السبت ٢٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم أسامة جودة

تليفون محمول

وحدى أنا تركونى لهمومى، تركونى أراوغ أحزانى وأشجانى لأهرب من آلامى آه...خرجت من صدرى ومعها زفرة حارقة وتركت غصة فى حلقى تؤرقنى، سأختبئ من حرارتها فى شرنقتى الباردة المظلمة الصغيرة.أضعك الآن أمامى وأحدثك أنت يا تليفونى المحمول، ماذا صنعت لى فى وحدتى؟

لقد انسحب الجميع من حولى وتناسونى أو نسونى حقاً، فصاحب العمل ذهب ليتغدى ويستريح وكذلك زميل العمل، أما أصحابى وأحبابى فأبعد ما يكونوا الآن عنى وأنا كذلك فقد شغلتنا الدنيا بما فيها، بأفعالها المتقلبة العشوائية الغريبة، تفرح قلوبنا يوماً وتحزننا عشرة، تمنينا وتمنعنا، ترفعنا ثم تدنينا، تتركنا نجرى وراءها ونلهث بين دروبها المفعمة بالأشواك والعراقيل والضباب وما نلبث أن نخرج من درب حتى نجد دروب جديدة عديدة متشابكة غير متناهية، كلها أصعب من بعضها.

تلك هى أفعالها وحركاتها فماذا غيرت من واقعى يا هاتفى الجوال؟!

كم تمنت نفسى أن تمتلكك وحلمت يدى أن تضمك؟

والآن وقد عبثت بك يداى لم تحقق لى شىء مما توقعته منك، نعم اشتريتك لأكمل بك منظومة جمال المظهر لا جمال الروح، فهذا شىء أثمن وأصعب من أن يشترى فهو هبة من الله يهبها لمن يشاء من عباده، فكان على بالإضافة لهندمة الثياب وتلميع الحذاء وتصفيف الشعر ولتكتمل المنظومة، كان لابد لك من الظهور جوارى لا تفارقنى مثلك مثل جلدى الذى يكسو عظامى ثم كان عليك أن تثبت وجودك وتعبر عن نفسك وأن تسمع الجميع رنينك الجذاب و إلا لماذا وجودك؟! كم هى مهزلة أن تجلس جوارى لا تنبس ببنت شفه كالجثة الهامدة لا روح فيها ولا حياة.

لم أسمع لك صوت حتى الآن رغم أنى أخبرت الجميع بأرقامك، ومع ذلك لم يقصدك أحد منهم ليهب لك روح الحياة، هل لأنهم يثقون بأنك ميت ولأنهم يترفعون أن يخاطبوا الأموات؟

هل قاطعوك أنت أم قاطعونى؟

هه... هه... لا أثق فى إجابتى!!

الأهم الآن هل ستظل هكذا دائماً صامت؟... هل ستتركنى أعانى وحدة وظلمة القلب؟... هل ستتركنى استمع وحدى لسيمفونية الكآبة السوداء؟

هل سأقضى العمر أنصت لصرخات وتأوهات المحزونين والمكروبين والمعذبين والمحرومين واليائسين والمغتصبين والمشردين والمكتئبين والمنتحرين والمقتولين؟!!!

ماذا لى بعدها سوى أن أحدث أرواح الموتى والشياطين والأشباح.

بالله عليك اخرج من صومعتك واترك اعتكافك لتنقذنى ولتنتشلنى من تلك الدوامة المغرقة، لتخرجنى من تلك الدائرة المغلقة الخانقة.

أفصح عن لسانك الخفى وارنى إياه، انطق ولو بكلمة واحدة كى تسترجع أذنى ذكرى السمع.

تحرك... انطق.... انطق وإلا حطمتك كنملة تدوسها الأقدام.

لا... لا لن أحطمك الآن ولن أتعجل، بل سأفيض كرمى عليك وأهب لك روح الحياة وسأستخدمك ربما للمرة الأخيرة لأحدثهم أنا، لكن طيور الحيرة والتردد بدأت تسكن لأعشاشها القابعة فى عقلى وبدا لى الأمر وكأنى أتخبط فى الطريق، أتمنى أن أحدثهم واخشى أن أزعجهم وأضايقهم بحديثى لهم فمن المؤكد أنهم الآن مشغولون.

أرى (أحمد) الآن فى مخيلتى تغوص قدميه وسط الرمال الصفراء التى بدأ يدب فيها اللون الأخضر فى توشكى وأخذ يشير إلي هذا ويومئ إلى هذا أن افعل كذا وجبينه هو وزملاءه يقطر عرقاً يروى الرمال العطشى تملئ عيونهم لمعة القوة والتحدى رغم ظروف عملهم الصعبة، أعانهم الله وأعانه..فكيف لى أن أزعجه؟

أما (مصطفى) أثق أنه الآن فى حجرته الضيقة الخانقة يقف مستأسدا فى النول اليدوى الذى يعمل فيه بيديه وقدميه فى حركات ميكانيكية شاقة يندى لها الجبين، يقف مشروح الصدر مفتول الذراعين رغم مرارة الصبر التى جرعها حين أعطاه الحظ ظهره ولم يحظى بالتعيين مع زملاءه من الأوائل فى الجامعة...كان الله فى عونه، فكيف لى أن اشغله؟

بينما (شكرى) الآن هو الآخر يتوطن بيته ليعد عدته ليواجه عدوه اللدود فى تلك المعركة الطاحنة مع ذلك المرض الخبيث الذى نخر عظامه كالسوس ينخر الخشب، قواه الله وشفاه..فكيف لى أن أزعجه؟

و(محمد) أثق انه الآن رفع شعار (النوم فوق كل شيء) فوق رأسه لا لحبه ونهمه للنوم ولكن لسهره الليالى أمام قنوات الدش والإنترنت فقد قلب ليله نهار والعكس، فكيف لى أن أوقظه؟

أما حبيبتى فأولاهما أراها الآن فى عملها تضحك وتقهقه بصوتها المرتفع دائماً كعادتها مع زملاءها، يكاد نور وجهها يخطف الأبصار ويكسف الشموس رغم سماعى لفحيح أفاعى الحزن التى تعشش فى قلبها العليل الكليل، فكيف لى أن اقطع حبل ضحكاتها؟

والثانية: أراها تنهل من محيط العلم بعيد الأفق قطرات تروى ظمأها وأوامها ذلك حين تضم لصدرها كتاب تتراقص حروف كلماته وتتبختر فرحاً ونشوةً بتلك اليد الرقيقة التى ضمتها وبتلك العيون الزرقاء الصافية صفاء السماء التى تعطفت عليها ورأتها، كم أتمنى أن أكون كلمة صغيرة فى كتاب لتنظر لى وتقرأنى!!... لكن كيف لى أن أشغلها عن مذاكرتها؟

هؤلاء أصحابى وأحبابى كلهم مشغولون ولا يملكون سعة الوقت التى تعينهم على التواصل......

أهون من الأمر على نفسى بتلك الكلمات التى لاكها فمى رغم مرارتها ولأننى مقتنع فى قراره نفسى أن حجة الانشغال ما هى إلا حجة واهية نتخذها لنلتمس الأعذار لأنفسنا ولنتخذها ذريعة لعدم التواصل... لذلك سأحطم ذلك الجدار العازل بينى وبينهم وسأبدأ أنا بحديثهم.

امسك الآن بك يا تليفونى المحمول و قريباً سأضغط على أزرارك المتناهية الصغر ولكن بمن سأبدأ؟

ما هذا؟!!!

حدث منك الآن ما لم أكن أتوقعه منك أيها التليفون الحبيب الخليل، أتركت صومعتك من أجلى.. لقد جذبتنى أنغام رنينك وأذهلنى ضوء شاشتك الملونة، ترى من قصدك أيها المحمول؟.... من قصدنى إذن!!

  آلو...

  آلو... الأستاذ (محمود) موجود لو سمحت؟

  محمود مين!!!... النمرة غلط

  آسف

ماذا أفعل فيك الآن أيها التليفون الغبى؟ فقط سأهشم وجهك لأتخلص منك للأبد.

طاخ... طراخ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى