الثلاثاء ٦ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم محمد المهدي السقال

العراف

انشغل سعادة الوزير برؤية الشمس آخذة في الأفول خلف الواجهة الزجاجية , فلم ينتبه إلى السطر ما قبل قبل الأخير في كلمته العصماء , مع ذلك , انهالت التصفيقات من الزوايا بنظام إيقاعي بديع , سمع أباه يتحدث بسخرية , عن لقاءات المسؤولين مع الشعب في مواسم الاجتماعات تحت قباب قصور البلديات , تُكْترى الأكف كما تُكترى الوجوه, وتبقر دار لقمان على حالها , عين السيد الوزير على طائر يصارع من أجل تثبيت قدميه , وأخرى على السطرين المغفلين , بقيت في نفسه عبارات مدبجة بإحكام , تتعرض بالأرقام لما تحقق في عهده على رأس وزارة الصيد البري, تردد كاتبه الخاص و أمين سره اللغوي كثيرا , قبل أن يجد التعبيرات المناسبة لما قصد إبلاغه بالزور والبهتان , كأن السماء كانت مفتوحة , فاستجابت لرفضه الضمني كتابة ذلك السطر ,

وغاب سعادة الوزير مفكرا فيما ضاع منه , لم تنبهه سوى إيماءة رئيس الديوان , للوقوف بالتحية أمام الجمع , اضطر للاتكاء على يمينه حذر الظهور بحقيقة عجزه , بينما زادت الأيدي في مقارعة بعضها في وجه سعادة الوزير , كانت يداه تحاولان إسناد قامته المتعبة لحافة المكتب العريض , وبينما هو كذلك , إذا برجل يسعى نحوه متسللا بين الصفوف , توقف أمامه ,
و قبل أن يباغثه الحرس الإداري , لفظ من فمه بصقة لزجة , أرست على خده الأيسر , ثم أخذت في التحلل أخدودا إلى ضفاف الأنف المعقوف ,

ارتمى عليه حارسان بلباسهما المدني الأنيق , سُمِع تمزُّق لم تُعرف جهته, حمَلا الرجل لا تلامس أرجلُه الأرض , و همَّا بالاختفاء به عن العيون , لولا تدخل سعادة الوزير ,

حكى لي من حضر , أن سعادته استدرك الحارسين , بعد التمكن من التخلص بالكاد من لزوجة القذيفة ,
عم صمت رهيب لم يعرف الناس له مثيلا ,

كل العيون تسمرت حول شبح السيد الوزير , في انتظار ما سيقوله, ما سيفعله,

قلت لصاحبي : لا تقل لي بأنه صفح عن الرجل على طريقة البابا ,

نعم ,
أ
ُنزل الرجل إلى الأرض بإشارة منه , استقدمه إليه , تردد الرجل وحالة الهلع مازالت متمكنة منه , وكَزه أحد الحارسين أو هما معا, لأن الدفعة أوقعته بين يدي الوزير , تراجع بالكاد قليلا :

لا يلمسه أحد , أنا عفوت عنه ,

عادت التصفيقات مدوية من نفس الأركان , وعاد الناس إلى مقاعدهم بعدما كانوا على وشك الخروج ,
قلت لصاحبي :

لست عرَّافاً , لكني أستطيع تصور الباقي , فقد حدث لغيره من السادة الوزراء ما يندى له الجبين , حين كان يستعد لانتخابات المواسم الفارطة,

هل تقصد أنه تعرض للبصق على وجهه ؟

لا , كان الأمر أهون , تعرض سيادته للقذف بالطماطم الهارية في طريقه إلى " سوق البقر" *, أصيبت ملابسه الأنيقة بوابل منها , دون اختراقها جسده , لكنه ظل ثابتا يصطنع ابتسامة عريضة , فيما بعد , قال لحواريه : حتى الأنبياء تعرضوا لإيذاء العوام من الهوام .

وحتى لا يسألني أكثر عن تتمة حكاية السيد الوزير و ما وقع له من البهدلة في بلاد البوغاز , استدركته بالسؤال "
هل دشن الوزير قبل خطبته مشروعا في الهواء الطلق ؟

نعم ,

هل كانت ساحة القرية مرتعا للأكل والشراب , داخلها مهزوز و خارجها مكنوز؟

نعم ,

وهل كانت كلمة سعادة الوزير محصورة في مناسبة قرب الانتخابات ؟

نعم ,

ولم يتمالك صاحبي نفسه , لينتظر ما أوحت لي به الحادثة ,

كيف عرفت كل ذلك ؟

و أستطيع أيضا التنبؤ بما سيصير ,

سيعود السيد الوزير إلى القرية مترشحا عن جماعة " بني خوين ",
وسيفوز بمقعدين لبر الأمان , قبل تسليم مفاتيح الوزارة لمن يليه ,
وهكذا دواليك ,

أطرق صاحبي مسندا جبهته على رؤوس الأصابع المضطربة , وقال سائلا:

هل عرفت صاحبنا الوزير ؟

أجبته سائلا بدون أدنى تردد :

وهل يخفى القمر ؟

قال :

لا حول ولا قوة إلا بالله , في القرن الواحد والعشرين ؟

* " سوق البقر " ساحة عامة في المدينة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى