الأحد ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
بقلم صبري هاشم

سراباد .. المكان واتساع مساحة الحلم

أعتقد أنّ القصيدةَ الخارجة من الروح ، المُخضبة بدم القلب ، هي وحدها القادرة على البقاء وهي المتوهجة دوماً والمنتزِعة صفة الأبدية ، مهما تلبدت سماؤها بالغيوم ومهما حاول الرديء من التسيد ، آنياً ولأيِّ سبب ، في زمن تتضبب فيه الرؤى وتكتظُّ الآفاق بالمتشابه إلى حدّ إقصاء التمايز خارج أسوار المدن المأهولة بتكرار المفردة ، تطابق الصورة ، واحدية الإيقاع ، بؤس التجربة ، اختلال البيت ، وانطفاء البصيرة ، حتى لم نعد نتشبث بقصيدة ولا نتغنى بمقطع شعري أو نثري ولا ننطق بحكمة حكيم ، ولا تحضرنا رؤيا فلسفية وكأن العالم أُفسِد ذوقه فأرغمنا على تبني هذا الفساد .

أؤمن بالكتابة ، والقصيدة شكل منها ، التي يمتزج فيها دم القلب مع حبر اليراع والتي تحترق بأنفاس صاحبها وسأتفق مع نيتشة بلا حدود حين يرمي بوجوهنا خلاصة القول " لا أحبّ من الكتابات جميعها إلاّ تلك التي تُخطّ بالدم الشخصي . أُكتبْ بدمك وستتعلم أنّ الدمَ روح " والروح لا يسمو بعظمته ما لم ينزف دماً .. والكتابة لا تشف إلاّ حينما تتعطر برائحة النزف . إذن الكتابة نبع روحيّ أحمر أو أبيض مزهر والقصيدة ، كشكل من أشكالها ، سوف لن تحمل مع أنفاسها أو مع عبيرها شحنتها الإنسانية إلاّ حينما يسكبها الروح ويسطرها دم القلب ، وهي بالتالي تفقد قدرتها على الإدهاش ما لم تستفز القارئ ، ما لم تقتلعه من استرخائه ، ما لم تعطب خلية واحدة ، على الأقل ، من دماغه . وليس عندي ما هو أكثر دهشة وغرابة واستفزازاً من رؤية دم القلب يمر مزهراً . يقول جاستون باشلار " إنّ علينا في كثير من الظروف أن نقرّ أن الشعر هو التزام روحي " وهكذا فنحن لم نخرج من معبد الروح ولم نقرأ إلاّ في تلك الكتابات ـ الشعرية بشكل خاص ـ الخارجة من احتراق الشاعر ، ومن ثم نتساءل عن دور العقل في مرحلة البناء الشعري الأولى وما يليها من مراحل أسميتها مراحل تحرير القصيدة من ثياب الحشمة لكي تخرج عاريةً كما خلقها ربها ، تحريرها مما لحق بها من أخطاء لغوية ، نحوية واملائية وحتى عروضية ، تحريرها من ماء رأس الولادة .
ومن خلال الرؤيا المارة الذكر سأتناول المجموعة الشعرية السابعة الموسومة " سراباد " للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد المولود في مدينة البصرة من العام 1946 . فخلال العام 1998 اصدر الشاعر مجموعتين شعريتين عن دار الكنوز الأدبية في بيروت ، الأولى بعنوان " دقات لا يبلغها الضوء " والثانية بعنوان " سراباد " وتفصلهما ، عن آخر اصداراته " نزهة الآلام " الصادرة عام 1991 ، سبعة أعوام . تُرى هل كان الشاعر ينزف خلالها بصمت أم يؤسس رؤاه الشعرية على أرضية أخرى ؟ . في تقديري أنه في الحالتين يتمسك بالتزام روحي .
سأبدأ بقراءة سريعة للقصيدة الرئيسية " سراباد " التي اتخذت منها المجموعة عنواناً لها ، وسأعمل بإيجاز على محورين أعتبرهما أساسيين في هذه القراءة : المحور الأول : سراباد المكان واتساع مساحة الحلم . أما المحور الثاني : الإسراء ضمن حدود الجغرافيا الممنوعة . وسأترك الأسئلة الملهوفة ، التي يطرحها الشاعر ، إلى معرفة ما وراء الأفق ، تلك المعرفة التي تتقطر في إناء الخطر أو تتكتل في سماء حائرة مثل كرات صلدة عائمة في الفضاء .

يقول ريلكة : " العالم كبير ، ولكنه في دواخلنا عميقٌ كالبحر " .

في قصيدة " سراباد " التي يتبلور مطلعها سؤالاً بصيغة الجمع ، يتشكل المكان في جزء من مساحة الذاكرة على هيئة حلم يقظة ، تستعيد الذاكرة أصداءه حتى تتكامل ، ثم تعبره بأبهة نحو حقول التأمل المزدحمة بالأشياء والكائنات والفراغات ، وحيث يكون العالم أكثر سعة وأكبر عمقاً ، فنجد ميزات المكان شاخصة على امتداد القصيدة ، فهناك الفردوس الذهبي الصاهل مع صيحة الديك عند الفجر ( ويعتلي فردوسك الذهبي / طير صاح ) ، هذا الفردوس الذي يبدو مكاناً حلمياً آمناً ومتمكناً من المكان الأصلي ، بكل ما في هذا الفردوس من عمارة وغابات وأنهار وطيبات وربما صار المكان الأصلي فردوساً بديلاً ، وحيث القباب اللامعة ، التي تعتبر كلّ منها مكاناً تتوالد عنه أمكنة مهما تناهت في الصغر وتداخلت مع بعضها البعض ( قبابك التمعت ) ، كما يذكرنا اللمعان بما يصبه الضوء على الأشياء من دفء وسحر وأمان .. وهناك الأجراس وما تبثّ من هيجان وأصداء في الفضاءات المتخيلة " أي أجراس ٍ / تهبُّ " .. وهناك الأقواس والشرفات الأليفة التي تحيلنا إلى هندسة معمارية لحضارات سادت ، إضافة إلى الباب والسور وجند الرخام والنحاس .. والناس والرواحل والطرقات . تلك شواهد المكان ومقوماته الأساسية وهي المدينة بكل ما لها وما عليها ، وهي المقصودة من هذا الإسراء .

عند اعادتي لمطلع القصيدة وجدت في السؤال المدهش خشية من فراغ ممتلئ ( هل سنقضي الليل في هذا العراء ؟) وحيرة جعلتني أصرّ على أهمية اتساع مساحة الحلم عبر تأمل هادئ بحيث تصبح مساحة لا متناهية . هذا الإتساع سيفضي بالضرورة إلى اتساع مساحة الكون فيصبح عميقاً إلى مالانهاية ومترامياً إلى مالانهاية . أو ليس التأمل حلم يقظة وخيالاً جامحاً صانعاً لأجمل الصور الشعرية ؟ ومن خلال حيرة الشاعر وجدت مكاناً موحشاً إلاّ وهو العراء الذي إكتنفه الليل وانتشرت فيه الظلال كأشباح ظاهرة للعيان ، وتفجرت فيه عيون السماء ( ظلالنا انتشرت / وأقبلت السماء ) فأطلت من عليائها بخفقة نجمة أو نجمتين ( ونجمة / أو / نجمتان / تحاذيان السهل ) ، ثم الزحف المخيف للأشجار كأننا أمام زحف غابة بيرنام نحو دنستان في ( مكبث شكسبير ) " والأشجار تقبل " .
هذا المكان الغارق في الوحشة يجعلنا نبالغ في تصور عدوانيته مهما كان مصدرها فنحن مازلنا في الطريق إلى سراباد ومازالت تتسع أمامنا مساحة الحلم وتتسع تبعاً لذلك مساحة الكون ، فهي أرحب على أية حال من عدوانية ضيقة .

سألنا في الطريق
وقد قربنا من سراباد البعيدة
هل سنقضي الليل في هذا العراء ؟
ومن حقول التأمل إلى حدود اليقظة يستحيل المكان إلى ما يشبه الوهم ببهائه وجماله ، بوحشيته وعدوانيته ، ليس من سطح الجغرافيا التي يراها بول ايلوار ( الجغرافيا الحزينة للحدود الإنسانية ) فحسب وإنما من الذاكرة إلى المخيلة التي وحدها القادرة على جعله مجرد صفوة من الاحتمالات بأبعاده الهندسية ، فيضيع منّا ، وتدفعنا إلى البحث عنه في كلّ التخوم . وهكذا نجد أنفسنا والشاعر نجوب الأرجاء . نبتعد عنه فتقربنا منه ، نقترب منه فتبعدنا عنه حتى لا ندرك سوى السراب وضياعه في وحدة الزمن ( ونصيح : لم نغرق / سرابٌ مارايناه ) .
ورغم استحالة المدينة / المكان إلى مجموعة من الافتراضات ، فإنها ستبقى حيزاً يتسع لوجود حياتي حقيقي وإن كان غارقاً في السكون في بعض الأحيان . فهي البلد الذي يأتي بنبض حضارته وضجيج كائناته ( وقيل لعلها البلد الذي يأتي ) وهي الجبل بكل صخوره وشموخه وأشجاره ومياهه وكهوفه ( وقيل لعلها جبل) وهي البحيرة التي لا تتوقف في أعماقها الحركة رغم أسماكها المسحورة ، فهناك من المخلوقات الأخرى التي أبقى الشاعر على وجودها الطبيعي ( ومحض بحيرة مسحورة الأسماك ) ، وهي الشجر المتحجر الذي ربما صار مرجانا امتدت إليه يد الاكتشاف ( قيل لعلها شجر تحجر ) أو ( قلعة من صخور صماء ) وما تحتويه القلاع من لمسات آدمية تركت بصماتها على تماثيلها الغريبة ، لكنها ستنطق وتوحي . إنها حقاً صورة متدفقة من روح نازف وبالتالي فكلما اتسعت مساحة الحلم ازدادت الرغبة في امتلاك ضفاف مخيلة باذخة الحضور .
هل جئنا لنبني منزلاً
ونقول " جئنا "
هل نعود وقد رمينا للكلاب عظامنا ؟
ومَن الدليل إلى المدينة ؟
مَن سيطرق بابها المهجور
ماذا لو دخلناها
فلم نعثر على آثارنا
وقبورَ موتانا
أنرجع ؟
بعد قراءة هذا المقطع أرى ، كما يرى غيري ، تدفقاً شعرياً مبنياً على أسئلة حائرة تركت للعقل دوراً هاماً ، خاصة في قصيدة مثل سراباد تامة البناء على الأقل فيما يخص وحدة القصيدة ، إلى جانب الومض الروحي الذي انطلقت منه ، وهذا ما يفعله عبد الكريم كاصد في أحيان كثيرة . وما يؤكد وجهة نظري الحوار الذي أجري معه في مجلة الثقافة الجديدة العراقية ، حيث يحيلنا الشاعر في معرض حديثه عن قصيدتيه البركان العدني ومرثية ابن خلدون إلى التساؤل المنطقي التالي : "ألا يتطلب تناول القصيدتين معرفة النقاد بشخصيتي رامبو وابن خلدون ونتاجهما وتجربتهما الروحية والمادية وعلاقتهما بعصرهما وتقاطع كل ذلك مع تجربة الشاعر أو تطابقه معها ؟". بمعنى آخر يحيلنا إلى المعرفة ، إلى دراسة معظم تراث رامبو وابن خلدون والمعرفة لا تتم بدون هيمنة العقل قطعاً وهذا ما يدفعنا إلى الاستنتاج المنطقي أيضاً وهو أن الشاعر لم يكتب قصيدتيه دون الإلمام بمنجز هذين العملاقين . وإلاّ كيف تمت كتابة مرثية ابن خلدون وهي من قصائد الشاعر المهمة حيث أنها تناولت سيرة ابن خلدون واستحضرت تاريخاً لصاحب العمران من طموحه إلى الملك حتى مصرعه .

عصفتْ رياحُ المُلْك
ختمٌ لابن خلدونٍ
وختمٌ سائرٌ يطوي فضاءَ الله
إذا أخذنا المحور الثاني وهو الإسراء ضمن حدود الجغرافيا الممنوعة . الجغرافيا التي يعبرها الشاعر في خياله تارة ويعبرها عبوراً حقيقياً تارة أخرى كأنه يجوب صحارى مفتوحة على المشتهى أو بحاراً لا تنتهي أو سماوات لا تعرف التوقف ، فنحن نجد الشاعر مرتحلاً ومتسائلاً ولم أعرف شاعراً قبله ، من خلال متابعتي لعدد كبير من الشعراء ، يطرح أسئلة بهذا الكم ولا بهذه الكثافة مثل ما يطرح عبد الكريم كاصد مهما كان حجم السؤال وبنبرة حزينة أحياناً تُغلفها غلالة شفيفة من البهجة . ففي نفس الحوار الذي أجري معه في الثقافة الجديدة سئل عن النبرة التراجيدية التي تلف شعره فأجاب " إنني لا أنكر النبرة التراجيدية في شعري ولكن ثمة بهجة حتى وسط المأساة ".

لأعود إلى موضوعة الإسراء في شعر كاصد وأؤكد أن الإسراء ، الذي هو السير ليلاً ، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة الرحيل الدائم عند الشاعر فرحيله يعني رحيل مشهد ثقافي يشمل جيلاً أو عدة أجيال تم في ظل ظروف قاهرة .

والآن سأحصي بعضاً من صور الإسراء التي تغطي مساحة واسعة من شعره .

"هل سنقضي الليل في هذا العراء" من قصيدة سرباد
"هل سمعتِ حداءنا
وأنينا في الليل " من قصيدة سراباد
" سبحان من أسرى بعبده مرتين " من قصيدة رثاء المدن
" قفرٌ والنجومُ حجارةٌ ، ودليلنا حجرٌ ويدعى النجمُ " من قصيدة مرثية ابن خلدون
" لترحلْ / يقتربُ النجمُ / وظلُّك يقطعهُ الضوءُ / مَن القادمُ في الليل ؟
من قصيدة البراري
" لماذا كاظم الوبدان أسرينا إلى بابك "
من قصيدة سيرة الانجليزي ابن وبدان
" لا مقهىً / سوى قمرٍ / يجذف في هزيع الليل من أكفٍ / وجندٍ يعبرون "
من قصيدة مقهى
" يرحلون على عجل / مطبقين الشفاه على الجوع / ليس سوى نجمة خلفهم "
من قصيد المسلة الحجرية
" نجم لا يضيء نراه / نتبعه حفاةً كالبدائيين "
من قصيدة " عراقيون "

أكتفي بهذا المشهد ـ اللمحة ـ للإسراء في قصائد الشاعر عبد الكريم كاصد فهو يظهر صريحاً في بعض القصائد ضمن حدود الجغرافيا الممنوعة كما في رثاء المدن وسيرة الانجليزي ابن وبدان وإيحاء في بعضها الآخر مثل سراباد ومرثية ابن خلدون بينما يأتي رمزاً أليفاً في القصائد الأخرى .
بقي أن أذكر أنّ المتتبع لدواوين الشاعر سيجد الإسراء ظاهراً في العديد من القصائد وإن سراباد المجموعة تتضمن عدداً من القصائد التي ينبغي قراءتها قراءة هادئة ومتأنية فبالإضافة إلى ما ذكرنا هناك عدد منها فيه نزعة تأملية .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى