يشكل إجابة وتوضيحاً. وتبقى خاصية الحذف.

إن إلقاء نظرة على عناوين القصص يظهر أنها غالباً ما تكون غير مكتملة. إننا أمام جمل أو شبه جمل أو مفردات، هي خبر لمبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف. تبدو العناوين ذات المكون الجملي في " محمود لا ينسحب " و " كيف أصبح الحمار شيخاً للعسكر " و " أختي أجمل مني "، وتبدو العناوين التي تشكل شبه جملة في القصص " حال الدنيا " و " وجه البقرة الميتة " و " عباس الصياد وديك الحجل و " حكاية عن الحياة والموت " و " أبو حنيك وعيد القهوة " و " عن الباشوات والبكوات والحمير "، أما العناوين التي تتكون من مفردة فهي " الناموس " و " الشاهدان والمئذنة " و " النحلة الملحدة. في الأولى نحن أمام مفردة واحدة، وفي الثانية نحن أمام مفردة عطفت عليها مفردة أخرى، وفي الثالثة أمام مفردة موصوفة.

ويمكن أن نقرأ أية قصة من هذه القصص على النحو التالي:

هذه قصة حال الدنيا أو حال الدنيا القصة الأولى من مجموعة قصص توفيق زياد، وهكذا دواليك. وقد يكون العنوان بهذا خبراً لمبتدأ محذوف، أو انه يكون مبتدأ خبره محذوف.
وإذا ما نظرنا في المكون لاحظنا المكون الفاعل حاضراً: محمود وعباس والنحلة وأختي وأبو حنيك وعبد القهوة والباشوات والبكوات والحمير. كما نلاحظ المكون المكاني حاضراً أيضاً: الدنيا والناموس والمئذنة. وأما المكون الشيئي فيبرر في: الشاهدان والبقرة الميتة والقهوة.

العنوان وصلته بالنص: قراءة في بعض العناوين:

سأتوقف أمام بعض العناوين، لا كلها، لملاحظة صلة العنوان بالنص، وطبيعتها.
القصة التي حملت المجموعة عنوانها، كما ذكرت، هي القصة الأولى، وقد أشرت إلى أن اختيارها عنواناً للمجموعة كان اختياراً موفقاً، وبينت سبب ذلك. ولا يقول العنوان هنا شيئاً عن حال الدنيا. ثمة حذف يمكن أن يقدره كل على ما هو عليه: حال الدنيا مائل، حال الدنيا سيء، حال الدنيا جيد، حال الدنيا يسر، حال الدنيا لا يسر…. وهكذا. لكن القصة، بعد الانتهاء من قراءتها، تعزز حالة من هذه وتقصي الحالات الأخرى.

لكان جسد القصة هو بقية العنوان الذي يبدو، من خلال قراءته، منعزلاً عن النص، عنواناً ناقصاً، عنواناً يثير تساؤلاً وتأتي الإجابة على السؤال من خلال القصة. وفي النهاية يدرك القارئ أن حال الدنيا، في نظر بعض شخصيات القصة، مائل ولا يبعث على السرور. يعاتب الشيخ الخياط الذي استغرقته خياطة الجبة ثلاثة أشهر، ويذكره بأن الله خلق الدنيا في ستة أيام، فيجيبه الخياط:

" – خلقها..؟ تقول خلقها في ستة أيام .. ؟! لقد عجقها عجقاً .. انظر حالك في المرآة يا سيدنا؟ قال في زهو، ثم أضاف في استخفاف ومرارة - " انظر .. حال .. الدنيا "( ).
وهكذا تكون هذه الأسطر جواب السؤال الذي يُثار في أثناء قراءة العنوان. النهاية هنا كأنما هي خبر المبتدأ المحذوف. وهناك قصص أخرى في المجموعة تكون نهايتها جواب السؤال الذي يُثار في البداية، أو تكون توضيح المقصود بالعنوان، ومنها قصة " هكذا نحن ". إننا لا نعثر على توضيح لهذه العبارة إلا في نهاية القصة، وتحديداً حين يقول أبو الميناء مخاطباً الحاكم البريطاني، موضحاً حال أهل حيفا تحت الحكمين التركي والبريطاني:
" – وهكذا نحن يا سيدي .. في العهد الماضي مركوبون وفي عهدكم مركوبون "( ).

إن ما حذف من العنوان هو الكلام التالي كما ورد في العنوان. وهو كلام وقع في نهاية القصة، لا في بدايتها، أو في وسطها.
هنا يمكن أن نقف أمام قصة " الشاهدان والمئذنة. وما من شك في أن خيال القارئ، وهو يقرأ العنوان، يختلف من قارئ إلى أخر، فالمؤمن الذي يصلي ويصوم ويسبح يرى في العنوان غير ما يراه غير المسلم، ممن لا يعرف – جزئيات الدين الإسلامي وطقوسه. قد ينصرف الذهن إلى أن الشاهدين هما رجلان يشهدان على شيء حدث قرب مئذنة، وقد ينصرف الذهن، لمن يمتلك مسـبحة، إلى الشاهدين فيها وإلى المئذنة فيها أيضاً. وتعزز القصةُ الأخيرَ. يخفي الكاتب من المسبحة التي يهديها للحاكم الشاهدين والمئذنة فيها، ويطلب من الشيخ الذي يريد الإيقاع به أن يحضرهما وليس الأمر سهلاً. وهكذا ينفي جسد النص ما ذهبت إليه مخيلة الشخص الأول.

هنا يمكن أن نقف أمام عنوان القصة التالية " الناموس ". والناموس في المعجم هو صاحب سر الرجل، والذي يطلعه دون غيره على باطن أمره، والناموس جبريل، والناموس الوصي، والناموس القانون والشريعة، والناموس الحاذق، والناموس بيت الصائد يستتر فيه عن العين، والناموس بيت الراهب، والناموس مأوى الأسد( ).
والذي يبحث عن معنى هذه المفردة، قبل أن يقرأ القصة، ينصرف ذهنه إلى هذه كلها، فهل يعقل أن تكون القصة تأتي على هذه كلها؟

إن قراءة القصة تعزز واحداً من هذه المعاني، وتقصي المعاني الأخرى مثل " أختي أجمل مني " و " أبو حنيك وعبد القهوة ".
وحين نحدد المعنى، وهو القانون والشريعة، نحدده أيضاً ببيئة معينة في زمن معين، فالقانون والشريعة يتغيران.
اعتماداً على مقولة " رفيق الخيال خيال " يسلم صاحب الفرس فرسه للسلوقي، مع أنه يعرف مسبقاً أنه سيسرقها. إنه لا يريد أن يخالف الناموس:
" أنا .. أنا أسلمتك ظهر " أم الريح " بسبب هذا أيضاً…. خسرت أم الريح وربحت شهامتي. لن يقول الناس أنني خنت ما تعارفوا عليه، بل سيقولون أنني صنتهم، وخنت نواميسهم، في أحلك اللحظات "( ).
وحين يعيد السلوكي الفرس لصاحبها، يخاطبه: " وأنت .. لا تحسب أنني أعدتها إكراماً من، بل إكراماً لنفس الناموس الذي خنته أنت "( ).

هكذا يتحدد قصد المؤلف في نهاية القصة التي تعود إلى مفردة العنوان، وإذا كانت هذه المفردة غير محددة في العنوان، فإنها تحدد في الأسطر السابقة، في نهاية القصة.

وحين ننظر في بعض العناوين نجد أنها تجمع الشيء وضده، ولا يتضح هذان إلا من خلال النص. في حين أن هناك عناوين تعلن شيئاً وتقصي شيئاً أخر لا نعرف عنه إلا من خلال المتن. يجمع عنوان " عباس الصياد وديك الحجل " بين الشيء ونقيضه. عباس الصياد شريف في صيده، وديك الحجل هو رمز للجاسوس الذي يسقط بني جنسه. يجمع العنوان بينهما، لَكنْ عباس يقتل الديك. وتجمع قصته " حكاية عن الحياة والموت " ما بين الحياة والموت، والحكاية كلها تتمحور حول هذه الثنائية الضدية، ولكنها تنتهي بانتصار الحياة على الموت، وربما لهذا آثر الكاتب أن تكون لفظة الحياة قبل لفظة الموت. ويجمع عنوان قصة " أختي أجمل مني " بين المتكلمة وأختها، لكن القصة تخلو من حضور الأخت. إن حضورها حضور وهمي القصد منه اختبار مشاعر الرجل. ويجمع عنوان " أبو حنيك وعبد القهوة " بين كلوب باشا والعبد الذي يوزع القهوة، ولكن القصة تنتهي بقتل الأول الثاني، لأن الأخير لا يرغب في وجود الأول. الأول مستعمر والثاني، مع أنه عبد، إلا أنه يسلك سلوك الأحرار، مثله مثل عنترة بن شداد، وخلافاً له يكون سادة القبائل الذين يفترض أن يكونوا أحراراً، لكنهم يسلكون سلوك الخاضعين العبيد. ولا يختلف عنوان قصة " عن الباشوات والبكوات والحمير ". إنه يجمع بين هؤلاء، فيم تجمع القصة بين الباشوات والبغال، والبكوات الحمير، ثم تقص عن بكوات كثر لا يوجد في البلاد حمير على عددهم ليركبوها. يقترن الباشا بالبغل، والبيك بالحمار، وكان يفترض أن يكون العنوان عن الباشوات والبغال، والبكوات والحمير، ثم أسقط لفظ الحمير، وبدلاً من أن يكتب " والبكوات الذين لا حمير لهم " أسقط لفظه البكوات واستبدلها بلفظه الحمير.

أما القصص التي تعلن في عناوينها جانباً من محتواها، وتغفل جانباً أخر، فهي " وجه البقرة الميتة " و " النحلة الملحدة ". يعلن العنوان في الأولى عن البقرة التي لها حضور في القصة، بل هي أساسها، ويغفل عن ذكر الحمار الذي يحضر أيضاً في المتن ليكون فداءً للبقرة. تموت البقرة ويبقى الحمار، وكان يفترض أن يذكر الحمار في العنوان، فحمار حي خير من أسد ميت، لكن البقرة هي الأهم لصاحبها الذي لم يتردد في التضحية في الحمار لأجل أن تبقى على قيد الحياة، لكن … وخلافاً لهذه القصة يعطي القاص في " النحلة الملحدة " الأهمية للنحلة، ولا يعطيها للزنبور إنه منحاز لها، لا للزنبور، ولهذا أبرزها، مع أن القصة تقوم على ثنائية النحلة/ الزنبور. الثورة الاستعمار. وبما أن الثورات، زمن كتابة القصة، كانت تحقق انتصارات وكانت ثورات بارزة، فقد أعطاها القاص الأولوية.
وإذا كان ثمة من ملاحظات حول العناوين فيمكن القول أن قسماً منها يبدو مباشراً وتقريرياً ويلخص مضمون القصة " حكاية عن الموت والحياة " و" أختي أجمل مني " و " أبو حنيك وعبد القهوة "، وهذا هو القسم الأكبر، في حين أن قصصاً قليلة تبدو ذات دلالة رمزية " النحلة الملحدة. وأما القصص التي تثير سؤالاً تكون القصة إجابة عنه فهي قليلة، وأبرزها قصة " كيف أصبح الحمار شيخاً للعسكر؟ " العنوان هنا سؤال، ونعرف الإجابة من خلال قراءة القصة، ولكن الإجابة هذه ليست نهائية، ففي حين يترك القاص الحمار يكتب للدجاجة والبقرة رسائل يفصح فيها عن طريق المجد الذي سار فيه، حتى غدا شيخاً للعسكر، نجد القاص ينهي القصة حول ما كتبه الحمار، مشيراً إلى أن هناك فارقاً بين ما كتبه الحمار، وما يراه هو – أي القاص – الذي يستبعد أن يكون شيخ العسكر حماراً. إنه – أي القاص – يقص قصته بناءً على الرسائل التي كتبها الحمار.

" ولذلك فإذا كتب أن فيما نقوله أي خطأ أو تجن فالحق عليه وحده..
وعلى فطنة – لم يكتب هو أن شيخ العسكر أصبح حماراً، وإنما كتب أنه هو الحمار.. أصبح شيخاً للعسكر، وفي هذا، كما ترون، فارق كبير "( ).

II- النهايات القصصية
في الكتابة عن النهايات في " حال الدنيا "( ) لا بد من مراعاة أمرين اثنين؛ أولهما ما الذي تعنيه النهاية في النص الأدبي فنياً، وثانيهما انتماء الكاتب لمدرسة أدبية معينة أو فكر معين، ورؤية هذه المدرسة وذاك الفكر للعالم. هذا يعني أن نعرف المدرسة الأدبية التي انتمى إليها زياد والفكر الذي اعتنقه، وعلينا فوق هذا كله أن نتوقف أمام اللحظة التاريخية التي أنجز فيها زياد قصصه، وما كانت عليه الأوضاع السياسية في حينه في العالم.
وفيما يخص الأمر الأول – أي ما تعنيه النهاية في النص الأدبي فنياً – يمكن القول إن الدارسين قسموا النص الأدبي إلى ثلاثة عناصر: العنوان والجسد والخاتمة، ورأوا في العنصر الثالث – أي الخاتمة – " نتيجة النص ونهايته، وهي تعود على بدء النص "( ).

هنا ننتقل إلى الأمر الثاني. لقد انتمى زياد إلى الحزب الشيوعي الذي يعتنق الماركسية اللينينية، وكتب أدباً موجهاً للشعب، بل إنه اهتم بأدب الشعب أساساً، ودعا أصحاب هذا الفكر إلى تبني الواقعية الاشتراكية التي تقوم أساساً على ركائز أهمها: حزبية الأدب والأديب وشعبية الفن. وكانت هذه المدرسة شائعة ومزدهرة في اللحظة التي أنجز فيها زياد قصصه. يومها كان العالم منقسماً إلى قطبين: الرأسمالية والاشتراكية، وكانت الأخيرة في مجدها، وكانت أفكارها منتشرة في كثير من بقاع الأرض، بل وكان انتشارها يزداد ويتسع. ومن يتابع الأدبيات العربية التي كانت تصدر، في حينه، ومن يتابع أيضاً المدارس الأدبية التي كان بعض الأدباء يكتبون من وحيها، يلحظ أن كثيراً من منتجي تلك الأدبيات أو مترجميها، وأن كثيراً ممن كانوا يكتبون من وحي هذه المدرسة الأدبية أو تلك، كانوا من أنصار الواقعية الاشتراكية. إن كتاباً مثل " معنى الواقعية المعاصرة " لـ ( جورج لوكاش )، أو مثل " ضرورة الفن " أو الاشتراكية والفن " لـ ( آرنست فيشر )، إن كتبا مثل هذه نقلت إلى العربية وشاع أمرها بين قراء العربية، وبخاصة بين الذين انتموا إلى الفكر اليساري( ). وهي كتب أتى أصحابها على الفارق بين الواقعية النقدية التي شاعت في أوروبا في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والواقعية الاشتراكية التي سطع نجمها مع انتشار ثورة ( أكتوبر ) في العام 1917. وثمة في كتاب " معنى الواقعية المعاصرة " إتيان على أهم الفوارق بين المدرستين( )، ومنها النهايات، فإذا كانت هذه في الواقعية النقدية ذات نزعة تشاؤمية، وهو ما يبدو في قصة مثل " مدام بوفاري " لـ ( فلوبير )، حيث تنتهي بانتحار ايما، فإنها في الواقعية الاشــتراكية ذات نزعة تفاؤلية، وهو ما يبدو في قصص كتاب مثل ( مكسيم جوركي ) صاحب رواية " الأم " التي تنتهي بانتصار الشعب وتمجيد أبنائه. وربما يتذكر المرء هنا أسطر ( برتولد بريخت ) المعروفة التي أوردها ( آرنسـت فيشر ) في كتابه " الاشتراكية والفن " وهو يتحدث عن الواقعية الاشتراكية".

" إذا كنت لا تزال على قيد الحياة فلا تقل أبداً أبداً إن ما هو أكيد ليس أكيداً
فلن تبقى الأشياء على ما هي عليه
و .. ما كان مستحيلاً يصبح واقعياً قبل أن تغرب شمس اليوم"( ).

وكان الاشتراكيون هؤلاء – أعني ( فيشر ) و ( لوكاتش ) – يميزون بين نهاية تفاؤلية ساذجة تلصق بالقصة، وأخرى تبدو مقنعة، ويبدو مؤلفها مؤمناً بأن النهايات السعيدة لا بد وأن تتحقق، وإن في زمن لاحق. لقد كانت لديهم رؤية تاريخية للصراع ترى العالم في تحولاته التي لا تسير أبداً في خط صاعدٍ دائماً. فقد تكون هناك انتكاسة هنا، وقد تكون هزيمة هناك، ولكن الطبقة العاملة لا بد أن تنتصر ذات يوم، ليسود العالم قدر من العدالة والحرية.

يكتب ( فيشر ) في كتابه المذكور:

" إن الواقعية الاشتراكية – أو بالأحرى الفن الاشتراكي – تتطلع إلى المستقبل فهي لا تكتفي بالنظر إلى ما يسبق لحظة محددة من لحظات التاريخ بل تمد بصرها أيضاً إلى ما سيعقبها "( )، واعتماداً على مقولات ( يوهانز بتشر ) يرى أن مفهوم الواقعية الاشتراكية موجود في كثير من الكتابات التي ظهرت قبل مولدها كنظرية محددة. إن ( بتشر ) يرى نظرة واقعية اشتراكية في أبيات ( شيللر ):

انهض بجسارة بجناحين
وحلق فوق عصرك
ودع المستقبل يشرق
ولو بضوء خافت .. في مرآتك( )
بل ويراها أيضاً في أبيات ( بريخت ):
الأحلام و " إذا " الذهبية
تستحلف البحر الموعود
بحر القمح الناضج
أيها الزارع قل عن الحصاد
الذي سوف تجمعه غدا
إنه ملكك منذ اليوم( ).

وهذا ما تجسد بوضوح في أشعار شعراء المقاومة الفلسطينية، ومنهم توفيق زياد. فعلى الرغم من هزيمة العرب المذلة في حرب العام 1967، إلا أن هؤلاء لم يروا فيها كارثة أبدية، وهؤلاء، ربما أكثر من غيرهم، كانوا ينطلقون من منطلق ماركسي، وكانوا قرأوا الكتاب اليساريين جيداً، وتركت كتابات هؤلاء أثراً عليهم. ولكي يدلل المرء على هذا، فما عليه إلا أن يقرأ أشعارهم وأشعار غيرهم من الشعراء العرب التي كتبت عقب الهزيمة. ففي الوقت الذي حفلت فيه قصائدهم بنزعة تفاؤلية، غلب على قصائد زملائهم العرب نزعة تشاؤمية تمثلت في احتقار الذات والتلذذ بجلدها، وهو ما بدا في أشعار نزار قباني ومظفر النواب.

يمكن هنا إيراد بعض مقاطع من أشعار زياد نفسه تظهر أنه، على الرغم من الهزيمة، لم يفقد الأمل في المستقبل، كتب بعد الهزيمة:

كبوة هذي وكم
يحدث أن يكبو الهمام
إنها للخلف خطوة
من أجل عشر للأمام "( )
وكتب مخاطباً الإسرائيليين:
" لا تقولوا لي: انتصرنا ..
إن هذا النصر شر من هزيمة
نحن لا ننظر للسطح، ولكنا
نرى عمق الجريمة
لا تقولوا لي: انتصرنا ..
إننا نعرفها هذي الشطارة
إننا نعرفه الحاوي الذي
يعطي الإشارة
إنه سيدكم – يلهث
في النزع الأخير
إننا نسحبه – من أنفه – سحبا
إلى القبر الحقير "( ).

وربما يجدر قراءة قصة " النحلة الملحدة "( )، على ضوء هذه القصيدة، و " النحلة الملحدة " قصة لا تخلو من دلالات رمزية، وفيها أيضاً إشارة إلى حرب حزيران التي أوحت للشاعر بكتابة القصيدة السابق ذكرها.
على ضوء هذا الكلام السابق يمكن أن ننظر في نهايات القصص هذه. ويفضل أن نستعرضها ابتداءً.
تنتهي القصة الأولى " حال الدنيا "، بانتصار من يعملون في الحياة على من لديهم قناعات متوارثة يؤمنون بها، ويرون أنها مضرب مثل لأنها هي الصح عينه. الشيخ الذي يقول للخياط إن الله خلق الدنيا في ستة أيام، وبالتالي يُعير الخياط، يرد عليه الخياط بأن حال الدنيا التي خلقت في ستة أيام ليس على ما يرام، خلافاً لحال الجبة التي خاطها، وبدت آية في الجمال والإتقان، حتى أنها لإتقان صنعتها جعلت الشيخ يصمت ويتراجع عما فكر فيه في اللحظة الأخيرة من اعتداء على الخياط الذي وفى بوعده في اللحظة الأخيرة، وأنجز جبة متقنة.

وتنتهي القصة الثانية " الشاهدان والمئذنة " بانتصار الكاتب على الشيخ. يريد الثاني أن يوقع بالأول، حين يحرض الحاكم قليل العقل على الكتاب، ولكن الكاتب يوظف ذكاءه فيوقع الشيخ في ورطة، ولا يخلصه منها إلا هو. الشيخ هنا يقص ولا يقول الحقيقة. إنه يلجأ إلى الخيال، ويوظف المعتقدات الدينية للإيقاع بالكاتب. إنه يزعم أن جبرائيل يأتي إليه ليلاً، وهو الذي يوحي له بكذا وكذا، وهو الذي يأخذه إلى مكة، وإلى أماكن أخرى، ولكنه في النهاية، حين يوقع به الكاتب، يقول:

[ " نسيت أن أقول يا مولاي إن سيدنا جبرائيل حلفني أن أقول لمولانا إنه يوصيه خيراً بكاتبه المخلص ويطلب أن يعلي مراتبه … "
وصمت الشيخ من جديد، ولكن نحنحة ثانية من الكاتب جعلته يردف من جديد:
- "ونسيت أن أقول أيضاً إن سيدنا جبرائيل قال لي أن هذه هي آخر مرة يأتي فيها إلي … "
كان الشيخ ينطق بكلماته هذه بصعوبة وكأنه يبلع سكيناً. أما الكاتب فكان يبتسم منتصراً ( )].
هنا نلحظ انتصار الكاتب واضحاً.

وتنتهي القصة الثالثة " الناموس " بعودة الحق إلى صاحبه. السلوقي اللص الذي يريد سرقة الفرس " أم الريح " ينجح في ذلك من خلال الحيلة، ولكن ذكاء صاحب الفرس، حين ينادي السلوقي باسمه، وهنا يُفاجأ هذا، يجعل السلوقي يعيد الفرس إلى صاحبها، وإن أكد للأخير أنه سيسرقها، ولكن بما لا يتنافى وأخلاق الصعاليك الذين ينتمي إليهم.

القصة الرابعة " وجه البقرة الميتة " ومثلها القصة الثانية عشرة " أبو حنيك وعبد القهوة " تنتهيان بمأساة. في الأولى تموت البقرة التي اشتراها صاحبها ليعيش من حلبها وحرثها، وفي الثانية يقتل أبو حنيك عبد القهوة ويطلب من الحاضرين أن يرموا جثته للكلاب. تموت بقرة عبد الله أبو سعدة لأنها مريضة، ولم تُعالج لدى بيطري، وربما لأنها كهلة، ولا تجدي معالجتها من خلال الشعوذة، كما لا تحقق الدعوات رغبة صاحبها الذي يطلب من الله أن يأخذ الحمار بدلاً منها. هنا بطريقة ما ينتصر زياد للعلم، ولا يشجع اللجوء إلى الشعوذة أو إلى الغيبيات. ويقتل أبو حنيك الإنجليزي ( كلوب باشا ) العبد الذي يسقي الآخرين القهوة، لأنه يرفض الاســتعمار ويتمنى، لو كان يملك ســلاحاً ساحقاً، إبادته. ويجوز أن نقول أيضاً. إنه على الرغم من قتل أبو حنيك عبد القهوة، إلا أنه في سلوكه هذا يعبر عن أزمته التاريخية، أزمته التي انتهت، بعد سنوات، على أرض الواقع بهزيمته، وعودته إلى بلاده. وإن لم تكن القصة قالت هذا، فقد قاله الواقع، وهو ما سيقوله زياد في القصة الثامنة؛ قصة النحلة الملحدة ".

في القصة الخامسة " محمود لا ينسحب "، ومثلها القصة العاشرة " هكذا نحن "، نحن أمام نموذجين شجاعين، وأمام مسؤولين يمثلان الجبن أو الاستعمار. محمود ابن الطبقة العاملة يدخل الجندية، ويرقى إلى ضابط، ولكن قبل تقليده الرتبة يجري له مسؤولون امتحاناً، يسألونه فيه أسئلة عديدة ليعرفوا كيف يتصرف في المعركة.

يسأله قائد الفرقة ماذا سيفعل مع رجاله إن كان يحمي جسراً وهاجمه العدو، ويجيبه محمود: أقاوم، ويسأله القائد: وإذا كان العدو أكثر عدداً فماذا تفعل؟ ويكون الجواب: أقاوم. ويسأله القائد: وماذا لو قتل رجالك وبقيت وحدك، فيجيبه: أقاوم. ويواصل القائد الأسئلة:ولكن لنفترض أنه لا فائدة من المقاومة. وأن العدو سيحتل الجسر حتماً، وعلى جثتك. فماذا تفعل؟ ويكون جواب محمود: أقاوم يا حضرة العقيد !! ( ).

وهنا يثور القائد، ويرسب محموداً في الامتحان، وهنا يعقب السارد منهياً القصة بالتالي:
" ويبدو أن محمود شعر بإهانة عميقة فنبر في غضب هذه المرة: - " ساقط .. ساقط لكن محمود ما ينسحب " قال ذلك وهو يستدير ويغادر المكان "( ).

لا تختلف القصة العاشرة " هكذا نحن "، في نهايتها، عن هذه. بشير الحيفاوي العامل في الميناء شخص محبوب من العمال الذين يطيعونه لشجاعته. يُدعي هذا من الحاكم الإنجليزي الذي حلّ محل الحاكم العثماني، مع وجهاء حيفا، ليســألهم الحاكم عن رأيهم في

الإنجليز، ويكون رأيه مخالفاً لرأي الوجهاء والمخاتير، فإذا كان هؤلاء يمالئون الحاكم أياً كان، فإنه هو يقول الحقيقة ولا يخشى من العواقب. وهكذا يُسمع الحاكم الإنجليزي كلاماً مغايراً لما سمعه هذا من الآخرين – " وهكذا نحن يا سيدي .. في العهد الماضي مركوبون وفي عهدكم مركوبون " قال ذلك وهو يلم بعضه وينهض يغادر المكان "( ).
وكما نلاحظ، تنتهي القصتان بإسماع المسؤول كلاماً لا يحب سماعه. وما دام هناك من يقول ما لا يعجب القائد أو الحاكم، فمعنى ذلك أن الأمور قد تصح، وقد يأتي يوم تتكاثر فيه هذه الأصوات لينتصر الحق. وأنّ ما كان مستحيلاً قد يصبح واقعاً قبل أن تغرب شمس اليوم.

وتنتهي القصة السابعة " عباس الصياد وديك الحجل " بقتل الديك. عباس صياد شريف لا يلجأ إلى الخدعة، ولا يفوقه في الصيد أحد، وتحدث المفاجأة عندما ينافسه صياد آخر يلجأ إلى الحيلة، ويحقق ما لا يحققه عباس. يربي الصياد ديكاً ليستدرج به الديكة من بني جنسه، وهكذا يحقق الصياد الثاني إنجازه في الصيد، وحين يكتشف عباس السبب يطلق النار على ديك الحجل أمام صاحبه الذي سأله لماذا فعلت هذا؟ ويكون الجواب:

" هذا جاسوس .. يجر على بني جنسه .. جاسوس .. "
وينهي الراوي القصة بالفقرة التالية:

" ولم يَبْدُ على ديك الحجل .. السمين حقاً، والجميل حقاً، أي ألم وهو يســقط مضرجاً بدمه. كان يموت بهدوء، وهو ما زال يبتسم نفس ابتسامته البلهاء،.. النذلة.. وكأنه يستجدي "( ).

ولا تخلو القصة من دلالة رمزية. إن المغزى منها واضح. كل جاسوس يعمل لحساب آخرين من غير بني جنسه، ويؤذي بني جنسه يستحق القتل. إن نهاية القصة هنا، على الرغم من أنه القتل، هي انتصار للحياة. ثمة صيد شريف، وثمة صيد غير شريف، وينتصر القاص للأول.
هنا أتوقف أمام القصة الثامنة " النحلة الملحدة " التي أتيت على ذكر عنوانها من قبل، وتحديداً حين استشهدت ببعض أشعار زياد. القصة ذات دلالات رمزية لا يستعصي فك مغاليقها على القارئ الذي واكب ما جرى في العالم في أوساط القرن الماضي وحتى اقترابه من النهاية. والنحلة الملحدة هي ثورات العالم الثالث التي تؤلم " سام الأخير " رمز أمريكا، إنها في نظر هذا / هذه نحلة تافهة بنت تافهة، كما يرد على لسان الراوي ساخراً:
" كيف تجرأت نحلة تافهة بنت تافهة أن تفعل هكذا بالمبعوث الخاص لسلطان سلاطين زمانه، سام الأخير! فعلاً .. إن الأمر لا يطاق! لا يطاق "( ).

وهذان السطران هما سطر القصة أو بيت القصيد كما يقولون.
تؤذي هذه النحلة الملحدة القوي سام الأخير – العام سام -، وليست وحدها هي التي تؤذيه، فثمة نحلة أخرى كانت آذت كباراً من قبل. النحلة المصرية، عام 1956، آذت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، والنحلة الفيتنامية آذت أمريكا، بمساعدة الدببة الحمر – أي الاتحاد السوفيتي في حينه. وكان يغمر أمريكا شعور من الكبرياء، بأنها تصنع التاريخ وتغير الحقائق القديمة بحقائق جديدة.

تنتهي القصة بالفقرة التالية:

" ملحق.
وصلنا الملحق التالي: عاد الزنبور إياه في يوم من أيام الخامس من حزيران ففقد ذاكرته ثانية. تناول حفنة من أقراص فقدان الذاكرة تلك وفعل السبعة وذمتها من جديد. وتقول الأوساط العالمة ببواطن الأمور إن مفعول تلك الأقراص قد قارب الانتهاء وبدأ الزنبور يحس بالهوة التي يقف على حافتها.
وطبعاً، سـنوافيكم بملحق آخر نطلعكم فيه على نتائج فقدان ذاك الزنبور لذاكرته ثانية.
نسخة طبق الأصل "( ).

هنا نلحظ ثمة تفاؤلاً لدى زياد، فعلى الرغم من انتصار الزنبور / أمريكا / إسرائيل إلاّ أنه بدأ يحس بالهوة التي يقف عليها. أليس زياد هو القائل:

" أي أم أورثتكم – يا ترى
نصف القنال
أي أم أورثتكم ضفة الأردن
سيناء وهاتيك الجبال
إن من يسلب حقاً بالقتال
كيف يحمي حقه يوماً
إذا
الميزان..
مال .. ؟؟( )

أما قصته " حكاية عن الموت والحياة "، فعدا أنها تمجيد واضح للحياة، من خلال العامل الذي يمجد العمل ويفكر بالحياة ويحبها ويقدم عليها/ حتى في اللحظة التي يلتف فيها حبل المشنقة على رقبته، عدا هذا فإنها تنتهي لصالح الحياة ضد الموت.

يصحو الرجل مبكراً، ويذهب إلى عمله، ويقابله في الطريق الحاكم الذي يقرر قتل من يراه في هذا اليوم من العام لأنه يوم شؤم له. وهكذا يسوقه إلى حبل المشنقة، وحين تبصره زوجته لا تسأل عن مصيره قدر ما تسأله عن مصروف يومها، حيث غادر ولم يترك لها النقود. وحين ينصب له حبل المشنقة يضحك، فيسأله الحاكم عن سبب ضحكه. وقبل أن يجيب يقول للحاكم إنه ذو لسان سليط، ومع ذلك يوافق الحاكم على الإصغاء له، لمعرفة سبب الضحك:
" لقد ضحكت يا مولاي لأنني فكرت فيك وفي امرأتي ناقصة العقل وفي نفسي فوجدت أنك أسخف الثلاثة .." ( ).
ويبرر كلامه:

" أما أنت يا مولاي، فقد نهضت قبل الفجر تبحث عن الموت لغيرك. صدفت رجلاً مبكراً في طلب الرزق، فما فكرت إلاّ في شنقه، دون ذنب جناه. وأما زوجتي ………. وأما أنا فقد وقفت وحبل المشنقة حول عنقي، انتظرت الموت. وبينما أنا أتملى من الطبيعة أودعها، انفتحت نافذة في ذلك البيت المقابل، ووقع بصري على بدن فتاة، نهضت من فراشها للتو. فنسيت وقفتي أمام الموت ورحت أفكر في الحياة، وفي ذلك البدن الشهي "( ).

ويترك الحاكم العامل، ويواصل العامل طريقه نحو عمله، وتنتهي القصة بالأسطر التالية:
" بقي أن نقول إن البلدة استقبلت مع شروق شمس ذاك اليوم مرسوماً موقعاً من قبل الحاكم، يقلب فيه يوم شؤمه السنوي إلى عيد عام للمدينة "( ).

ثمة بث لروح التفاؤل في القصة يعود إلى ذكاء العامل، وللذكاء حضور كبير في قلب سواد الواقع إلى بياض. الكاتب في " الشاهدان والمئذنة " كما لاحظنا ذكي، وذكاؤه أنقذه من ورطة. والحمار في " كيف أصبح الحمار شيخاً للعسكر " ذكي – مع أنه دموي – ولذا مر عبر الحدود. ويبرز الذكاء من جديد في قصة " أختي أجمل مني " التي تضحك فيها الفتاة الذكية على الشاب الذي يعشق الجمال فقط.

يفصح الشاب للفتاة عن حبه لها، مع أنه رآها لأول مرة. وتريد أن تختبره، فتخبره أن أختها أجمل منها، وأنها ستمر من هنا، فيتركها لينتظر أختها التي لا تمر. وتنتهي القصة بالفقرة التالية:

" – يا حلوة .. !! أختك ما مرت من هنا ..
 ليس لي أخت
  لقد كذبت علي إذاً .. ؟
 نعم.
  ولكن لماذا ..؟
 أردت أن أعرف إذا كنت تحبيني أنا حقاً..
 قالت ذلك وهي تواصل طريقها، دون أن تنظر إليه .. ( )

وأما القصة الأخيرة " عن الباشوات والبكوات والحمير " فتنتهي بضحك السلطان، وضحك وزرائه. ركب الباشوات البغال والبكوات الحمير، ولكن ظل جمع غفير من البكوات لم يجدوا حميراً يركبونها، فجاءوا مشياً. وكان يفترض أن يكون العنوان " عن الباشوات والبكوات والبكوات الذين لا حمير لهم "، ولكن المؤلف جعله " عن الباشوات والبكوات والحمير ". دولة يصح فيها قول ابن رشيق القيرواني:

مما يزهدني في أرض أندلس ألفاظ معتمد فيـهـا ومعتضد

ألفاظ مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً هيأة الأسد

تنتهي القصة بالفقرة التالية:

" – هؤلاء بكوات يا مولانا، ولكننا لم نجد في البلاد حميراً على عددهم..
واحتاج السلطان إلى هنيهة حتى يلتقط كلام وزيره، ثم فقس في الضحك. وظل يضحك ويضحك، حتى انقلب على قفاه وهو يرقص رجليه في الهواء من شدة الضحك. ولم يملك وزراؤه إلا أن يصنعوا مثله .." ( ).

الخلاصة:

تبدو النهايات في " حال الدنيا " نهايات تعزز نزعة التفاؤل، على الرغم من أن بعض القصص تنتهي بالمأساة. وليس هذا بغريب، فزياد، كما لاحظنا، كان يعيش في زمن انتشرت فيه مدرسة أدبية عززت نزعة التفاؤل، وهي مدرسة الواقعية الاشتراكية، ولم يكن الوحيد الذي يفعل ذلك، فمجايلوه من الشعراء، مثل محمود درويش وسميح القاسم، لم يتخلوا عن هذه النزعة حتى في لحظة هزيمة الأمة العربية في العالم 1967، وكانوا في حينه يدركون أن الهزيمة لا ينبغي أن تولد حساً تشاؤمياً، فحركة التاريخ تقول إن النصر في النهاية هو لقوى الخير، حتى لو عاشت الشعوب لحظات تراجع. حقاً إن " حال الدنيا " لا يسرّ، ولكن هناك نحلة ملحدة كانت تضايق الزنبور، وحقاً إن هناك حاكماً يريد القتل، ولكن هناك عاملاً يحب الحياة، ويتراجع الأول أمام الثاني، ويحول يوم الشؤم إلى يوم عيد، كما جعل العمال من الأول من أيار يوم عيد عالمي.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى