الاثنين ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٢
عبد الغني عماد
بقلم عاطف عطية

ثقافة العنف: في سوسيولوجيا السياسة الصهيونية

بيروت : دار الطليعة، 2001

عندما بدأت بقراءة الكتاب شغلني تساؤلان اثنان: الأول، هل يدخل العنف في صميم الإستراتيجية الصهيونية – الإسرائيلية، أم هو حالة عارضة تتوسلها الدولة لتثبيت نفسها وترسيخ أركانها؟ وإذا كان في صميم الإستراتيجية الإسرائيلية، فإلى أي مدى يتغلغل هذا العنف في قلب اليهودية كممارسة حياتية اجتماعية وسياسية على امتداد التاريخ؟ والتساؤل الثاني، إلى أي مدى تؤمن الصهيونية – الإسرائيلية بالسلم؟ وهل هي فعلاً قادرة، بحكم توجهها، على ممارسة سياسة السلام؟

بعد قراءة الكتاب زاد اليقين لدي بأن إسرائيل عصية على السلم، وغير قادرة على الاشتراك في صنع السلام.

لا شك في أن صدور هذا الكتاب في الوقت الذي اقتربت فيه المواجهة مع إسرائيل من الذروة، فلسطينياً وعربياً، وفي الوقت الذي تمارس فيه إسرائيل، سياسياً وعسكرياً، "ثقافة العنف" بأبشع صورها، يعتبر مساهمة ضرورية ومهمة.

الثقافة والعنف

منذ بداية الكتاب ، يعمد المؤلف الى إيضاح مسألة في غاية الأهمية تتعلق باستخدامه لمصطلح "الثقافة" الذي لا يمكن تعميمه على "المجتمع" الإسرائيلي، وعدم التعميم هذا يعود برأيه لسببين:

  الأول يعود الى أن التعريف السوسيولوجي لـ "الثقافة" يذهب الى أنها تعني تلك التوليفة في المعتقدات والممارسات والتوجيهات والأعراف والأخلاق والفنون التي يكتسبها المرء خلال تنشئته كي يصبح عضواً في المجتمع. فالثقافة وإن كانت عامة وفق هذا المضمون، إلا أن لكل مجتمع ثقافته ولكل ثقافة خصوصياتها. لكن الثقافة في الممارسة الصهيونية تذهب مذهباً آخر يقوم على القولبة والتنميط، لأن الصهيونية كحركة سياسية هي التي ابتدعت الدولة وأوجدت المجتمع الخاص بها على طريقة مغايرة للمنطق الطبيعي، حيث تنشأ عادة الدولة والحركات السياسية من داخل المجتمع. لقد امتلكت الصهيونية وفق الدراسة مشروعاً لإعادة تشكيل المعرفة والسلوك والتفضيلات والمواقف والنظرة الى الذات والآخر والكون والمرجعية الجماعية، ترمي من خلال بلورته وتجسيده الى إعادة إنتاج الشخصية اليهودية بإشراف وحضانة مرجعية تاريخية ميثولوجية توراتية.

  والثاني يعود الى أن المجتمع الإسرائيلي هو في واقعه خليط متنوع من الثقافات، فهو مجتمع مهاجرين، يمكن البدء بتصنيفه مع طائفة "السابرا" وهم المولودون في فلسطين، وصولاً الى طائفة "اليهود الروس" الذين لم يمض على قدوم بعضهم الى إسرائيل عام واحد. وبينهما الكثيرون القادمون من هنا وهناك، وهذا يعني أن هناك الكثير من النقاش حول الهوية الجامعة لهذه "الشعوب"، بل إن الإسرائيليين أنفسهم، حكاماً ومحكومين، أحزاباً وجماعات، لم يتفقوا بعد على هوية موحدة لمجتمعهم الاستيطاني وإن كانت تجمعهم وحدة الانتماء الديني، تكفي الإشارة الى أن المهاجرين الروس قد تم رسمياً التشكيك بيهودية ثلثيهم، ويخوض هؤلاء صراعاً مع المتشددين بلغ حدود استعمال قنابل المولوتوف، ولديهم أحزابهم وصحفهم ولغتهم وممثلوهم في الكنيست.

لهذين السببين حلت "ثقافة العنف" محل "الثقافة" بمضمونها السوسيولوجي أو حتى الأخلاقي، وهو المضمون الغائب أصلاً عن المجتمع الإسرائيلي، وثقافة العنف هذه، حاضرة كنموذج أو كقالب مؤدلج ومركز على العنف والاستيطان، والاصطفاء العنصري، حتى أصبح هذا المثلث، كما يقول المؤلف، عنصراً مركزياً وتأسيسياً في العقل الإسرائيلي المعاصر. فالعنف في كل المجتمعات يمكن أن يكون ظرفياً وعارضاً إلا في إسرائيل، فهو عنصر تكويني، وعضوي مندمج في صميم البنية ويتغذى مما تنتجه، ويتجذر يوماً بعد يوم طالما بقيت العنصرية وبقي الاحتلال والاستيطان.

يحاول الباحث منهجياً الحفر للوصول الى ظاهرة العنف المتمثلة في مرجعيتها الأساسية: الميثولوجيا التوراتية، ويتوسل المقارنة التحليلية التاريخية ليكشف الآليات التي تستخدمها الصهيونية في عملية تزييف الوعي من خلال انتقاء الملاحم والأساطير اليهودية وتوظيفها سياسياً، بعد اقتلاعها من سياقها التاريخي وإسقاطها على الواقع الراهن بفارق زمني يقارب الثلاثة آلاف سنة. أهمية هذا التحليل أنه استعان بعلم الآثار وبآخر ما توصل إليه كبار الباحثين الإسرائيليين المعاصرين ليكشف وهم وسخافة المزاعم السياسية الصهيونية. وبهذه الطريقة تكون الأركيولوجيا، بالإضافة الى شهادات من داخل البيت، قد قامت جميعاً بمهمة دحض الأيديولوجيا.

الكيان المأزوم

وفي إشكالية بناء النموذج يقارب عبد الغني عماد سوسيولوجيا نشأة الصهيونية وما نتج من كيانها الاستيطاني في فلسطين، والجديد في هذا النوع من القراءات هو توظيف تقنيات علم اجتماع المعرفة لكشف خصائص التربية وانفصام الشخصية الإسرائيلية المتأرجحة بين واقع الكيان المأزوم وأحلام الماضوية وذهنية الزمن التوراتي المفقود، وتخلص هذه المقاربة الى تبينان فائض العنف ومأزق القوة الذي تجد إسرائيل نفسها فيه.

ولعل المقاربة التحليلية لمسار وتطور الترانسفير والتهجير المنظم، والتي يستعرضها المؤلف بعمق ويخصص لها فصلاً وافياً، متتبعاً مراحلها منذ قيام الكيان الإسرائيلي، قد بينت بوضوح الآليات التي تم من خلالها تجسيد ظاهرة العنف في السياسة الصهيونية بممارسات منظمة ومؤسسات أخذت على عاتقها تنفيذ كل ما يرمي إليه السلوك المستند الى غطرسة القوة، قتلاً وتهجيراً جماعياً، يستهدف إلغاء الآخر أو تغييبه، وهو ما عبّر عنه التصريح الشهير لكبير حاخامات إسرائيل عوفاديا يوسف مع بداية انتفاضة الأقصى حين دعا الى إبادة الفلسطينيين وقصفهم بالصواريخ.

ويكشف الكتاب عن الوسائل والتقنيات المستخدمة في تعذيب الأسرى في السجون الإسرائيلية، وذلك من خلال شهادات حية لبعض من تعرضوا لها، ويتناول التقارير وبعض البيانات الإدارية الإسرائيلية الرسمية الناظمة لعمليات التعذيب، ومنها "تقرير لاندو" والذي كشف النقاب عن بعضه واعترضت عليه مؤسسات دولية عديدة تعنى بحقوق الإنسان.

وفي محور مهم يتناول حركة ما بعد الصهيونية ويشير الى الطروحات التي تبنتها هذه الحركة، والتي حاولت التنبيه الى الشوائب البنيوية في هذا الكيان، والتي أثارت نقاشاً كبيراً وواسعاً في الاوساط السياسية والأكاديمي الإسرائيلي. وعلى الرغم من تراجع هذه الطروحات اليوم، فهي لا تزال موجودة، وتشكل مدخلاً للبحث عن مستقبل إسرائيل، وقد أعاد توم سيغيف أحد البارزين في هذه الحركة، تعريفها بأنها كل محاولة لدرس الظلم الذي سببته الصهيونية، وهي أيضاً تهدف لإعادة تحليل تاريخ إسرائيل من وجهة نظر مختلفة عن الرواية السائدة. وفي مفهوم أكثر تحديداً، هي نظرية أو طرح، يعترف بمشروعية الصهيونية كحركة قومية لليهود، لكنها ترى أنه بدءاً من تاريخ معين فإن الصهيونية أنهت مهمتها التاريخية، واستنفدت شرعيتها بسبب الظلم الذي سببته للآخرين، والآخرون هنا ليسوا العرب فقط وإنما يهود أوروبا والناجون من الكارثة النازية واليهود الشرقيون والمتحدثون بلغة اليديش واليهود المتدينون والحريديم.

إذا كان الواقع العملي يشير الى هبوط حركة ما بعد الصهيونية، فإن هذا الهبوط يعني أن ما سمي بمعسكر السلام في إسرائيل لم يكن يريد سلاماً حقيقياً، ولم يكن خياره هذا استراتيجياً ولا يستطيع أن يكون، بقدر ما كان تكتيكياً يريد طارحوه توظيفه في المعارك الانتخابية والمناورات الداخلية لاستقطاب الرأي العام المنقسم بين العمل والليكود. ومن المؤكد حتى الآن أن حركة ما بعد الصهيونية لم تكن أكثر من "عدة فكرية" أو "أداة أكاديمية" أراد من خلالها حزب العمل مواجهة خصومه، وهي ليست أكثر من فخ يراد منه استدراج بعض المثقفين والأكاديميين العرب، وما أكثرهم، الى تأسيس تيار مقابل تحت عنوان "ما بعد العروبية" ليتقاطع التياران، على "الشرق أوسطية" كهوية تعبر عن حقيقة مطلوبة في بعض الدوائر تحت شعار "النهايات" الرائجة اليوم، فتكون بذلك "نهاية الصهيونية" التي تعاني كدولة وإيديولوجيا مأزقاً وجودياً، متلازمة مع "نهاية العروبة" التي تمثل انتماء تاريخياً وهوية حضارية وثقافية بمعزل عن الدولة، وفي هذا السيناريو – الفخ كثير من الغواية الأكاديمية والأبعاد السياسية التي تفتح الباب واسعاً أمام قواعد جديدة للصراع.

* * *

واللافت أن خاتمة هذه الدراسة الشيقة لم تكتب على عجل، ولم تهتم بتلخيص أبرز ما ورد فيهما، بل نحت منحى آخر تضمن قراءة إستشرافية لمسار الانتفاضة ولآفاق الصراع العربي – الإسرائيلي الذي يظهر تحت قلم المؤلف على شكل تصاعدي وتفاعلي سالب، ناتج من منهجين متناقضين لكل منهما ذهنيته الخاصة: فالأول يستند الى منطق "حق القوة" والذي تمثله إسرائيل في سلوك تجاوز كل الحدود ووصل الى حد ممارسة غطرسة القوة تجاه خصمه. أما المنهج الثاني فلا يزال يستند الى منطق "قوة الحق"، وهو منطق ورهان قد يكفي مرحلياً لما يوفره من مخزون تعبوي وأخلاقي، لكنه في النهاية ليس قادراً على المواجهة ما لم يحول قوة الحق الى مشروع مادي وسلاح سياسي يتمثل في خيار المقاومة.

لا شك في أن كل فصل في الكتاب يحتمل الكثير من النقاش على الصعيد السياسي، وبخاصة أنه يفتح ملفات شائكة وصعبة يحتاج كل منها الى كتاب منفصل. لكن سوسيولوجيا المعرفة، التي هي اختصاص الباحث ساعدته على التكثيف من جهة، وعلى الربط المنهجي من جهة ثانية، بحيث بقيت ظاهرة العنف الهدف الذي يطارده المؤلف، تحليلاً ورصداً وتدقيقاً، في السياسة الصهيونية وخلفياتها التاريخية والمعاصرة.

كتاب شيق ومزود بملاحق وجداول تتضمن نماذج منتقاة من المذابح وأعمال الإبادة الصهيونية (مكان ونوع الجريمة، نوع السلاح المستعمل، التاريخ، عدد الشهداء والجرحى، الجهة التي أعلنت المسؤولية)، إضافة الى جداول عن نماذج منتقاة من سجل الاغتيالات التي قامت بها الأجهزة الصهيونية بين عامي 1948 و1986 (الاسم، الجنسية، طريقة الاغتيال، مكان الاغتيال وتاريخه وملاحظات متنوعة عن كل عملية) فضلاً عن نماذج موثقة من عمليات القتل والتدمير اليومية التي وقعت بين 20/5/1947 و 31/3/1948 والتي أدت الى إخراج وتهجير الفلسطينيين من ديارهم.

بيروت : دار الطليعة، 2001

عن مجلة مؤسسة الدراسات الفلسطينية ـ ربيع 2002


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى