السبت ١١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

نِعْمَ الرجلُ أنت يا "أشرف"

لم يتعوّد "أشرف" أن يجد نفسه بلا عمل شهرين متتاليين.. وكان معتادًا أن يغدو كل صباح إلى عمله في الساعة السادسة متوجهًا إلى عمله في مدينة "كْفار سابا"، متنقلا بين ثلاث حافلات، تصل الأخيرة منها قبل السابعة بقليل..

واليوم ثمة أفواه خمسة بحاجة إلى من يزودها بالمأكل والمشرب والملبس على الدوام وخصوصًا مع بداية فصل الصيف.. ونفقات الناس جميعًا في هذا الفصل تتضاعف مع تضاعف عدد مناسبات الأعراس وما رافقها من عادات وتقاليد حتى تطال الغني والفقير بلا استثناء.. ومنذ أن تسلم رسالة الفصل من عمله واظب على شراء الصحف العبرية المشهورة من حانوت "عبد الله الفاطمة" القريب من حيه الذي يسكن فيه، وقراءة الجزء المتعلق بطلبات العمل.. وكان "آرييهْ" صاحب مصنع الورق قد تخلى عن خدماته متذرعًا بكثرة الإنتاج وقلة الطلب. ومن أجل التقليص في النفقات عليه أن يسرّح بعضًا من عماله العشرين، فوقع اختياره على "أشرف".

الرسالة التي تسلمها بيده، شعر بأن لها رائحة تنم عن أن "آرييه" لم يهُن عليه التخلي عن عامل من أبناء جلدته، وأن التخلي عن عامل عربي هو أهون السبل لديه.. فسّلم عليه وسلمه رسالة التسريح شاكرًا له خدمته المتفانية وإخلاصه في عمله من أجل مصلحة المصنع الذي يُطعمه ويُطعم أبناءه..

راح يتصفح الجرائد، مدققًا النظر، ويسجل على دفتر خاص أرقام هواتف المصانع ذات الشروط المتوفرة فيه ليسارع في الاتصال عارضًا نفسه وخدماته التي تكاد تخلو من أي خبرة سوى خبرة واحدة، وهي القدرة على تشغيل آلة تقطيع الورق وتغليفه. وكان كلما اتصل من هاتفه الخليوي وتحدث مع مدير مصنعٍ ما، وكشف عن هويته ومكان سكناه، أخبره أن رب العمل يحتاج إلى عامل يحمل بطاقة الإنهاء للخدمة العسكرية الإلزامية.. أو أنه اتفق مع عامل آخر كان قد حادثه قبله بساعة أو ساعتين.. أو أن المصنع لم يعد بحاجة إلى عمال وعدل صاحبه عن قراره لاستيعاب عامل جديد.. ومنهم من قالها بكل صراحة ووضوح أن العمل لا يناسب عمالا عربا..

أحس "أشرف" أن الدنيا قد أَغْلَقَتْ في وجهه أبوابَها وشعر بالحرج أمام كل من سأله من معارفه عما إذا وجد عملا جديدًا أم ما زال عاطلا عن العمل..

إن البحث بالمهاتفة لم يؤدِ إلى نتيجة إلا بعد ثلاثة أشهر، حين طلب منه أحدهم، وهو صاحب مصنع للحلويات والمعجنات، الحضور صباح يوم الاثنين في تمام الساعة التاسعة، من أجل المقابلة وكشف الهيئة.. ارتدى أجمل ما عنده من الثياب ثم سافر بالحافلة المتجهة من مدينة "بيتح تكفا" -والتي لا يزال العرب يطلقون عليها اسم "إملبِّس"- إلى مدينة تل أبيب..
هذه سكرتيرة جميلة تجلس في مكتب مبرّد، استقبلته ببرود شديد،لم يعرف أنها زوجة صاحب العمل إلا بعد أيام، وما وضعته من مساحيق وألوان على وجهها الناعم قد زاده بهاءً وجمالاً. كانت رائحة عطرها الفواح تملأ أجواء الغرفة. تلبس قميصًا شفافًا، شَقَّ صانعه أعلاه على هيئة مثلثٍ منفرج الزاوية كُلِّلَتْ أطرافه بورود بنفسجية صغيرة، حتى بدا من صدرها ثلثا ثدييها الطريين وكأنهما وسط حديقة ناضرة.. ولم يكن الآن في مقدوره غض البصر الذي تعوّد عليه منذ أيام دراسته حين كان ينصحه والده المتدين بذلك خوفًا من الوقوع في الحرام.. وحفظا للفرج ولم ينس تلك الكلمات التي سمعها منه وقد رددها عليه مئات المرات: "العين، يا بني، تزني .. والأذن، تزني. وإن الفرج ليزني .. والزاني يُزنى به ولو بجدار بيته..."
ملأ الاستمارة التي ناولته إياها وسجل تفاصيله الشخصية بدقة وجلس ينتظر مجيء صاحب المصنع.

لم تمض سوى عشر دقائق حتى ظهر رجل بملابس العمل، طويل القامة أبيض البشرة يبدو من وجهه أنه من أصل أوروبي.. خفيف الروح، بشوش الوجه وحاضر النكتة.صافحه وعرّفه بنفسه، وطلب منه أن يمارس عمله حالا، لكنه اعتذر لعدم استعداده لذلك واتفقا على بدء العمل من صباح اليوم التالي.

لم لايصغي "أشرف" إلى شرح "خيزي" في انتباه شديد حتى يتعرف على أصول الشغل وطبيعته في أسرع وقت ممكن.. ولم لا ينفذ التعليمات ما دام هذا العمل مصدر رزقه الوحيد. وهو لم يرث من أبيه أرضًا ولا مالا..

كان من بين عمال المصنع أربعةٌ رجال، كبار السن قصيري القامة ينحدرون من أصول يمنية، يعملون في المصنع منذ تأسيسه.. وكانوا كلما حانت الساعة العاشرة وهي ساعة الاستراحة جلسوا وتناولوا مساحيقهم الحارّة ومضغوا أوراق الشجر الذي يُعرف عندهم باسم شجر (الجات) وتحدثوا في مواضيع سياسية آنية شتى.. وانضمامه إليهم فتح لهم باب الحديث على مصراعيه فناقشوه في أمور الدين والسياسة واندفعوا يتهمون العرب بالضعف والجبن والإرهاب وأنهم دائما هم المعتدون..

إذا كانت خطورة الموقف هذه ستؤول إلى زيادة التوتر وحدة النقاش فما الذي يمنع "خيزي" من التدخل وفك النـزاع واحتواء الأمر قبل أن يتفاقم.. ثم كان تدخله الصارم. وطلب من كلا الطرفين الامتناع قطعيًا من الخوض في الأمور السياسية في مكان العمل.
لم يكن "خيزي" ليتوقع قدرة "أشرف" على إتقان العمل بهذه السرعة واكتسابه فن مهارة العمل، الأمر الذي أدى إلى زيادة الإنتاج وازداد معه الربح.. كان "خيزي" يراقبه عن كثب ويرقب كل أعماله ومدى صدقه في تنفيذ التعليمات.. فدعاه إلى مكتبه وقال له بحرارة:
 "أريد أن أعينك مسؤولا عن الوردية الثانية التي ستبدأ مع مطلع الشهر القادم.. وأرجو أن تكون عند حسن ظني.. وعليك أن تحافظ على المصنع كأنه لك.. وتشرف على العمال أثناء عملهم.. وسأضاعف لك راتبك".
 مسؤولا؟
 وعن وردية ثانية؟
 ومضاعفة الراتب؟؟

فليكن. هذا شيء عظيم. لم أكن لأحلم به من قبل.. أي حظ هذا!! لا تخف يا "خيزي" وسـأكون عند حسن ظنك.

ليلة كاملة لم يذق فيها طعم النوم.. قضاها متقلبًا في فراشه سارحًا في أجواء ماضيه وهو يفكر بالمنصب الجديد الذي لم يكن يحلم به في حياته.. فتذكر "أرييه" ومصنعه وكيف أنه قلّص من وظيفته قبل أن يتخلص منه.. وجال في خاطره إصرار والده على خروجه إلى ميدان العمل ورفضه لفكرة التعلم في الجامعة أو في الكلية رغم حصوله على معدل عالٍ في امتحانات الثانوية العامة.. وظل من يومها عاملا كادحا كأنه آلة حديدية تشتغل كل يوم منذ الصباح إلى المساء، ولم يتقدم في حياته قيد أنملة.. وكيف خاض معركة شرسة مع والده حين أراد الزواج من زوجته الحالية فعارضه في ذلك لما مرّ بها من ظروف صعبة.. ونقلته الذاكرة على جناح السرعة إلى أولئك الأقزام الذين سخروا منه ومن العرب في اليوم الأول الذي بدأ فيه عمله.. ولا يزال يذكر جرأته وشجاعته حين تصدى لهم بإرادة وحزم..

كان عدد عمال الوردية الثانية ثمانية.. منهم ثلاثة من العرب.. اثنان من أبناء عمه والآخر صديقهما. أرشد أحدهم ودلّه على طريقة تشغيل آلة قطع الشوكولاطة.. وطلب من الآخريْن تعبئة المنتج وترتيبه في صناديق ورقية وإلصاقها حالما تمتليء.

وليس من الحكمة أن يعاملهم معاملة خاصة، أو أن يجاملهم أو أن يتعامل معهم كما كان يتعامل من قبل.. الآن عليهم أن يطيعوه وأن يلبوا طلبه.. وإن رفضوا طُردوا من العمل.. ثم إنه ليس من المعقول أن يضحي براتب كبير من أجل صديق هنا أو قريب هناك.. ومن الممكن أن يحضر "خيزي" أو زوجته فجأة للمراقبة والاطلاع على أمور مصلحتهم في أي وقت يشاءون..
يكاد لا يُصدّق.. إذ كان في مكتبه وما كاد أن يخرج من بحر أفكاره ، وكانت الساعة قد اقتربت من التاسعة، حتى سمع صوت سيدته "لئورا" تقول له:
  مساء الخير يا "أشرف" .

نهض من مكانه فزعا ووقف إجلالا لها وقد انتابته مشاعر القلق، وساورته شكوك شتى في مجيئها في هذه الساعة المتأخرة.. ولما تجولا في المصنع وتفقداه وعادا إلى المكتب، اقتربت منه ووضعت يمناها على خاصرته ولثمت خده بقبلة طويلة لم يعهد مثلها من قبل.. إذ لم ترفع شفتيها عنه حتى ضمها بين ذراعيه فتحولت القبلة إلى قبلات ثم انكشفت عوراتهما والتصق الجسد بالجسد وانتفضت انتفاضة بعثت في نفسها اللذة والاكتفاء والطمأنينة.. وقالت له والبشر يملأ محياها:
  إنك رجل حقيقي.. ونِعم الرجل أنت يا أشرف.
ثم لملمت بعضها ، وهمست في أذنه قائلة: سنلتقي في مثل هذه الساعة بعد أسبوع..
ثم خرجت من المكتب تخب خبًا.

(كفر قاسم)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى