الثلاثاء ٢١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
"تلك الأيام" ليوسف اليوسف
بقلم ماجدة حمود

سيرة الفلسطيني بين لوعة الفقد وبطولة الروح

لم تكن "تلك الأيام" وهي السيرة التي كتبها الناقد الفلسطيني يوسف اليوسف سيرة ذاتية بالمعنى الضيق للكلمة، وإنما هي سيرة فهر الشعب الفلسطيني بأسره، إذ عايشنا لوعة غياب الوطن، وقد تركت ندوبا لا تفارق الروح، لهذا لن نستغرب أن تكون الجملة الأولى بعد الإهداء مفعمة بالشموخ ومغمسة بالوجع الروحي ونابضة بالقلق الوجودي وعدم الرضى "كل شيء يخلّ بواجبه نحوي"(1) مما يذكرنا بصرخة بيدرو بارامو "أيتها الحياة لا تستحقينني"(2)

لقد أحس يوسف اليوسف بحصار الحياة لروحه الحساسة، إذ أنهكته، منذ بداية تفتح وعيه، الهموم والمسؤوليات، حتى يمكننا القول بأن النكبة تركت بصماتها السوداء على وجدانه! لذلك عايشنا في هذه السيرة هول هذه الفاجعة، إذ لم يستولِ الصهاينة على فلسطين فقط بل استولوا على الفرح والجمال وكل المثل التي تتوق إليها الروح الشامخة للعلى!

وقد أخبرنا بنتيجة توصل إليها من خلال تجاربه الفاسية مع الحياة، وهي أن قيمة أي امرئ تحددها "درجة شعوره بالاغتراب في هذه الدنيا" وقد هزّ وجدانه قول المعري "ما كان هذا العيش إلا إهانة"

بدت الحياة، في نظره، وسيلة تدمير للنفوس الحساسة! إذ يغذيها الشر والزيف والخيانة، فكثيرا ما تنشأ سعادة إنسان من شقاء إنسان آخر، كما حصل في فلسطين! لهذا نحس بأن "تلك الأيام" أشبه بقصيدة هجاء لزمن أجوف، ينخره الشر، فيضيع فيه الوجدان وتنتهك المشاعر، إنه زمن يحتفي بالقبح ويدوس على الجمال!

تضعنا "تلك الأيام" أمام الأسئلة الجوهرية للوجود الإنساني، التي تؤرقنا، فنواجه أنفسنا بوعي أكبر، بعد أن عايشنا، في سيرته، بعض الحقائق التي صهرتها الآلام، ونغصها شعور الاغتراب والقرف من عالم مادي يمتهن الروح ويؤله القشور!

بناء على ذلك كله لن نستغرب أن يختار يوسف اليوسف العيش في الظل بعيدا عن الأضواء والجوائز رغم أهمية إنتاجه النقدي وتنوعه، إذ قدّم للمكتبة العربية حوالي عشرين كتابا، تناول فيها الشعر الحديث والتراثي، والرواية والقصة والتاريخ!

إن قراءة هذه السيرة تطرح علينا هذا السؤال: كيف استطاع يوسف اليوسف الاستمرار في هذه الحياة رغم هذا الدمار وهذا الظلم الذي عاناه؟ ورغم سيطرة النـزعة الانتحارية عليه منذ تفتح وعيه!؟

لقد شكلت الكتابة عزاء يخفف شعوره بالاغتراب! لهذا حدثنا في سيرته عن علاقة فريدة مع اللغة قائلا "إنني اتماهى معها إلى حد الوحدة والالتحام، وكثيرا ما قلت في سري أنا اللغة واللغة أنا...وأن اللغة منفاي الطوعي الذي أتمطى في جوفه، بل أجد ما يلزمني من حاجات روحية، إنني أوثر العيش في داخلها ومجالها على الاتصال بالواقع الذي تستشري فيه الشرور من جميع الأصناف...."(3)

باتت اللغة (التي يطالعها ويكتبها) منفى يقيه بؤس الحياة وشرورها، ويقدم له ما لذّ للروح وطاب، لهذا فضل العيش في فضائها الرحب على سجن الحياة الواقعية! وكي لا يتبادر للذهن أن اللغة الغربية هي المنفى الذي اختاره، كما فعل بعض المثقفين العرب، يسارع إلى تأكيد أن العربية منفاه الاختياري، لما تمتاز به من قدرة استثنائية "على تخريج الباطن ومدخراته التي هي مقومات الماهية الإنسانية الأصلية"

كما استطاع أن يجد في الكتابة قارب نجاة ينقذه من بؤس عالم بشع! فيستطيع عندئذ أن ينقذ من حوله! لذلك سعى عبر الأدب والنقد إلى بناء إنسان طموح للكمال يمتلك ذوقا ناضجا، يستطيع عبره معايشة قيم الحياة الخالدة (الجمال والحرية والفرح والحق) كي يصبح أكثر حساسية للذل والظلم، لذلك يرى أنه مطلوب من الشعر "الإيحاء للناس بأن الحياة البشرية لا تملك أن تتمتع بالأصالة، ثم بالقيمة، إلا إذا امتلأت بالعزة والكرامة واحترام الذات البشرية بوصفها الغاية النهائية للوجود."(4)

إذاً من واجب الفن العمل على تفتح الروح وارتقائها، عندئذ تمتلئ بالقيم الإنسانية التي تجعل الحياة ذات معنى، إنها قيم الأصالة التي تزيدنا رهافة وكرامة، فنرفض الذل الذي نعيشه، كما نرفض العدوان والظلم الذي يصفع كينونتنا كل يوم! إنه يحرضنا لنعمل من أجل حياة أكثر عزة وجمالا!

لذلك سعى إلى الربط بين الإنسان والشعر، فرأى أن انحطاط الشعر دليل على هبوط الإنسان إلى الحضيض! ورأى في الحرية رفيقة درب الشعر (والفن عامة) ودعا الشاعر ألا يرضخ عند ممارسته إلا لروحه ومحتوياتها النبيلة، فالنشاط الشعري هو إحالة على جوهر الإنسان النقي!

يحاول عبر نقده الإجابة عن أسئلة تقض مضاجع أدبنا، لعله ينقذ الساحة الأدبية من الفوضى التي تعيشها، لهذا مدّ الحركة النقدية بمعايير أصيلة تحدّد قيمة النصوص الأدبية، وتمييز جيّدها من رديئها!

وقد بيّن لنا أن الشعر الحديث يعاني نقصا في الخيال، لكن المثلبة الأكثر فتكا فيه هي غياب العنصر الوجداني الحميم، الذي يعني نضوب الطاقة الوجدانية والعاطفية، التي يراها الناقد الينبوع الأول للشعر العظيم!

إنه يرى أن على الفن أن يتجه صوب إنعاش الإنسان بإذكاء البطولة الروحية التي تعزّز الكرامة في أعماقه، كما أن عليه أن يتحسس الحنين إلى ما هو صلب ومتماسك، فنحن نعيش في زمن يفتقد رسوخ القيم الأصلية الصالحة لاستمرار الحياة! والصالحة لعودة الكرامة ألم تضع فلسطين نتيجة إفلاسنا الروحي والمادي!؟

وقد حمّل النقد الأدبي مسؤولية حماية النص الأدبي من الانحراف عن جادة الحياة والجمال، وهذا يعني الانحراف عن الذوق الرفيع والقيم الأصيلة.

ولعل إيمانه بأن الجمال سينقذ العالم، كما آمن دوستويفسكي قبله، منحه الأمل الذي يراه "صنو الماس" ويشبهه ببزوغ البدر في ليل دامس بهيم، لهذا قاوم فكرة الانتحار التي راودته منذ طفولته، فلاذ بعالم المثل التي هي الجمال الحقيقي، ولا ننسى هنا دور البيئة الدينية التي نشأ فيها في منعه من تحقيق رغبته في تدمير الذات!

ولعل ثباته على مبادئه، وعدم مجاملته لأية سلطة خير تجسيد لانسجامه مع ذاته، لهذا لن نستغرب انسجام حياته مع نقده، فقد عايشنا في سيرته الذاتية كثيرا من المقولات التي أسس عليها نقده! فلمسنا الحساسية المرهفة والفكر العميق، لهذا رفض أن يؤطر حياته ونقده بأيديولوجيات أو مناهج تجمّد الفكر وتقيد الطبع.

وقد منحته معايشة الطبيعة عزاء يضاف إلى اللغة، فتفيأ ظلّ جمالها، وشمخ مستندا إلى كبرياء جبالها، أنعشت روحه نضارتها، فأحيت الأمل والجمال في روحه، فنهض من يأسه يواجه القبح الذي يشوّه وجه الطبيعة وروح الإنسان!

أمتعتنا السيرة بلحظات صدق مع الذات، إذ لم نجده يسعى إلى تجميلها، فأبرز لنا نقاط ضعفه، وبعض زلات ارتكبها في حياته! وقد تمعن بلحظات الندم التي عاشها، ثم جلاها لنا قائلا: إن "أكثر الأشكال أصالة لتجلي الإنسان الصرف بكامل ماهيته ونقاء صيغته..." فاختزل ماهية الوجود الإنساني بالطيبة والشرف والأصالة، وجعلها مرادفة لماهية الضمير!

وقد استخلص من تجربته القاسية في الحياة نتيجة تعزينا، وهي أن الإنسان لا يكمن في شيء إلا في قدرته "على تحمل الشقاء والألم والعذاب، وليس في العقد الجنسية التي جعل منها علم النفس الحديث أوثانا تتمركز حولها البنية النفسية"

أعتقد أن ممارسته النقد على حياته الشخصية، كما مارسها على الأدب، أسبغ على سيرته فرادة، فأصبحت قراءتها متعة روحية وفكرية!

لكن كنا نتمنى لو خفّف من حدة لهجته التعميمية، خاصة حين تحدث عن الغرب واليهود، صحيح أن بعض هؤلاء هم سبب دمارنا اليوم، لكن بعضهم الآخر يقف إلى جانبنا، بل يقاتل معنا في خندق واحد!

لقد وصلت لهجته التعميمية إلى حد وصف اللغة الإنكليزية، التي يستطيع أن يقرأ بها ويكتب، بأنها "لا تزيد عن كونها صنف من أصناف الرطانة الهمجية المنفرة" ونسي أنها أمتعته، فتغنى بشعرائها (شكسبير، ووردزرث، ...) وبروائييها، حتى إنه في كتابه "مقال في الرواية" لا يرى رواية تستحق القراءة سوى الرواية الغربية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين!!

لكن رغم ذلك كله عايشنا في هذه السيرة مرحلة حرجة من مراحل أزمتنا مع الآخر الغربي والصهيوني، فتجسدت أمامنا بشاعة الظلم والقهر الذي قتل أحب الناس إليه (والده) ودمر الطفولة ببؤس مفزع!

من هنا لن نستغرب أن تسيطر لغة الهم العام على فضاء هذه السيرة، لكن ميزة هذه اللغة أنها باتت لغة الهم الخاص أيضا، فقد صاغ ضياع فلسطين الوجدان والأفكار والأحلام!

كما ظفرنا في هذه السيرة على وثيقة نادرة، نسمع فيها صوت الرجل وهو يتحدث عن حبه العذري، ومكانة المرأة الحلم في وجدانه! لكننا كنا نتمنى لو عايشنا الصراع الداخلي بين الحلم والرغبة، وبين المثال والحياة! فقد بدت لنا تلك العلاقة العذرية مفعمة بالجمال، لا تنغصها أية آلام!!

لا أدري لماذا ركز الضوء أستاذنا يوسف اليوسف على امرأة الحلم وأغفل امرأة الواقع (الزوجة، الحبيبة، الصديقة) ندرك أن فن السيرة فن حساس، ولكن باستطاعة من يملك لغة رائعة كلغة اليوسف أن يواجه ذلك التحدي! خاصة أن اللغة الحميمية هي التي تمنح السيرة جمالها وتأثيرها في المتلقي!

كذلك كنا نتمنى لو عايشنا الصراع الداخلي الذي ينشأ في داخل كل منا بين الإيمان والشك، وبين الغيب واليقين، خاصة أنه عاش في مرحلة توهج الفكر الماركسي والوجودي!

أخيرا لابد أن نشيد بمحاولته استغوار أعماقه وتقديمها بكل صدق، كما نشيد بدفاعه عن قيم أصيلة تبدت في مؤلفاته النقدية وسيرته الذاتية، كأنه يعلن لنا عبر كل ما كتبه: بأنه لن تعود فلسطين والإنسان في الشرق والغرب يعاني من الانحطاط الذوقي والخلقي.

الحواشي:

1. يوسف اليوسف "تلك الأيام" الجزء الثاني، دار كنعان، دمشق، ط1، 2006، ص7

2. هذه الصرخة لبطل رواية "بيدرو بارامو" لخوان رولفو، تر جمة صالح علماني، وزارة الثقافة، دمشق، ط 1، 1983

3. "تلك الأيام" ج2، ص176

4. ييوسف اليوسف "القيمة والمعيار" دار كنعان، دمشق، ط1، 2000، ص88


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى