الثلاثاء ٢٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم منهل السراج

بيروت احتشمي

باغت أمي تتأمل من وراء نظارتها في صورة لها مع أبي. تبدو في غاية السعادة تلوذ بكتفه وذراعه التي أحاطت خصرها.
قالت:
 ان علي أن أمزقها مثلما فعلت بغيرها.
 لماذا؟
 الله يعفي عنا.
معطف أمي في الصورة سماوي اللون، مشمور الكمين، وعلى رأسها إيشارب خفيف يكشف عن غرة شقراء وبقية شعرها يطل من تحت هذا الغطاء الخفيف. عيناها تضحكان بحرية. مكتوب على قفا الصورة "بيروت- تشرين 1949". قالت دون أن أسألها:
 كنت جهلانة.
كانت الصورة للعروسين في بيروت.
وظلت رحلة بيروت هدية أبي لأمي كل عام.

في كل صيف كانت لنا زيارة لبيروت. أرتدي ثوبي الحموي السموكن البني، ذا الجيوب والثنيات الكثيرة والمكوي بدقة. جوارب بلون البيج تصل حتى الركبتين، كي لا تظهر أي مساحة من اللحم، وحذاء بنياً مغلقاً رغم الحر.
تأتي السيارة في السادسة صباحاً.
صمت مطبق طوال الطريق. عند الحدود السورية، ننتظر الخلاص بحذر. وحين يدير السائق محرك السيارة: خلصنا. نعرف أننا نجونا. مم نجونا؟ لا أحد يستطيع الإجابة. وما هو ذنبنا لا أحد يستطيع الإجابة. كنت حين أسأل أبي عن سبب اصفرار الوجوه لا يجيب. وأحياناً أسمعه يقول لأمي: أخاف أن يتبلّونا.

الآن تجاوزنا الحدود السورية. تقول أمي وهي ترخي غطاء رأسها: فرفح قلبي. كان الذهن يدوخ، والوجوه تتنهد، ما إن يظهر بحر بيروت. يدير السائق المسجلة. يفتح أبي قبة قميصه قليلاً مرخياً ربطة عنقه. ويبدأ حوار بينه وبين السائق ولا مانع أن تشاركهما أمي أيضاً. حرية وصفح ونشوة غامضة. وحين ندخل أوتيلنا المعتاد في الحمرا، كان أبي يضحك مع موظف الاستقبال ويداعب المسؤولة عن تنظيف الغرف، قائلاً:
 يا لينا إنت ست الكل.
وأمي تبتسم بتسامح. فكنت أفرح وأهرع إلى نافذة الغرفة، كي أطل على السوق. محلات الفاكهة وأناقتها، رواد المقاهي وثرثراتهم، وكنت أجفل من قهقهاتهم العالية، يأتيني صوت نصري شمس الدين ودبكة الميجنا ويتراءى لي دلع بنات دبكة لبنان وقامات شبابها. وفيما أراقب كنت أرمي من قدمي حذائي وأسحب جواربي الطويلة وأخلع ثوبي السميك، متباهية أمام النافذة بأن كتفي أنا أيضاً عار. تفتح أمي الحقيبة، فأتناول الثوب الأزرق الرقيق ذا التنتنة، والذي كنت أسميه: ثوب بيروت.

لبيروت أثواب غير أثواب حماه. هكذا اعتدنا. بيروت تعني لي ثوباً قصيراً متحرر الركبتين، أرتديه وفي كل قفزة تفرح ركبتاي وقدماي.
أغمس الخبز في اللبنة وأقول:
ـ ماما لبنة بيروت أطيب من لبنة حماه. تضحك أمي موافقة. وزعتر بيروت أطيب، وكمان المكدوس والجبنة. إلى أن اكتشفت متأخرة أن عدة الفطور كانت أمي تحضرها معنا من حماه.

أتمشى على الشاطئ وأبتهج بأمي وأبي المتحررين لأن ذراعيهما متشابكان، وكم تمنيت لو يفعلان هذا في حماه شديدة الرصانة.

في الليل أراقب الفتيات الصغيرات بعمري، يخطفن خرطوم الأركيلة من أمهاتهن كي يشاركن جلسة المساء، وأنا في الغرفة، لاتعنيني أصوات المتفجرات التي بدأت حينها، لأن دفء التلصص على هذه الحياة أقوى بكثير من أي صوت خارجي وهذه الغبطة تقدر أن توفر أمني.
بيروت حبة الشوكولا، الشط الذي يذوب، والهواء السكران.
إلى متى تظلين هكذا؟ يلزمك ثوب من الجوخ السميك ومنديل أسود يغطي وجهك وحسنك، وكفاك مغريات، فقد بالغت في حبك للحياة الدنيا. وافقي على الزواج، طلاب الزواج كثر وكلهم يريدونك محجبة. وافقي، ألم تهلكي؟

غداً يغادرونك بعد أن يتأكدوا أنك هلكت من الموت والخراب. نعم ستبدين لعيونهم الشرهة أنك تحتضرين، ولكن ما إن ينشغلوا بأمور أخرى حتى ترجعي لعاداتك المضرة، ترتدين ثياباً شفافة وتتبخترين. شمس قريبة وخافتة وشط ذائب، ولون سماء قريب وحنون، غبش أبيض طيب، وما إن يأتك زائر حتى تمدي ذراعيك، تلفلفينه بغطاء حنون وتضمينه كأنه عشيقك الوحيد، تهدهدينه وتلاطفينه حتى يتعلق بك، ومن بعدها كيف يقبل أن يتخلى عنك بعد ما أغريته بكل هذه المحاسن؟

السلايف والضراير أصابتهن الغيرة، وضعن الغطاء منذ زمان وأنت ما زلت المدللة، إرمي ستاراً عليك وكفى.
أو انزلي إلى السوق وابحثي لك عن ثوب ينجيك. إذا نويت، لدينا من الأغطية الكثير، تلقفي مني هذا، واعملي بنصيحتي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى