الأحد ١٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٣
بقلم أشرف شهاب

بعد خمسين عاما من الثورة فى مصر:

مدار الشهر الماضى كانت مصر على موعد مع الاحتفالات بالعيد الخمسين لثورة 23 يوليو. أو اليوبيل الذهبى للثورة التى أسهمت فى رفع مكانة مصر فى المنطقة العربية. والحديث عن ثورة يوليو لا ينتهى، وفى كل عام يتجدد الحوار. وفى هذه المرة اخترنا أن يكون الحوار مع واحد من المثقفين المدافعين عن ثورة يوليو رغم أنهم اكتووا بنارها. وصلاح عيسى – لمن لا يعرفه - واحد من أشهر المثقفين المصريين، وهو يشغل حاليا موقع رئيس تحرير "جريدة القاهرة". مراسلنا فى القاهرة "أشرف محمود" التقى بصلاح عيسى على هامش الاحتفالات، وأجرى معه الحوار التالى:

على

 فلسطين: ما ذا يمثل الاحتفال باليوبيل الذهبى لثورة 23 يوليه؟
 صلاح عيسى: الاحتفال بالعيد الخمسين للثورة هو احتفال بالشعب المصرى وبقدرته على خوض المعارك. بقدرة هذا الشعب على مواجهة أعداء شرسين وعلى تحقيق الانتصارات، وتلقى الهزائم.. القدرة على الصمود فى مواجهة مختلف الظروف. هذه مناسبة عزيزة علينا.

 فلسطين: البعض يقللون من أهمية الاحتفال بالثورة، وبالقيم التى أتت بها، فما رأيك؟
 صلاح عيسى: فى اعتقادى أنه لا ينبغى علينا كمصريين وعرب أن نهدم الواقع. وثورة يوليو حقيقة وواقع. وهذه الاحتفالات هى تجسيد لمعانى وقيم، تستلزم منا أن نتذكرها فى اللحظة الراهنة التى يمر بها الوطن والأمة. أن نتذكرها بشكل يستهدف إحياء والاعتزاز بالكرامة الوطنية والاعتزاز بالأمة وبالشعب.

 فلسطين: هل ما زالت ثورة يوليو قائمة؟
 صلاح عيسى: ثورة يوليو انتهت كثورة، ولكن نظام يوليو ما زال مستمرا.

 فلسطين: إذا كانت ثورة يوليو انتهت كثورة فلماذا نحتفل بها؟
 صلاح عيسى: نحن نحتفل بالقيم التى تركتها الثورة. القيم التى أسستها فى مرحلتها الثورية. وهذه القيم تتمثل فى رأيى فى أربعة مبادئ رئيسية بالغة الأهمية. هذه المبادئ هى التى تتركها الثورات بعد أن تقوم وتكتمل، ولا يبقى منها إلا مجموعة القيم التى تتركها. ما الذى بقى من الثورة الفرنسية؟ بقى منها قيم الحرية والإخاء والمساواة. وهذه القيم لم تبق للشعب الفرنسى فقط بل للإنسانية كلها. والقيم الأساسية التى تركتها ثورة يوليو ويحق لنا أن نفتخر بها كمصريين وعرب هى: أولا أنها أكدت وأسست استقلال الإرادة الوطنية. حيث أصبح التفريط فى الإرادة الوطنية عارا يتردد اكثر المفرطين انحدارا فى أن يتجاوز هذه الخطوط الحمراء إلا عند حدود. حتى عندما تولى يمين ثورة يوليو الحكم وجنح بها يمينا كانت هناك خطوط حمراء للتفريط فى الإرادة الوطنية، وهو مازال قائما حتى الآن بصرف النظر عن موقفنا مع الإدارة المصرية الحالية. النقطة الثانية أن ثورة 23 يوليو هدمت البناء الهرمى الطبقى الحديدى الذى كان موجودا فى مصر ما قبل الثورة. فأصبح فى إمكان المواطن الذى يقبع فى أسفل الهرم الاجتماعى أن يصعد إلى قمته بجهده وعرقه وتعليمه. وهذه قيمة عصامية. هى لم تهدم الهرم الطبقى ولكنها جعلت هناك إمكانية للحراك الاجتماعى وهذه فكرة بورجوازية وليست فكرة اشتراكية. والنقطة الثالثة أنها أكدت وأسست انتماء مصر للعرب وأكدت أن مصر تصغر حينما تنكفئ على نفسها وأنه لا مفر أمامها من أن تكون جزءا من هذه الأمة العربية وقائدا لها وأن تكون طرفا فى معاركها. والنقطة الرابعة أنها أكدت أنه لا يجوز للدولة فى مصر أن تتخلى عن كفالة حد أدنى من ضرورات المعيشة للمواطنين. قد تأتى يوليو فى بعض حلقاتها رأسمالية وفى بعض حلقاتها انفتاحية أو اشتراكية ولكن يظل هناك هاجس لدى الحكام بأنه لم يعد ممكنا أن ترفع الدولة يدها عن المواطن وأن تتفرج عليه.

 فلسطين: يبدو لى أنك لا ترى فى الثورة سوى الجوانب الإيجابية؟
 صلاح عيسى: لا. ولكن بالطبع الإيجابيات أكثر بكثير من السلبيات. ومع ذلك فهناك قيمة سلبية أرستها ثورة يوليو هى أنها أكدت فكرة الدمج بين كل السلطات فى بعضها البعض. السلطة التنفيذية مع القضائية مع السلطة التشريعية. وأن ندمج هذا كله فى شخص الزعيم أو القائد، وأن عليهم كحكام أن ينوبوا عن الشعب فى تحقيق ما يريده. وأنهم هم الملهمون للشعب وأنهم يعرفون مصالح الشعب أكثر مما يعرفها هو. كما أن من بين السلبيات أنها عززت فكرة أن الديمقراطية هى نوع من الثرثرة والتعطيل للإنجازات. وهذه القيم ما زالت مستمرة أيضا.

 فلسطين: لقد تسببت لكم ثورة يوليو فى العديد من المتاعب وعرضتكم للسجن والاعتقال؟
 صلاح عيسى: نعم. ولكننى كمنصف حين أتكلم عن الثورة يجب أن أكون أمينا. ولا يمكننى أن أنسى لحظة واحدة أن ثورة يوليو هى التى أنهت ظاهرة الاحتلال العسكرى للدول الأخرى. إذا لم نكن نحن المصرين ونحن نحتفل بعيد ثورتنا نتنبه إلى أن ظاهرة الاحتلال العسكرى انتهت من العالم بجهد ثورة مصرية، وبمساندة ودعم وتأييد شعب مصر فسنكون كمن لا يريد أن يستلهم من تاريخه لحظات مضيئة. لقد ولد قادة ثورة يوليو ولدوا فى مرحلة ما بين الثورتين وتشربوا القيم التى كانت فى المرحلة ما بين ثورة 1919 وثورة 1952، وعاصروا صعود الفاشية والنازية والأتاتوركية وغيرها من التجارب البائدة التى قامت على فكرة السلطة التنفيذية المركزية القوية التى تقفز بالوطن من مراحل التخلف إلى مراحل التقدم وتحقق التنمية الاقتصادية وتخرج بالأوطان التى نشأت فيها من الهزيمة والتفكك إلى أن تكون دول كبيرة ومؤثرة.حدث هذا فى تركيا وفى ألمانيا وإيطاليا وكلها دول كانت مهزومة فى الحرب العالمية الأولى. ولكنها نجحت بقيادة العسكريين فى أن تقفز فجوة التخلف وأن تحقق تحرير الوطن وأن تحقق تنمية فى الاقتصاد. وقد تربى ثوار يوليو فى هذا المناخ الذى ساد فى المجتمع المصرى منذ 1936 الذى كان يبحث عن فكرة المستبد العادل. لكن ثوار يوليو لم يكن من بينهم من يعتز بالديمقراطية بمن فيهم الشيوعيين. لم يكونوا يهتمون بالبحث عن برلمانات أو أحزاب. كانت الفكرة هى البحث عن سلطة تنفيذية قوية تنقل الوطن من التخلف إلى التقدم، من التبعية للاستعمار إلى الاستقلال، من الاقتصاد الزراعى إلى الاقتصاد الصناعى، وكان هذا حلمهم.

 فلسطين: نتذكر جميعا أن الثورة شهدت خلافات شديدة على أساس إرساء القيم الديمقراطية وترك الحكم لحكومة مدنية. فلماذا لم يتحقق ذلك؟
 صلاح عيسى: لأن جميع الذين شاركوا فى الثورة من ضباط كانوا جميعا ينتمون إلى مدارس فكرية مختلفة لا تؤمن أى منها بالديمقراطية. لا الشيوعيين ولا الإخوان المسلمين ولا مصر الفتاة ولا الوفد ولا أى قوة سياسية مصرية كانت ترغب فى تحقيق الديمقراطية. وواقع الأمر أن الأسس الديمقراطية كانت على هامش تفكير المثقفين المصريين إلا من رحم ربى. وأتذكر أنه فى 1954 سارت المظاهرات فى الشارع تهتف "تسقط الديمقراطية تسقط الحرية ويسقط المثقفين". وحتى التيارات التى عارضت الرئيس عبد الناصر بحجة الديمقراطية لم تكن فى الحقيقة تطالب بتعدد الأحزاب. صحيح أن الخلاف بين عبد الناصر والشيوعيين عام 1954 كان ينحصر فى إقامة التعددية الحزبية بلا استثناء، ولكن بعد ذلك فى 1958 عندما كان الشيوعيون يطالبون بحزب شيوعى يشارك فى الحكم إلى جانب الاتحاد القومى أى تخلوا عن مطلبهم السابق لصالح مشاركتهم فى الحكم. ونفس الموقف بالنسبة للإخوان المسلمين الذين كانوا يريدون استغلال الثورة لصالحهم.

 فلسطين: وكيف كانت علاقتك بثورة يوليو كمثقف؟
 صلاح عيسى: العلاقة بين ثورة يوليو والمثقفين عموما كانت علاقة شد وجذب. كانت علاقة حرجة بسبب هواجس عبد الناصر من المثقفين وبسبب هاجس المثقفين من النظام. ولم تصف العلاقة بين المثقفين وعبد الناصر إلا بعد وفاة عبد الناصر والانقلاب الذى تم على منجزات الثورة. كانت هناك معتقلات وسجون وحملات فى الصحف وتشهير، ولا يوجد تيار سياسى لم يتم التشهير به من جانب الثورة. وسادت روح الشللية وكانت هناك مجموعات من المثقفين ترتبط بما أسماه السادات بعد ذلك بمراكز القوى. رغم أن الجميع كانوا جزءا من النظام.

 فلسطين: هل صحيح أن الكاتب الصحفى صلاح عيسى كان يشارك منذ صغره فى المظاهرات المعادية للاستعمار؟
 صلاح عيسى: صحيح كنت وقتها لم أزل صغيرا فى الحادية عشرة من عمرى، تلميذا فى المدرسة الابتدائية، حين خرجت لأول مرة، فى مظاهرة ضمت طلاب مدرستنا، وطلاب المدارس الابتدائية والثانوية المحيطة بنا، نطالب بجلاء قوات الاحتلال البريطانى عن مصر. وكانت المظاهرات تهتف باللغتين العربية والإنجليزية بشعار "حذاء فاروق تاج لجورج". وكان فاروق وقتها ملكا لمصر وجورج ملكا لإنجلترا. وكنا نحط واجهات المحلات المكتوبة بالعربية والإنجليزية أو المكتوبة بالإنجليزية فقط بسبب كرهنا للغة المستعمر الإنجليزى. وكانت معظم مظاهراتنا تبدأ قبل حصة اللغة الإنجليزية، حتى لا نتعلم لغة الذين يحتلون بلادنا.

 فلسطين: سؤال آخر.. هل تقدمنا كمصريين وعرب بعد نصف من الثورة؟
 صلاح عيسى: من خلال نظرة شاملة إلى الواقع السياسى والفكرى العربى، نكتشف أننا لم نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام منذ نصف قرن على الأقل. ونكتشف أن التيارات السياسية العربية ما زالت تصر على أن تقف مواقف متطرفة إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار.. إما أبيض أو أسود. وهكذا يطرحون المعادلة اليوم بعد أحداث 11 سبتمبر، وكأنه لا خيار أمامنا إلا أن نكون مع "بن لادن" مائة بالمائة، أو مع "بن بوش" مائة بالمائة. أما أن تختار أن تكون مع أو ضد الاثنين، فغير وارد، لأنه يتناقض مع مبدأ "محلك سر" الذى نتخذه شعارا لنا. لقد تعرضت شعوبنا العربية لظروف قاسية. وكان المحتل لا يخرج من بلادنا إلا ليعطيها لمحتل جديد. وهكذا كان عندما زرعوا إسرائيل فى المنطقة. وبهذا السبب زحف العسكريون العرب على السلطة فى بعض الأقطار العربية، واتخذ الجميع من شعار "تحرير فلسطين" ذريعة لإقامة نظم غير ديمقراطية، هذا هوه ما حدث بالفعل فى معظم أنحاء الوطن العربى. وهذا هو السبب فى تخلف فكرنا السياسى والاجتماعى. وكان من الطبيعى بعد كل ذلك أن تعجز تلك الأنظمة ليس عن تحرير فلسطين فحسب، بل عجزت عن وقف توسيع إسرائيل نطاق الأراضى العربية التى تحتلها. واكتفت النخب المثقفة بعقد مؤتمراتها وندواتها في غرف ضيقة لتصدر منها التوصيات. وأصبحت القدس هى القاسم المشترك فى المنتديات السياسية دون أى دور إيجابى نحوها. والسبب أنها لم تعد ذات أهمية أولى للعالم العربى بل أصبحت تحتل المرتبة الثانية بعد الهموم الخاصة بالمواطن العربى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى