الخميس ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٤
رواية للكاتبة الفلسطينية الصاعدة سحر الرملاوي
بقلم سحر الرملاوي

رواية لاجئة ـ حلقة 4 من 18

بدا و كأن مشوار السوق لن ينتهي بالنسبة لريم و إخوتها ، فيما حرصت الأم على دخول كل محل تجد فيه شيئا قد يحتاجه زوجها في غربته •• الأثواب الفضفاضة الفاتحة الالوان من أجل أخذ راحته بعد عودته للمنزل ، افرولات العمل ، المناشف ، الملابس الداخلية ، العطارة : بهارات ، و زعتر و ملح و الشيح لزوم البرد و الصابون المصنع من زيت الزيتون فهو لا يحب الشامبو ، و ليفة حمام جديدة و فرشاة أسنان و معجون و فرشاة شعر ، و زيت شعر ، و كانت الأم تتلفت على كل محل و تسأل الاولاد :

 هل نسيت شيء؟
فيهزون رؤوسهم فلا تقتنع و لابد أن تتذكر شيئا جديدا كلما نظرت في واجهات المحلات •• و أخيرا تذكرت الحقيبة التي ستحمل كل الاشياء ، و عندما استقرت في يد ريم فيما استقرت بقية الأغراض موزعة بين قاسم و بينها ، شعرت و هي تنظر للحقيبة الكبيرة بغصة فظلت تتمتم داخل نفسها بأدعية كثيرة تسأل الله فيها تقصير أيام الغربة و سرعة تحقيق الهدف و تستعيذ من أولاد الحرام و أفكار سوداء ألحت عليها ••
 ماذا لو مات الرجل في غربته •• ماذا لو تيتم أولادها و هم ما زالوا في أمس الحاجة إلى أبيهم يزود عنهم مصائب الحياة ، من سيزوج ريم و من سيختار لقاسم كليته و يخطط معه مستقبله ، من سيدلل سمر و يضعها في حجره كل مساء و يطعمها بيده و يدافع عنها ضد احتجاجات إخوتها •• من ، و آه من هــــذه المن •• من ســـيشاركها ليلها الطــــويل و فراشها الكبير ، و همومها الصغيرة ، لم تعرف لنفسها منذ مات أبوها أحدا سوى زوجها •• لم تعرف حقا معنى الفراق الذي عانى منه زوجها طوبلا و تقلب من أجله على فراش الشوك سنين عمره كلها ، فهل آن الآوان أن تطعمه ، هل ستعيش ما بقي لها من أيام تعاني شوقا و حنينا ، لقد كان رجلا فلم يكن يبكي ، أما هي فهل تملك إلا الدموع ، هل ستصبح الدموع سلوتها حتى يعود زوجها •• و ما بال الأخريات ، نصف نساء الشارع أزواجهن يعملون خارج مصر ، لماذا يخيفها عمل الرجل في الخارج و هو الأمر الذي اعتاد عليه الجميع ، هزت رأسها و كأنها كانت تكمل حديثا مع أولادها سمعوها تقول :
 و ماذا لو سافر •• إنه ذاهب إلى أطهر أرض •• بلد المصطفى عليه السلام •• سيعمل سنة أو سنتين ثم يعود ، و ننسى الغربة ، و يتعلم الأولاد و تصبح الحياة أفضل و ربما صار لنا بيتا نملكه •• أليس كذلك يا أولاد ••؟
لم يرد احد ، و هي لم تنتظر حتى أن تسمع همهماتهم ، أرخت طرحتها السوداء الشفافة على وجهها و كأنها تدرء بها رياحا وقضمت طرفها باسنانها و سمحت لدموعها أن تسقط بهدوء •

***

أزف موعد الرحيل و هذه الليلة كانت آخر ليلة ، هكذا سماها الأب و هو يبتسم مشجعا لأهل بيته بينما يضع آخر حمولة مما حمله اليوم إليهم من السوق ، كل أنواع الأطعمة التي تكفي البيت شهرا ، أحضر الدقيق و الأرز و السكر و الزيت و السمن و حتى علب الكبريت و علب البسكويت التي تحبها سمر و الصابون الذي يحتاجه البيت و لحم كثير و خبز أيضا كل شيء أحضره الأب و حمله معه قاسم قال :
 إيه يا أولاد ، هذه هي آخر ليلة أبيتها معكم •• هل تحتاجون لشيء بعد ••
كانت الأم و الابنة تحملان المواد بين الصالة و المطبخ و الأم تقول :
 لما كل هذه الأغراض ، هل ستنتهي الدنيا فلن نجد قوت يومنا ، أم هل سيتوقف العالم عن توفير الحاجيات ، ما كل هذا يا أبا قاسم ؟
و يتمتم الأب من بين غمامات رهبته المخفية :
 ستحتاجون هذه الأغراض ، لست أعرف متى سأتمكن من إرسال النقود إليكم ، لا أحد يعرف ظروف الغربة الجديدة ••
بعد ساعة كان الجميع حول سفرة العشاء ، و بدا أن الكل يزدرد طعامه إزدرادا فلا يستسيغه و لا يحس له طعما ، و خيم الصمت ، و بعد العشاء و فيما أكواب الشاي تدار على الجميع قال الأب :
 ريم و قاسم ، أريد منكما عهودا و مواثيق ، و أريد صـــدقا و مســــئولية ، و أريد صبرا و طريقا مستقيما لا يصيبه العوج لأي سبب كان ، فهل أجد ما أريد لديكم ؟
أخفت ريم وجهها خلف جرم أمها و لم تنطق ، في الواقع كانت جدا مقلة في الكلام في الأيام الأخيرة فيما تحدث قاسم كرجل قال :
 لك ما تريد و أكثر يا أبي •• أنت تسافر و قد تركت رجلا هنا بين أهلك ، لا تخف ، نحن نقدر تماما غربتك من أجلنا و لن تسمع عنـــا أو ترى إلا كل ما يريحك و يطــــمئن بــالك و يشعرك إنك لم تكن مخطئا حين اعتمدت علينا في إدارة شؤون حياتنا بدونك و إلى وقت قصير فقط إن شاء الله ••
 بارك الله فيك يا بني ، و أنت يا ريم ما هو ردك ••؟
حاول أن يرى وجهها ، لأول مرة منذ أسبوع على الأقل يبحث عن وجهها ، كانت تتعمد ألا يراها ، و كان يتعمد ألا يراها ، كان يشعر أن حبل موصول من حديث لا ينقطع موجود بين قلبيهما و أن الحديث مهما بدا مهما لا يعني شيئا ، كان واثقا أشد الثقة فيها و يعلم كم تتعذب و يعلم أنها تحمل ضميرها الغض مسؤولية غربته القادمة ، لذا آثر و آثرت الصمت ، لكنه الليلة كان مصرا على قطع هذا الصمت ، على اخراج الكلام من قلب قلبها و من قلب قلبه رفقا بها و بنفسه ، لذا أصر على مواجهتها ، أصر على أن تقابل عيونه عيونها و أن يتحدثا الحديث الذي منعاه منذ قرار السفر ، ظل مـــركزا نظره باتجــــاههـا و ظلت لفترة قليلة مختفية وراء أمها ، إلا أنها لمست نظراته عليها و شعرت بها حريقا في جسدها و نداءً ملء وجدانها و لابد أن تلبيه ، أخرجت نفـــسها من حيز الخفاء المتعمد و تطلعت إلى أبيها ، كانت عيونها مغسولة و حزينة و مليئة بالكلام ، ظلت صامتة ، حاولت أن تشد الكلام من أعماقها لكن الحروف كانت عصية ، غريبة لا تحمل معنى ، حركت فكيها و بدا أن همهمة خرجت منها و لكن صوتا لم يسمعه أحد منها •• تقلصت ملامحها و حرقها أنفها فكزت على شفتيها و انــدفــــع قلبها في دقــات ســـريعة متـهورة و عنيفة و لم تشعر بنفسها إلا و عبراتها تطارد بعضها بعضا في سباق محموم ، التفتت إليها الأم ، نظرت إلى الأب ، دعته أن يفعل شيئا بعيونها و استـــجاب الأب ، تنــحت الأم و جلس الأب بجوارها ، مد يده إلى خدودها ، مسح سيل الدموع و أسكن رأسها كتفه ، ربت عليها و قالت هي بصوت عال ، عال أكثر مما توقعت :
 لا تسافر يا أبي ، أتوسل إليك ••
و انخرطت في بكاء عنيف عنيف ، بكاء ظل حبيس صدرها الشفاف طيلة أسبوع ، شعرت أن أوردتها منتفخة حد الانفجار و رأسها ثقيل لا تكاد تطيقه و عيونها سكنتها النار حتى أصبحت عروقها الحمراء تحمل لسعات من لهب كلما اغمضتهما تزيح دمعا •• كان قلب المسكينة ينفطر ، كانت تشعر أنها تقتلع من جذورها ، أنها تطيح في فضاء ليس تحته أرض و لا فوقه سماء ، و الجميع تفهم ، الجميع صمت احتراما لنحيبها العالي ، حتى أبوها الذي كان يشعر بها فوق كتفيه كزلزال يتحرك و أمطار تتساقط ، كان صامتا ، لم يربت عليها لئلا يجرح حزنها •• صمت الجميع حتى انتهت من بكائها و ابتعدت عن كتف أبيها و قالت بهدوء يحمل بقايا نشيج ••:
 آسفة ••
قال الأب و هو يغالب ضعفه و يحاول أن يتناسى تماما ما حدث و يجرهم جميعا إلى جو آخر :
 سوف تكون جدة مرفأي الأول هناك ، و منها سوف يتم توزيعنا إن شاء الله على أعمال البناء ، و أسأل الله أن يكون نصيبي في أعمال توسعة الحرم الشريف بمكة ، ادعو لي أن يحقق الله طلبي ••
صمت و هو يستمع إلى دعائهم له و نظر إلى ريم و هي تلتقط أنفاسها بصعوبة و تقول :
 إن شاء الله ستذهب هناك يا أبي ••
ابتسم الأب و ربت كتفها و قال :
 فرصة لأداء فريضة الحج أيضا عسى ربي يتقبلها و يعينني على أدائها و أداء أعمالي ، فإذا كان العام التالي حججت عن أبي يرحمه الله ••
شهقت ريم و قالت :
 العام التالي يا أبي ؟
ابتسم بهدوء و هو يقول :
 لست ذاهبا في نزهة يا حبة القلب •• العمل عمل و لا أدري متى ينتهي أو كيف سيسير فلا تفزعي ، بامكاني الحضور في الأجازات ، عادي جدا مثل كل رجال شارعنا المسافرين ، و عندما أعود في الأجازات سوف أكون محملا بالهدايا التي تريدون و الذهب لأمكم هذه المسكينة التي لم ترتد إلا هذه الأسورة منذ تزوجنا ••
ابتسمت سميحة بوهن و تمتمت بدعاء ، لم تكن تريد خلق حوار أو المشاركة فيه ، فالليلة ملك الأولاد و أبيهم ، أما هي فيكفيها ساعة خلوة مع زوجها تبثه خلالها لواعج قلبها ، بدون أن يسمع أولادها ما تقول و لا يشعر بحزنها هذا الـكــــم من الملتاعين ، هدهدت سمر و هي تغالب النوم على حجرها ، و عندما مد الأب يده ليحملها أعانته فلما استقرت في حضنه مال عليها و قبلها و أكمل :
 و لسمر أيضا بعض الذهب ، و لك بالطبع يا ريم ، أما أنت يا قاسم فعندما أعود سيكون نصيبك سيارة ، سوف تكون كبرت يا ولد ، كبرت و طولت أكثر و صـــار لابد للــطبيب او المهندس قاسم من سيارة يذهب بها إلى كليته و يعود ، أليس كذلك ؟
التفت الأولاد حول أبيهم ، يوزع عليهم لمساته و مداعباته ووعوده الجميلة لهم ، تشرق دموعهم لحظة و تصدح ضحكاتهم لحــــظة و بين هــــذه و تلــك يربت الأب الحاني الظـــهور و يقرص الخدود و يشير بدعابة إلى هذا و إلى هذه و يمسح دمعة هنا و يأمن على دعوة هناك ، يضحك و يضحك ، و الألم في قلبه يعتصره و يود لو يفتح قلبه فيودع هؤلاء فيه و يصحبهم معه أينما حل ، أو راح ••
***
عندما جلس الأب آخر الليل على طرف فراشه ، كانت قدماه ترتجفان و يداه ترتعشان ، ارتجافة قلق و ارتعاشة خوف ، كان يحاول اسكـــاتهم عن الحركة فتظاهر بانه يدفء يديه و أخذ يفركهما ، كانت سميحة تراقبه بصمت و عند لحظـــة فاصلة وضعت يدها على يده و احتوتهما و قالت بحزم :
 كفى لقد أدميتهما ••
استكانت كفوفه بين راحتيها و هدأ قليلا ، ابتسم و قال :
 يجب المحافظة عليهما ، سأحتاجهما كثيرا هناك ، أليس كذلك ؟
أومأت برأسها مبتسمة و ظلت تدلكهما برفق و قالت :
 كان لحديثك مع الأولاد الليلة وقع السحر في نفوسهم ، حتى ريم التي لم تكف عن البكاء منذ اتخذت قرارك ، كانت تضحك و تحدثت آخر الليل بانطلاق كعادتها ••
سحب الأب يديه من يديها بهدوء و ربت على كفيها و نهض ففتح شباك الغرفة ، تطلع منه ، كان كل شيء هادئا في الخارج ، و كان الصمت يلف المكان متضافرا مع الليل ، على أن النجوم كانت تلمع على البعد كأنها توجه تحية ، أخذ جهاد نفسا عميقا و قال دون ان يستدير :
 هل نسيت شيئا يا سميحة ؟ لم يعد هناك وقت ، و أعتقد أنني نسيت إحضار بعض الأغراض ••
نهضت سميحة فوقفت بجواره بعد أن أفسح لها مكانا ، أطلت على السماء و لم تتكلم ، قال :
 منذ زمن بعيد لم نقف هنا لنراقب السماء ، تبدو مألوفة رغم أننا هجرناها زمنا طويلا ••حتى هذه النجوم التي تلمع ، أشعر أنها تعبر عن فرحتها بعودتنا إليها ، أليس كذلك ؟
تنهدت سميحة و قالت بصوت هاديء :
 منذ ولدت ريم لم تجمعنا هذه النافذة ، بعد زواجنا بعشرة شهور فقط ، انشغلنا بعدها بالتفاصيل الصغيرة للحياة حتى ابتلعتنا الدوامة و أصبح الوقوف هنا بعضا من بعض الترف الذي لا تحتمله حياتنا ••
زحف بأصابعه حتى لامس أصابعها قبض عليهم و قبضت عليه ، قال :
 عانيت كثيرا يا سميحة ، لم تكــــن حيــاتنا نزهة كما تمنيت ، كانت كمـــا تـــوقع أبوك و اكثر ، رحلة سفر متعبة ، مع رجل غريب ••
التفتت إليه سميحة بسرعة ، وضعت يدها على فمه قبل أن يسترسل ، قالت :
 لا تقلها يا أبا العيال ، حياتنا كانت شاقة لكنها لم تكن مستحيلة ، لم تكن سيئة ، الحب و التفاهم و الثقة التي جمعتنا جعلت من حياتنا جنة رغم الفقر و سعادة رغم تبعات الحياة ، لا أعتقد أنني نادمة على يوم واحد قضيته في كنفك و لو عاد بي الزمن فلن أقبل بغير ما كنت فيه معك ••
أمسك كفها و قبلها بهدوء و عادا مجدداً يراقبان السماء معا ••
كانت سميحة تريده أن يتكلم ، تريد أن تختزن في ذاكرتها الكثير الكثير من حديثه لتسترجعها فيما هو قادم من أيامها ، لكنها أيضا كانت تريده هكذا صامتا يحتضن كفها بكفه و قلبها بقلبه •• كانت أيضا تريد أن تقول الكثير ، كانت تريد أن توصه على نفسه ، تخبره أنها قلقه على صحته ، تسأله أن يبعث لها كثيرا ، لكنها لم تقل ، اكتفت بالضغط على كفه ••
و كان يريد أن يقول الكثير ، و يسمع منها الكثير ، كان يعرف أنه رجل لا يجيد التعبير و لا يعرف كيف ينمق كلامه بحيث يخلق عبارات ملتهبة تعبر عما يجيش بداخله من مشاعر ، كانت مشاكلهم في بداية الزواج تصب كلها في عجزه عن الكلام و حاجتها له ، كان يقول لها الرجــال أفعــــال لا أقوال ، و مــــع مـــرور الزمن اعتادت على صمته و فعله و أحبت هذا و أصبحت عبارات الحب النادرة شهـــادات مطرزة يمنحــها لها فلا تنســــاها و يقولها أحيانا عفو الخاطر فتطير بها فرحا فيهز رأسه عجبا و يقول :
 أنتن ناقصات عقل و دين ••
شد على يدها و قال :
 سميحة ••
التفتت اليه ، قال لعيونها الجميلة :
 أقسم بالله العظيم أني أحبك •• أحبك جدا ••
اجتاحها الخجل و و كأنها عروس تسمع عبارة حب من زوجها ليلة الزفاف ، نكست عيونها و إن ضغطت على كفه ، قال :
 لا أحد يعرف الحياة من الموت ، و أريدك أن تسامحيني على أية غلطة أكون قد أخطأتها في حقك يوما متعمدا أو غير متعمد ، فهل تسامحيني ؟
فتحت عيونها دهشة قالت بصوت كاد أن يصبح عاليا في هدأة الليل :
 جهاد •• لماذا تقول هذا الكلام ، إنه كلام مودع ••• أسامحك ؟ ، علام أسامحك و قد كنت لي و ستظل نعم الزوج و الأب و الحبيب ، أرجوك يا جهاد لا داعي لهذا الكلام الآن إنك توجع قلبي ••
شدها من يدها برفق و هو يبتسم و قال :
 سلامة قلبك يا غالية •• اسمعي يا سميحة سأعطيك شيئا فاحفظيه حتى يحين موعده ••
 أي شيء ؟
فتح الدولاب و أخرج حقيبة قديمة مغلقة طالما رافقتهم و كان يضع فيها أوراقا كثيرة هامة ، شهادات ميلاد و تطعيم و قصاصات صحف قديمة و وثائق سفر و غير ذلك ، فتحها بهدوء و من تحت قاعدتها الجلدية أخرج ملفا أصفر قديما و قال لزوجته :
 في هذا الملف سوف يجد أبناؤنا دوما الإجابة عن أسئلة ما زالت لم تؤرقهم و لم تعن لهم شيئا ، لكنني أكيد أنهم سوف يطرحونها في يوم من الأيام ، فيه شجرة العائلة في فلسطين ، كل ما حوته ذاكرتي عن أهلي و أقربائي و أصدقائي هناك ، عناوينهم كما كانت حين غادرت فلسطين و عناوينهم التي وصلتني في سنين غربتي ، كنت أخاف إذا أنا نسيت هذه الأسماء و العناوين أن أفقد وطني إلى الأبد لذا احتفظت بكل ما وقعت عليه من عناوين في كل بقاع الأرض ، هنا أسماء أشخاص يسكنون كل قارات العالم ، سيجد أولادي حين يسألون أن اقرباءهم كثر و منتشرون و لدينا أغنياء أيضا في العائلة ، و هذه يا سميحة •• أتعرفين ما هذه ••؟
أخرج من الملف ورقة صفراء كانت تقبع خلف كل الأوراق كانت يده تهتز و هو يمسك بها ، تطلعت فيها سميحة فلم تستطع فهم ما فيها فهزت رأسها فقال :
 هذه ورقة رسمية من حكومة عموم فلسطين مثبوت فيها أن البيت الذي كنت أسكنه في غزة هو ملكنا ، ملك أبي يرحمه الله ، هذه الحجة حصلت عليها ليلة مغادرة أبي لنا متوجها إلى الأردن ، في تلك الليلة أعطاها لي أبي و طلب مني المحافظة عليها فهي الإثبات الوحيد لحقي و إخوتي في البيت ، كنت أنا الوحيد معه تلك الليلة ، و عندما تفرقنا أنا و إخوتي ظلت معي و لم أنتبه إلى أنني أخذتها إلا عندما وصلت إلى مصر منتصف عام 46 ، لا أدري ما قيمتها الآن و لكنها هامة جدا ، لذا حافظي عليها و أعطيها إلى قاسم عندما يكبر ليحافظ عليها بدوره ••
همست سميحة بجزع :
 و لماذا لا تبقها في حقيبتك و تعطها لولدنا عندما يكبر بنفسك يا أبا العيال ؟
أعاد وضع الملف في الحقيبة بحرص و أغلقها و أعادها إلى مكانها و هو يقول :
 من ذا الذي يعرف الحياة من الموت يا أم العيال ••
أمسكته من كتفيه هزته صاحت :
 إنك تميتني رعبا يا جهاد ، ألا تدرك معى ما تقول في ليلة كهذه ، سوف تغيب الوجوه بعد ساعات و لن يبقى لي إلا خوفي و جزعي من مستقبل لا أعرف عنه شيئا ، ألا تفهم ••؟
نهض و أخذ بيدها مهدئا و قال:
 أفهم تماما ما تشعرين به ، إنه نفس شعوري قبل عشرين عاما عندما أعطاني أبي هذه الحجة ، شعرت بالفقد و شعرت باليتم و شعرت أنني أريد أن أفتح عيوني و قلبي لأضع الرجل فلا أسمح لغربة أن تفرقنا و لا لسفر أن يشتتنـــا ، لكنه سافر ، و أنا ســــأسافر ، و في الغربة مات ، و انا ••
 لا ••
لم يكن من معنى لأي شيء في هذه اللحظة ، اللحظة التي يجب أن يواجه المرء فيها مصيره و يتحسب لأي ظرف طاريء و يقدم بنفسه تأبين ذاته على مرأى و مسمع ممن يحب ، كان هذا قدر جهاد و سلمه في تلك الليلة طوعا إلى سميحة ••
حياة لابد أن تمضي ، و فراق لابد أن يكون ، و لا يملك الإنسان مهما كان قويا أن يقف في وجه مصير محتوم ، هكذا شعر جهاد ، و شعرت سميحة و هناك على بعد خطوات منهما كانت أيضا ريم ، تشعر بكل شيء و تعرف أن عهودا أخذها أبوهم منهم كانت بمثابة وثيقة سفر للاجئين منحتها لهم سلطة لا ينتمون إليها ليحققوا بها قدرا لا يريدونه لأنفسهم ••
و عندما نامت عيون كل من في البيت ، كان هناك عددا من القلوب الواجفة ، تردد أدعية كثيرة تختلط مع بعضها صاعدة إلى رب قدير عله يحفظ هذه الأسرة من ضياع يدق الباب و غربة ترعى في الأخضر و اليابس بلا تفريق •


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى