الأحد ٢١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم سعود الأسدي

ليلة نجاة ثورنا

مبروك ! مبروك !

ولدت بقرتنا " الكحلا " عجلا ًيغلب على لونه البياض ، ويوشّحه بعض السواد ..وأسميناه " حَمَاماً ".

قامت جدتي " زليخا " وصنعت عصيدة .. سيّحت سمناً ، وسكبته على لجن العصيدة ، وصبّت قطر السكّر بزيادة ، وملأت بعض الصحون ..

أوصلتُ تلك الصحون للجيران حلوى " العريس " حمام .. ابن بقرتنا الكحلا ..
مبروك .. مبروك .. إن شا الله بصير يشق الأرض بطول وعرض !

.. لا أبالغ إذا قلت : إنّ حمام ابن بقرتنا الكحلا صار أجمل وأقوى ثور في قريتنا .. نحرث عليه مقترناً بأمّه ، ونزرع الموسم الشتوي والصيفي وهو على ما يرام صحّة وقوة ونشاطاً .. وإذا دعاه الداعي للنطاح هزم كل ثور يتصدّى له .

قالت جدتي ذات صباح باكر : ألله يستر من هَـ النهار ! الليلة شفت حمام في المنام وحولو ناس كثير ..كفى الله الشر !

قال لها جدي : بكفي يا حرمة تفاولي علينا !

قالت جدّتي : الأحلام أعلام واللي بعيش بشوف !

وفي المساء عندما عاد فداننا من الحراث كالعادة قال عمّي عبد المنعم : اليوم " حمام " ما عجبني في الحرات .. كان يلهث .. ويظهر عليه التعب .. ولما فكّيت النير رقد في الثلم ، نهرته قام يجرّ حالو جرّ ، وما أكل عشبه وحده ، اطّلعوا وشوفوا كيف بطنه ضامر.. حمام مفشول !!

قام والدي على التوّ إلى حوش الدار ، فوجد حماما راقداً مطأطىءَ الرأس ورُوَاله يسيل ويَنْهَج بشدّة .. قال الله يستر حمام ما بكمّل للصبح .

قال عمّي قاسم : سنسهر عليه الليله فإذا لبط لبطتين وشهق ذبحناه !!

أخذ بعضهم يسنّ السكاكين ويحضر قطّاعة اللحم والطبلية ..

ساد على وجوهنا جميعاً وجوم ، بل حزن شديد ، حتى أن إخوتي الصغار شعروا بأن هناك مصيبة ستقع ، فكفّوا عن الحركة واللعب والضحك البريء .

سنسهر على ثورنا فلعل الله يشفيه مما هو فيه !

كانت قريتنا تعدّ بضع مئات من بسطاء الفلاحين وفقرائهم ، يسكنون بيوتاً طينية متراصّة .. وفي القرية يعرف الناس فيها أخبار بعضهم بعضا ، ويقفون على الصغيرة والكبيرة ، ويتحدّثون بما لهم وما عليهم ..عنـزات فلان .. بقرات فلان .. فرس فلان حمار علاّن .

سرى خبر تعب ثورنا في القرية في أقلّ من ساعة .. حمام بدّو يموت ! حضر بعض الجيران يدعون لثورنا بالسلامة ! قالت امرأة عمّي لأميّ همساً :

والله سمع ذاني جارتنا لطيفة أم عيون زرق وسنان فرق قالت وهو حمام فايت ع الدار : إنشالله الليلة منوكل من كبدتو !

كان القمر ليلتها في المحاق .

بعثني أبي إلى مختار القرية ليعيرنا " مصباح اللوكس " لنسهر على حمام .. ذهبت مسرعا دون أن ألبس حذاء أمّي !

ولكن يا لخيبتي كيف لي أن أعلم أن كيس اللوكس رماد ؟! كتّ رماده ، وأنا أركض به ولم انتبه له عندما صدمته بصخرة في حارتنا الصخريّة الضيّقة !

انهال أبي عليّ تقريعاً لحادث كيس اللوكس ، وأرجعني إلي مختار القرية لجلب كيس لوكس جديد . عالجه عمّي ونحن نتأمّل .. وأشعله ونبش فونته بإبرته فأضاء الحوش كله فالتمعت عينا ثورنا حمراوين كسكاريج الدم !!

الثور تعبان قالها جارنا صنع الله وهو ينفث دخان غليونه إن شالله ما بصير عليه إشي !

الجميع ينتظر الفرج فلعل الثور يرتاح .. طال انتظارنا وعيوننا الحزينة ترنو إلى الثور الراقد وجسمه يرتجّ مع إيقاع لهاثه السريع وعيناه دامعتان ولا يكاد يلتفت إلينا .. قبل أذان الفجر بقليل قام أبي ووضع يده على راس " حمام " وسمّى وقرأ المعوّذتين بصوت خفيض .. وأخذ يتمتم .. ويقرأ ويعزّم .. ثمّ قلع من شعر ذيله بضع شعرات ووضعها على جمرات فحم هزيلات سبق لجدتي أن أشعلتها في كانون النار ، ووضعت عليها أعواداً ووريقات من الميرمية لترقي بها حمام وتبخِّره من عين الحسد .

بعد أذان الفجر بقليل تحرّك حمام ورفع رأسه ناظراً إلينا جميعاً مستغربأ مستهجنا تجمهرنا حوله .. ظننت أنه يريد أن يودّعنا الوداع الأخير ... هه .. !! وما هي لحظات حتي رأيناه قد استجمع قواه وتنهّد عميقا وبدأ يمضغ !! قال أبي فُرِجَتْ ! حمام يجترّ .. نهض جارنا عمي صنع الله مبتهجاً وقال : الحمد لله زالت الشدّة .. يلاّ يا زغار روحوا ناموا ! وضبّ عمي قاسم السكاكين والقطّاعة والطبليّة ، وأطفأ اللوكس ، وتداخلت أصوات الموجودين : الحمد لله على سلامتو !! الحمد لله على سلامتو !! تصبحوا على خير !

وسمعت جدتي تقول لجدي : شفت يا حميّد !! شو أنا بشوف في المنام بتفسّر !! لكنْ ألله ستر !!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى