الثلاثاء ٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم جميل حمداوي

صورة طنجة في المتخيل الروائي المغربي

تأتي رواية "فراق في طنجة" للأستاذ الجامعي المغربي عبد الحي المودن لتقدم لنا صورة عن فاتنة الشمال، وطنجيس المغرب، وعروسة الشمال، وبوابة المغرب على أوربا ألا وهي طنجة العلياء والمدينة الفيحاء، بعد أن صورها كل من محمد شكري في رواياته الشطارية، ومحمد عزالدين التازي في مغاراته، ومحمد الدغمومي في بحر الظلمات، ومحمد برادة في الضوء الهارب... وقد صدرت الرواية ضمن منشورات الرابطة بالدار البيضاء سنة 1996م. إذاً، ما هي سماتها الدلالية و الفنية والجمالية؟ وما هي الأبعاد المرجعية والمناصية التي تستند إليها الرواية؟

1- المستوى القصصي أو الحكائي:

تصور رواية عبد الحي المودن طنجة باعتباره فضاء للمرأة والشبقية والعهارة والإجرام والتهريب ونسيان الهموم وإفراغها في الكأس والجنس و التلذذ بالبوهيمية العبثية. وتتضمن هذه الرواية قصصا متوازية ومتداخلة على غرار رواية "بدر زمانه" لمبارك ربيع. ويتحدث عبد الحي المودن في روايته عن تجربتين: واحدة عاطفية انتهت بالفشل والخيبة والفراق في طنجة، بينما الثانية قد اختتمت بجريمة قتل صاحب الفندق وسرقة الحقيبة المالية دون أن يكون أحمد الشخصية الرئيسية في القصة واعيا بذلك؛ لانغماسه في عالم الخمر والسكر وهذيان الحب والعطش الشبقي وانسياقه وراء الصوت الذي يطلب النجدة بعد سقوط الشاحنة في منحدر الجبل.

إذاً، يمكن الحديث عن رواية رومانسية خائبة ورواية بوليسية سببها سذاجة أحمد الذي كان ينفذ رغبات مريم ويساعدها في تنفيذ الجريمة تحت غطاء الحب المتبادل ولكن من طرف واحد. لأن أحمد كان يحب مريم بطريقة رومانسية مخمورة قائمة على الاشتهاء الجسدي وإيروسية الرغبة المكبوتة.

هذا، وتتحدث الرواية عن أحمد، وهو أستاذ جامعي يهتم بالكتابة ومعالجة القضايا والمشاكل، الذي قرر أن يقضي عطلته في طنجة ليجيب عن مجموعة من الأسئلة العالقة، وأن يعيد بعض العلاقات التي أرقته كثيرا ، ولاسيما علاقته مع ماري التي كانت تحبه كثيرا ولكنها كانت لاتثق به؛ لأنه كان يخونها مع جاكلين عندما كان طالبا بباريس مقيما في الحي اللاتيني. وهذا يذكرنا برواية (أوراق) لعبد الله العروي ورواية (الحي اللاتيني) لسهيل إدريس و (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم. هذه النماذج الروائية ونماذج أخرى كانت تؤثث حضاريا علاقة الشرق بالغرب من خلال تمازج الأنوثة بالرجولة. تقول ماري لأحمد:

"سلوكك محير حقا. أتحبني حقيقة؟ سألتك ماري بعد أن ودعتها إلى غرفتك في الحي اللاتيني بباريس للمرة الثالثة.

  نعم. نعم. أجبت كاذبا وأنت تشعل السيجارة.

 أنت لاتقول ذلك إلا للحصول على ليلة معي، كما فعلت مع جاكلين أمس.

  واضطربت. اللعينة. كيف عرفت ذلك؟ ولم تجد كيف تخفي انفعالك إلا بضربة قوية على الطاولة أسقطت كأس الخمر أرضا حتى انكسر.

  جاكلين ليست إلا عاهرة كذوبة.

  ولكنك نمت معها، وقلت لنا إنك تحبها هي الأخرى.

وتشبثت بكذبك بعناد:

  جاكلين تغار منك، وتعمل على تحطيم علاقتنا.

انتصبت ماري واقفة فجأة. لبست معطفها وتوجهت نحو الباب وهي تضرب الأرض بخطوات غاضبة.

  قد تنجح في الحصول على جسدي مؤقتا، ولكني لن أحبك مادمت تخاف من أفكارك وتخجل من سلوكك كما يفعل الأطفال الأشقياء. وأغلقت الباب وراءها بعنف" (ص42-43).

تصور لنا هذه الصورة المشهدية القائمة على التمسرح الدرامي علاقة المثقف العربي بالأنثى الغربية، وهي علاقة مبنية على الجنس وادعاء الحب وتزييف خاصية الصدق في العواطف. بيد أن كل ذلك الحب تصنع وهذيان إيروسي وخمر جنوني وتدخين مدنس وخيانة زوجية. بينما العاشقة الغربية تغرق نفسها في أحلام وردية، وتعلق آمالها على الفحولة العربية مثلما نرى ذلك في "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، وروايات حضارية أخرى تقابل بين الشرق والغرب مثل: (قنديل أم هاشم) ليحيى حقي...

ولقد انتهت علاقة أحمد/ ماري بالفراق وخيبة الأمل واستحالة العودة، وهو يودعها في المطار للمرة الأخيرة على غرار نهاية رواية الحي اللاتيني لسهيل إدريس وقنديل أم هاشم ليحيى حقي:

"عندما أخبرتك ماري بقرارها بالرحيل، ذاك المساء الممطر من أكتوبر، كنت تعتقد أنها النزوة العابرة التي تنتابها بعد كل خلاف بينكما. ولكن نظرتها التائهة، وجسدها المرتعش، وصوتها المتكسر وهي تكرر لك في المطار بأنها هذه المرة لن تعود، جعلك تستسلم، مؤقتا، إذا كان الأمل لايزال يراودك في أنها لن تلبث أن تتراجع بعد مدة. وانتظرت مكالمة منها أو رسالة. وسألت عنها كل معارفكما دون أن تعثر لها على أثر.

ماري! ماري! كم تحسرت منذ رحيلك على خيبتي في تحقيق السعادة التي كنا نبحث عنها معا طيلة عشرة العشر سنين. ولكن، ماذا كان باستطاعتي أن افعل، وأنا أشعر بالغربة القاهرة في وطني، وفي جسدي، ولم أجد الدفء إلا في جسدك؟"(ص8).

تذكرنا هذه العلاقة الموجودة بين أحمد وماري برواية المغربي عبد الله العروي " الغربة" التي ترصد تجربة مماثلة تتمثل في علاقة إدريس بطل الرواية بعشيقته ماري التي غادرت الوطن وتركته وحيدا يتآكل ويغوص في أعماق اليتم والتفرد والعبثسة المميتة.

وتعيد لنا رواية" فراق في طنجة" ذكريات أحمد الطفولية ونضاله الجامعي وعلاقته بأبيه والسخط الذي كان يناله منه حتى مماته على الرغم من الحنان الذي كانت أمه تكنه له ،وترجو أباه أن يرضى عنه ويتوب عليه.

لقد حاول الكاتب أن يسترجع كل ذكرياته، ذكريات الحب والطفولة والأسرة، لينغمس بعد ذلك في مغارة الشهوة والإباحة والسكر الجنوني، ليتعرف- بالتالي- على عالم آخر يسوده الهدوء في النهار والخبث والعربدة في الليل:

" قلت لألطف الجو:

  ولكن طنجة لطيفة على ما يبدو
 
  في النهار فقط، وفي الليل تصبح غابة لكل وحوش العالم"(ص14).هذا ماقاله مدير الفندق لأحمد الذي رأى في طنجة وداعة زائدة وتأدبا أنيقا. وهكذا يندمج أحمد في أجواء ليالي طنجة بعد أن تعرف خدام الفندق وبعض المشارقة (عبد الله)، والنساء العاهرات(فاطمة- مريم)، والقوادين المتعهرين (خالد- سليم).

يقول أحمد لخالد الذي كان يعد ديكورا جميلا للفندق بمناسبة الاحتفال برأس السنة الميلادية الجديدة:

" – أوليس الرڤيون مناسبة لرفع الأرباح؟

نعم، ولكن ليس عن طريق قبول كل من هب ودب. تسيير هذا الفندق يتطلب التركيز على نوع خاص من الزبناء، وتهيئ الجو المناسب لهم ليصبحوا أصدقاء البيت طيلة السنة. لقد درست في فرنسا، وتدربت في أرقى فنادق الريڤيرا، وأنا الآن لا أعتبر نفسي إلا قوادا للمهربين والشرقيين، أهيئ لهم حلبة جنونهم كل ليلة، وأتلقى في نشوتهم السخاء والشتائم.

وأدار وجهه الذي غطت فجأة تقاسيمه الوسيمة مسحة امتعاض، وشرب من كأسه جرعة كبيرة" (13-14).وكان أحمد يسلي نفسه المهمومة بالكتابة وإسالة الحبر في رصد ذاته والواقع الذي يعيش فيه. وتعرف الكاتب عبد الله ثري الشرق الذي عرفه بعشيقته فاطمة، والتي يود أن يتزوجها لينغمسا معا في أعماق كؤوس الويسكي وشهوة قيعان الفخذين اشتهاء وتلذذا.

وسنورد الآن مقطعا يجسد بكل صدق وأمانة صورة المغرب بصفة عامة، وطنجة بصفة خاصة عند المشارقة. وتتسم هذه الصورة بالازدواجية: مغرب الحرية والانفتاح والدعارة النسائية والشذوذ اللواطي على الرغم من بؤسه وفقره، وشرق الاختناق والكبت والعبودية والاستبداد على الرغم من ثرائه وغناه:
قال أحمد لعبد الله:

"هل هذه أول زيارة؟ سألته.

  لطنجة نعم، ولكني زرت الدار البيضاء مرارا. لم أقدم لك نفسي، عبد الله.

  وأنا أحمد. تصور أني بعد كل زياراتي لبلدكم لم ألتق قط بكاتب.

  إنهم نادرا مايوجدون في الفنادق السياحية،ثم استطردت حتى لايسيء فهمي:

  إن الفنادق حق غالية فوق المستطاع.

استأنفت الأكل بعد أن قدم له النادل السلاطة.

  إن سمعتنا سيئة جدا في هذا البلد، أليس كذلك؟

  إني أسمع أخبارا مثيرة عن أثرياء الشرق. ولكن لا أعرف مدى صحتها.

  الناس قد تبالغ قليلا، ولكني لن أتعجب من صدق هذه الأخبار...

  هل زرت المشرق؟ سألني وشرب جرعة من كأس الويسكي.

  كلا. كانت لي منذ سنوات رغبة قوية في ذلك، ولكني الآن لا أغادر العاصمة إلا نادرا.

  يجب أن تزوره لتعرف لماذا ننفجر في بلادكم، رفع رأسه وصوب بعينيه البارزتين تجاهي وقال بنبرة جامدة:

  المشرق جحيم لا يطاق. ثم أخذ جرعة أخرى من كأسه.

  ولكن المغرب ليس الجنة التي تبيعها إشهارات السياحة.

  أعرف ذلك جيدا، ولكن لديكم الويسكي والنساء.

  وهل تجد سعادتك فيهما؟ سأله بفضول حقيقي.

  إننا نشتري لحظات حلم نعرف جيدا أنه زائف نعود بعدها إلى واقع أكثر زيفا".(ص:16-17).

هذه هي صورة طنجة عند المشارقة، إنها فضاء الجسد والخمر والدعارة والتلذذ بالأحلام ونسيان زيف الواقع العربي. وتعد عند المغاربة – وأحمد منهم- مغارة العري والفقر والخمر المسكر وقضاء الأوقات السعيدة والترويح عن النفس وفضاء التناقضات الجدلية. إنها المكان المدنس وخلاء العهر والجنس والاستمناء. بيد أن طنجة تتحول في الرواية إلى فضاء يهدده العقاب الرباني بريح الشرگي (ريح تهب من الشرق شديدة الخطورة) وغضب الطبيعة. يقول الكاتب على لسان أحمد في مناجاة داخلية:

"انقضى الشرگي هذا الصباح بغضب على طنجة كلعنة تعاقب المدينة على حماقات لياليها. يهز النخيل بعنف فيتلوى كالمعذب يندب مصيره، ويرمي الرمل أكواما على أبواب الفنادق كما لو كان يريد إقبارها، ويلقي بالأمواج تباعا على صخور الجبل كأنه يريد اجتثاثها. وتتلقى غضب الشرگي بسكون المذنب المقترف المتعود على نوبات الغضب المؤقتة. (ص 39).

وهكذا تصور الرواية طنجة المباءة ، والمسخ الفانطاستيكي، المدينة الفاجرة العاصية التي يعاقبها الله بالرياح العاتية والعواصف المزمجرة المخيفة. تشبه طنجة في دنسها فضاء أوديب النجس بعد أن زنا بأمه. ومن ثم، عرفت مدينته طيبة Thèbes الخطيئة الكبرى. كما أن طنجة مكان الإجرام والسرقة والاحتيال الشطاري، ناهيك عن كونها مدينة الأخطاء والذنوب والمعاصي والكبائر وفضاء الهجرة والتهريب والليالي الحمراء المتوهجة بالاشتهاء.

غير أن أهم حدث مركزي في هذه الرواية يتشخص في الجريمة التي وقع الكاتب فيها دون أن يعي بأحداثها وتفاصيلها، حيث دفعه حبه لمريم في السقوط في أحابيل الجريمة دون أن يعرف ملابساتها الحقيقية. وقد تعرف أحمد مريم في ڤيلا سليم الفنان التشكيلي الذي كان يرسم لوحات شبقية يتأمل فيها جسد مريم عشيقة أحمد الجديدة. وهذا يذكرنا بفنان محمد برادة العيشوني في روايته "الضوء الهارب" الذي كان يرسم بريشته الماجنة أهواء طنجة وأحلامها الشبقية.

وهكذا يغرم أحمد بمريم بعد أن توثقت صداقتهما بفضل وساطة خالد صاحبه في الفندق، الذي عرفه بالفنان سالم قصد التواصل معه وقضاء ليلة حمراء في مرسمه الليبيدي. ولكن سرعان ماعادا الصديقان إلى الفندق ليكمل كل واحد منهما شغله المشتهى.

لقد صارت مريم وفاطمة الطالبة الجامعية التي تعلمت على يدي الكاتب خيالين يشتهيهما أحمد كلما عاد إلى ذاته لمناجاتها وخلق أحلامه للتلذذ بها بعد أن عاش الأستاذ تجربة شهوانية مع فاطمة عندما دخلت حجرته لتشاركه لذة الليل.

لقد ساعد أحمد معشوقته المزيفة (مريم) بدون علم أو وعي في نقل جثة صاحب الفندق وتهريب حقيبة الأموال أثناء مروره بالجمارك الذين كانوا يراقبون شاحنات التهريب، حيث وثقوا به احتكاما إلى وظيفته كأستاذ، وأن خرجته الخارجية مع مريم رومانسية وغرامية ليس إلا.

وهكذا نجحت العملية التي انتهت بهروب مريم وجنون خالد الذي خدعته مريم حينما هربت بالحقيبة بعد أن قتلا صاحب الفندق طمعا في أمواله الكثيرة، ووضعاه في مؤخرة السيارة التي قادها أحمد، وعبرت منطقة الجمارك المحظورة دون أن تثير السيارة أدنى شك أو ريب ليوصلها أحمد إلى الشاطئ، ليتم نقل الجثة في القارب لتقذف في أعماق البحر. وانتهت الرواية بحادث إحراق ڤيلا سليم وسقوط أحمد في منحدرات الجبل حيث لسعته النحل وانتفخ وجهه حتى أنقذه فقيه القرية الذي أعاده إلى الحياة وساعده على العودة إلى العاصمة على غرار نهاية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ.

بيد أن هذه العودة ستكون معلقة، بعد أن أقبل عليه مفتش الشرطة- وهو جالس على كرسي في المقهى- ليصحبه إلى مركز الشرطة ليستنطقه في حيثيات الجريمة طالبا منه أن يكتب أحداثها في أقرب وقت ممكن.

وهكذا تنتهي هذه الرواية الكلاسيكية بأحداثها البوليسية وأجوائها الرومانسية الخائبة . وتذكرنا الرواية بمجموعة من النصوص الروائية على مستوى الحوار والتناص ولاسيما رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ وبالحبكات السردية البوليسية الغامضة في روايات أگاثا كريستي .

2- المستوى السردي والخطابي:

إذا تأملنا الرواية من حيث مكوناتها السردية والفنية والجمالية، سنجدها رواية جديدة تعتمد على تجريب التوازي الحكائي على غرار" بدر زمانه"لمبارك ربيع، وتقطيع الرواية إلى عدة مشاهد وحكايات متجاورة وتركيبها من جديد كأنها لوحات سينمائية متحركة من خلال عملية المونتاج.ولعل مصدر المتعة في هذه الرواية- يقول محمد برادة- يعود إلى" اهتمام عبد الحي مودن بإحكام البناء على أساس من التراكب والتداخل بين القصص والفضاءات لكن من خلال حبكة تستمد مقوماتها من تشويق الرواية البوليسية، لتنقل دلالات تنغرس في حاضر طنجة وفي هموم المغرب. (تقديم الرواية من قبل محمد برادة ص:5). ومن ثم، فبناء الرواية محكم ونسيجها القصصي منسجم ومتسق عن طريق اللوحات المتوازية، والمقاطع المترابطة واللقطات الحكائية أو المشهدية الموحدة بالمونتاج ، كأن الرواية سيناريو لفيلم سينمائي هوليودي أو فرنسي، ولكن فضاؤه طنجة بأجوائها البيكارسكية والإيروسية والبونوغرافية.

وتعتمد الرواية من حيث المنظور السردي على تعدد الضمائر(المخاطب/ المتكلم)،وهذا ما يجعل رؤى الرواية متعددة (الرؤية الداخلية المبأرة من خلال ضمير المتكلم/ والرؤية الخلفية من خلال ضمير المخاطب). وبالتالي، تتداخل السيرة الذاتية مع الرواية البوليسية داخل المتن لتكون نسيجا قصصيا ممتعا يوحي بالأشياء ويدعو القارئ إلى المشاركة في إعلاء البناء وملء البياضات والاقتصاد في اللغة وإضفاء الدقة وتجنب الثرثرة المجانية والترهل الكلامي. (انظر مقدمة محمد برادة، ص:5).

وهكذا يستفيد الكاتب من المسرح في تأثيث الرواية بالمشاهد والمقاطع الدرامية، كما يستعين بالسينما في تقطيع القصص وتركيبها دون أن ينسى فن الرسم والمنظور لتحديد زوايا الرؤية والوصف وتزيين الرواية بمناظر سينوغرافية تصور طنجة في انغماسها وغرقها في زمن الأحلام والأخطاء.
وتصور الرواية فضائيا رحلة من الرباط إلى طنجة للتنفيس والتسلية والكتابة والإجابة عن كثير من الأسئلة المعلقة التي حملها الكاتب معه من العاصمة ليجيب عنها في طنجة في رحاباتها المدنسة.

هذا، وإن زمن الرواية هو زمن منحرف إلى الماضي عبر عمليات التقطيع والمونتاج والفلاش باك، إذ يعايش الكاتب عبر تداخل الماضي والحاضر والمستقبل تجارب الفشل والإخفاق وعبثية الهذيان في مغارة طنجة المدنسة.

ويوظف الكاتب الحوار والسرد غير المباشر إلى جانب المناجاة الداخلية لتصوير الصراع ومحاكاة الواقع وإدانته تعرية وتشويها رابطا الخاص بالعام بطريقة جدلية انعكاسية.

أما لغة الرواية فهي واضحة وصريحة وموحية في بعض الأحيان، تعتمد على قواميس لغوية تعود عليها القارئ منها قاموس الجنس والخمر والمغامرات الليلية والصعلكة العبثية.

3- المستوى المناصي:

إذا تأملنا مناص الرواية الخارجي سنجد العنوان يؤشر على بؤرة الرواية وحدثها الدرامي الذي يكمن في الفراق المأساوي وشرخ العلاقة الرومانسية التي كانت بين أحمد وماري أو بينه وبين فاطمة أو بينه ومريم. وقد انتهت هذه العلاقات بالفشل والخيبة في طنجة، فضاء الخيانة وانتهاز الفرص والنفاق وزيف العلاقات الإنسانية وموت الحب بين اشتهاء الجسد ومعاقرة الخمر والانغماس في أجواء المواخير وحانات طنجة الليلية. أما الإهداء فهو ترجمة للعنوان وتقديم لنموذج مغاير وبديل رومانسي حقيقي. إهداء إلى "بديعة الودغيري" أنثى المحبة والعشق والجمال والروعة السحرية. أما تقديم محمد برادة فهو تزكية للعمل وتشريح لمكونات هذا الإبداع وتشويق للقارئ لمتابعته والاستمتاع به.

وهكذا، تصور الرواية طنجة التناقضات بقدسيتها ودنسها، بما فيها من السكارى والمهربين والمجرمين واللصوص والمحتالين والزناة والعصاة، وبما فيها من الهداة والفقهاء ورجال الخير والصلاح.

وتدشن هذه الرواية- حسب سعيد يقطين- "لقاء مع الكتابة وهي تجربة للبحث عن الذات (فردية أو جماعية) وهي تتحرك في الواقع".(فراق في طنجة أو لقاء مع الكتابة- علامات، العدد8،1997،ص:8).

خاتمة:

يتضح لنا مما سبق، أن رواية عبد الحي مودن "فراق في طنجة" نص كلاسيكي من حيث المضمون، إذ تعالج موضوعا مستهلكا (الرواية البوليسية "الجريمة" والفشل العاطفي الرومانسي). كما أن الرواية نص سردي جديد من حيث الشكل، إذ تستند إلى خلخلة الزمن وتقطيع اللوحات السردية بطريقة مسرحية وسينمائية مع اعتماد طريقة التوازي الحكائي وتنويع السراد والضمائر وخاصة ضمير المخاطب الذي يشكل نقطة بارزة من نقط الحداثة في الكتابة السردية الراهنة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى