الثلاثاء ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

الوداع الصامت

خمسون عامًا مضت على الفُراق. ولا تزال الأطلال متطاولة ًوتطل صامتة على بيوت المدينة من خلف السوق دون أن تندثر. وتتوارى خلفها بيوت قديمة مرّ على بنائها مئات كثيرة من السنين.

نصف قرنٍ مضى على ذلك الرحيل.

ولا تزال صوَرُ أحداث المدينة الدرامية تتشبث بجذورها في أرض الذاكرة كأنها حدثت بالأمس القريب..
رحل الأهل وتفرّقت الأنفس وتشتَّتَ الأحباء.. وتفرّق الناس إلى ما وراء الجبال والآفاق البعيدة..

أطلال صامتة رثاها التاريخ وبكت عليها الطيور ونعقت فيها الغربان ونبت فيها الحنظل..

لكن ظلّ الرجلُ يتوق لرؤيتها قبل أن تخطفه المنية التي لا يفلتُ منها طير أو بشر.. وما بقي من العمر مثل الذي ضاع منه.

كان في العشرين من عمره عندما أذن مؤذنٌ: "أيتها العير إنكم لراحلون".. فوجد نفسه وأسرته في واد غير ذي زرع.. بلا فراش يفترشونه أو غطاء يَقيهِم من برد الصحراء.. فافترشوا الأرض والتحفوا السماء. فمنَّ "الشرفاء" عليهم بخيمة وبطانيات وقليل من الطعام وجرعات من الماء. وعجلات الزمان ظلت تدور من غير توقف أو انتظار لأحد.. وبقيت صامتةً تدوس السنين من بعد السنين.. كانت تلقي به ذات اليمين تارة وذات الشمال تارة أخرى كأنه ورقة زيتون تطير من مكانها قبل أن تُداس.. و"عبد الله" بقي واقفاً متحديًا لها بعزيمة قوية وإيمان راسخ لا يأبه بما يُعرض عليه من قروش هنا أو دريهمات هناك.. وظل يجمع أحفاده ويروي لهم قصة مدينة ساحرة، سحرت عيون الناس فجاءوا إليها من كل حدب وصوب. مدينة تفتحت معها أبواب الرزق وأسباب العيش.

آنَ الأوان ليراها.. إنها المرّة الأولى منذ خمسين عامًا.. بجواز سفر أمريكي؟ فليكن! وما الذي سيحدث؟ نعم سيصلها بجواز سفر أمريكي.. هذا كل ما يستطيع أن يفعله.. وعلى متن طائرة أمريكية أيضًا.. لكنه سوف يتنفس هواءها.. ويشم رائحة أديمها.. ويدوس شوارعها.

كم طال انتظاره!

لكن سُمح له أخيرًا بزيارة سياحية مدتها أسبوعين فقط. وحصل على تأشيرة الدخول بعد انتظار دام ثلاثة أشهر. النية إلى "اللِّد" أولا ثم إلى القدس ثانيا..

تُرى في أي حال أنتِ يا "لِدُّ"؟؟

هل تشوّقتِ إلينا كمل تشوّقنا إليكِ؟؟

ليتك تعلمين كم نحن مشتاقون إليك مذ أُخرجنا من ديارنا خائفين؟

أي شيء حدث لكِ بعدنا؟

لا شيء يؤكّد لنا أن البيوت بقيت على ما كانت عليه.. لكن المؤكد أن الجامع الذي كان بجوار بيتنا وكنّا نصلّي فيه ما زال قائما حتى اليوم..

آهٍ يا "لدُّ" آه..

والطريق إلى "اللد" أيام السبت تكون سالكةً فلا يجد السائق إلا قليلا من السيارات وكثيرًَا من الغربان التي تهبط لتتغذى على جِيَفٍ قططٍ أو كلابٍ أو طيورٍ تنتشر على الطرقات.. دهكتها السياراتُ بعجلاتها. وارتفعت الشمس بشعاعها قليلا وهي ترنو إلى كبد السماء..

كان "هاشم" يقود سيارته في سرعة غير اعتيادية.. سرعة عجيبة لم يشعر بها إلا بعد أن أحسّ أنه سيراهن على رخصته وتذكّر أن المفترق القادم الذي يُعرف أنه يتربع فيه شرطيٌّ يحمل رادارًا ويصطاد المخالفين واحدًا تلو الآخر.. وأن صديقه "محمود" قد سُحبت رخصته منذ مدة بسبب سرعته الزائدة.. فاضطرّ إلى تخفيف السرعة والانضباط في سيره..

الساعة تجاوزت قليلا العاشرة والنصف حين أوقف "هاشم" السيارة قرب سوقٍ كانت ولا زالت حيةً حتى اليوم.. "سوق الثلاثاء".. السوق التي كان يبيع فيها قبل خمسين عاما الملابس والجلود والتمور.. ويُباع فيها كل ما كانت تنتجه أيادي الفلاحين والمدنيين والصناع والمهنيين. وما أن ترجّل الرجلان حتى انحنى "عبد الله" فسجد سجدة طويلة ثم راح يقبّل الأرض ويمسح وجهه بالتراب أمام المارّة غير آبهٍ لنظراتهم المتعجبة.

لم يحوّل عينيه عن مئذنة المسجد إلا حين فتحت له الذاكرة نافذة على ذلك النـزاع الذي شبّ بين التجار القرويين بجانب هذا المسجد وأسفر عن مقتل أحدهم.. ثم استرجع فيها تلك المظاهرة التي انطلقت من جانبه متجهة نحو السوق فتدخّل البوليس الإنجليزي واعتُقِل حينها خمسة متظاهرين ظل الجنود يعذبونهم حتى لفظوا أنفاسهم الأخيرة. ولا تزال تداعيات هذا الحادث المؤثر تتفاعل في نفسه كلما شاهد مظاهرة أو رجال شرطة يحملون العصي والهراوات.. وتذكّر فتاة حبه الأول "زينة" ابنة الحاج "معروف". ولا يزال يذكر شروط والدها التعجيزية حين تقدم بطلب يدها والتي حالت دون زواجهما.. وكم مرة التقى بها في مواسم قطف الزيتون قرب كرم "أحمد المأموني" وقدم لها الهدايا جميلة!!.. أيام جميلة قضاها في صباه وأول شبابه.. ولا يزال يتحسر عليها منذ ذلك الحين. ولفتت انتباهه تلك البناية السكنية الضخمة الموازية للسوق من جهة الشرق، وأقيمت في مكان بيت "محمود الخلال" وبيوت جيرانه وبعض المحلات التجارية.. قلبه احترق أَلَمًا لما شاهد عصّارة الزيتون قد تحول جزءٌ منها إلى ركام وتحوّل الجزء الآخر إلى وكر للمدمنين على المخدرات فترقرقت عيناه وانزلقت من عينيه دمعتان ساخنتان لامستا خدّه المتجعد. خمسة عقود مضت لم يرَ فيها بيته إلا في أحلام اليقظة..

لم يصدق عينيه حين شاهده وشاهد أسواره دون أن تتغير بدوّامة التغيير. ولم تغيّر الطبيعة فيه لونٌ أو حجرٌ وبقي ثابتا دون أن يتحرك من مكانه الذي أقيم فيه.. نعم إنه هو.. هو.. هو نفسه يا "هاشم"..!!
والدخول إلى المنـزل هو نفسه مغامرة.. وقد لا يكون الدخول إليه مثل الخروج منه، لأن أصحابه قد تبدّلوا بعد أن تبدّد أصحابه الحقيقيون في الدنيا الواسعة. لماذا هذا الدخول يا حاج "عبد الله" ألا تكفيك رؤيته من الخارج؟

أصرّ "عبد الله" على الدخول رغم تخوفات رفيقه السائق المشحونة بالقلق، ومحاولات ثنيه المتكررة حتى لا يدخل مع نزلائه في جدل لا فائدة منه. أو ربما قد ينفعل الحاج ويتلفظ بكلمات لا جدوى منها.. ومن الممكن أن يتصل أحدهم بالشرطة فيورّطهما بورطة لا مناص منها. إصرار شديد وتصميم أشدّ..

ثلاث دقّات متتالية.. أتبعها بثلاث أخرى. فُتِحَ الباب وسُئل الغريـبان عن مرادهما.. ثم سُمح لهما بالدخول.. لا لأن المرأة البدينة ابنة الأربعين ذات الشعر المصبوغ باللون الأصفر أشفقت عليه بعض الإشفاق.. ولا لأنها كريمة أرادت أن تجاهر بكرمها أمام هذا العربي القادم من أمريكا.. بل لأن نفسها اشتاقت لسماع الحكاية بتفاصيلها. وهي شغوفة جداً بسماع الحكايات.. والحكاية لن تبقى إلا مجرد حكاية.

برجله اليمنى دخل في صحن داره وبسمل بصوت مسموع كما اعتاد أن يفعل ثم نظر يمينًا ويسارًا وراح يتفقد بقلبٍ خافقٍ وعينين فاحصتين باكيتين ما طرأ من تغيير على هذه الدار. وأخذت المرأة تفتح له الأبواب.. الباب تلو الباب.. وتنقله من غرفة إلى غرفة إلى أن اقترب من الغرفة التي وُلِد فيها وإخوته الثمانية فوقف صامتًا متسمّرًا وتذكّر وهو يمدُّ بصره في داخلها بابَها الخشبي الذي أُغلق ساعة ولادة أخيه الأصغر وتذكّر أنه أحضر الداية بعد ساعتين من البحث عنها في بيوت المدينة. ولما خرجت بشَّرتهم بولادة أخ له أطلقت عليه اسم "عبد الرحمن"..

ثم طال الجمود وطال معه الصمت والانتظار.. وكانت هي في حالة ترقب وحذر شديديْن.. إذ طلبت من مرافقه أن يترجم لها كل كلمة يقولها الشيخ بمعناها الحقيقي ومقصده بها.. وتوقعت أن تندفع من جوفه كلمات مؤثرة معبّرة تنطق بمشاعره الجياشة.. لكنه ظلّ صامتًا وكاد صمته أن ينطق بكلمات شبيهة بحديث الموتى وهمساتهم.. وتنامى الصمت بعد أن تغيّر وجه الشيخ. ثم أغمض عينيه. وارتخت أطرافه. وانهار على الأرض. وسكتت نبضات قلبه.. وراح في إغفاءةٍ أغرقته في صمت أبديٍّ طويل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى