الخميس ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم أحمد يونس

لو عاد قطار العمر

لو عادت بنا الأيام, فماذا يا ترى كنا سنفعل؟ أو ما الذي كنا سنمتنع عن فعله؟ إلى أين كنا سنذهب؟ أو ما هي تلك الدروب التي كنا سنعلق في خيالنا على نواصيها عـلامـة الجمجمة والعظمتين؟ بأي فكر كنا سنتأثر؟ أو ما هي تلك المبادئ التي كنا سنكتب على أسوارها بالخط العريض منذ البداية لافتةً تقول: احترس! حقـل أوهـام. لو تقرر في مكان ما أن يبدأ العـمر مرةً أخرى من أول الشريط, فهل ـيا تـرىـ كنا سنكتفي بالتفرج عليه, كجمهور السينما المهـذب اللطـيف الذي ليس من حقـه سوى أن يتابع ما يجري أمامه على الشاشة صاغراً؟

بالنسبة لي ـأنا على الأقلـ لا يوجد ما هو أجدر بالاحتقار من الإجابات النمـوذجية, خاصة في قضيةٍ مصيريةٍ كـهذه. تسأل المذيعة البغبغان شخصاً ما, سياسياً كان أو فناناً أو سمساراً أو محامياً أو دجالاً أو لاعب كرة, مفكراً كان أو هباشاً أو طبيباً أو عالماً أو حتى قـواداً رسمياً: لو عادت بك الأيام, فهل كـنت ستسلك نفس الطريق؟ ولم أسمع أن واحداً فقط من كـل هـؤلاء جـرب أن يحطم أغلال الإجابات النمـوذجية. الرد الوحيد الذي سمعتـه ـمكرراً ألف مرةٍـ من الجميع هـو: لو عاد بي قطار العمر, لمـا اخـترت شيئاً غـير الذي كان. بالطبع لدى كــل واحـد من هؤلاء أسبابـه النفسية الخاصة التي تختلف من شـخص إلى آخر. ومع ذلك, فإن هـناك أحد ثلاثة قـواسم مشتركـةٍ بين الجميع: إما الغباء, أو الاستسهـال الناتـج عن الكسل العقلي, أو تمـلق الروح السـائدة المـيالة ـبطبيعة تكوينها التاريخيـ إلى الرضا بالمقـدر, أو كل تلك الدوافع مجتمعة.

قد تصلح هذه الإجابة النمـوذجية عاطفياً على المستوى الفردي, عندما يتعلق الأمر بشرب عصير قـصب تحت شـباك بنت الجيران, أو بـحوش المدرسـة حيث حاولنا يوماً أن نقلد بيليه, فكانت النتيجـة ثمـانية أسابيع في الجبس. قد تصلح هذه الإجابة النمـوذجية مع التجاوز, عندما يتعلق الأمر بمدرس العربي الذي قال تعليقاً على موضوعاتنا الإنشائية: لـمــا تبقـى كاتب كـبيـر, إوعى تـنسـى إن الأستاذ جابر هو اللي عـلمـك كان وأخـواتهـا, أو بالفتاة العسلية العينين التي استمعنا معها لأول مرةٍ إلى أغـنيـة: يا مـواعدني بكـره لعبد الحليم. قد تصلح عندما نكون في أمس الحاجة إلى استرجاع دعوات الأم أو نصائح الأب أو نظرة الجدة المشفقة, أو إذا استبد بنا الحنين إلى روائح الأمكنة التي أصبحت أثراً بعد عين, أو الأزمـنة التي ارتبطت في قاع ذاكرتنا بالحد الأدنى من الشـعور بالأمان.

أما بخصوص الشأن العام, فمعنى إجابةٍ كـهذه, بكل بساطة, أن يلغي الإنسان ذاكرته, وأن يفضل تدليك غدة الرضا عن النفس على إمكانية التعلم من الخطأ. معنى إجابةٍ كـهذه, أن نسمح لمن نصبوا علينا بأن يفعلوها معنا مرة أخرى, وأن نوقع على صك تنازل نهائي عن حريتنا لأول حاكم يعدنا بطرد المحتلين أو مقاومة الغزاة, وأن نصدق نفس الزعماء الذين طالما كذبوا علينا في الماضي. إجابةٌ كـهذه, تعني بالضرورة أن نضيع فلسـطين مرة أخرى, وأن نسمح مرةً أخرى بأن نكون قطعة شطرنج, على لوحة النزاعـات الدوليـة من أجل مناطق النفوذ, وأن نستنسخ التاريخ ـحتى بتشوهاتهـ لنظل نجتره في المستقبل. إجابةٌ كـهذه, تعني بالضرورة أن نصبح كوابور الساعة اتناشـر (يا مـجـبل عـلى الصـعيد. يأتي محملاً بأحلام الجنوبيين. ثم يعود محملاً بإحباطاتهم, أو ـربما أيضاًـ بجثثهم. معنى هـذا أن نتقدم نحو الماضي, وأن نلقي بالمستقبل خلف ظهورنا, ولا نتوقف عن الدوران في حتمية التاريخ التي تحولت على أيدينا إلى حلقةٍ مفرغـة!

لو عاد بي ـأنا شخصياًـ قطار العمر, لمـا اخـترت شيئاً من حياتي الماضية فيما يتعلق بالشأن العام, باستثناء هذا الوطن, على الرغم من كـل هذه المعاناة! على الرغم من كـل هـذه الـ(معاناة)...!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى