الأحد ١١ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم أحمد نور الدين

لقاء في شارع المنفى

تركته يجلس في ذلك الركن من مقهاي الاثير. و ذهبت الى الهاتف لأكلم احلام و اعتذر لها عن مجيئي لتناول الافطار في بيتها. لكن هل تصدقني ان قلت لها بأني التقيت في طريقي اليها بصديق حميم قادم من لبنان؟! عدت الى حيث جلس و كلمات احلام ترن في اذني موبخة لائمة. قلت له :

 اي قدر هذا و اي صدفة! بعد كل ما مضى نلتقي في شارع من شوارع كندا؟!
ابتسم يحيى ابتسامة صافية و قال:
 لطالما منيت نفسي بلقياك. كنت اتمنى ان احضر كندا و لو في زيارة عابرة لعلمي بتواجدك فيها.
قطبت جبيني و انا اقول متكلفا الجد:
 اذا ليست بمصادفة ..هه؟!
 قد و قد..!
و ضحكنا ، و تمنيت لو ترجع تلك الايام الخوالي، قال يحيى فيما يشبه التنهد:
 لقد تاقت الى الابتسام شفاهنا!
ثم قال و هو يرنو عبر الواجهة الزجاجية الى الشارع:
 منذ زمن لم اضحك من قلبي.. ثم تابع بوجه متجهم:
 لم نعد مؤخرا نواظب على السهر كما هو العهد..الحرب بلغت اوجها ، و امسى كل واحد يفكر في حاله و اسرته..و لا احد يعلم سوى الله خاتمة ذلك كله..
قلت و انا اخشى من الانجرار الى اخبار الحرب في جلستنا هذه:
 دفع الله عنا هذه الغمة.
اتى النادل بالقهوة. و اغتنمت انشغال يحيى في تذويب السكر في فنجانه فتأملت وجهه و محياه، لا يزال جميلا ينضح بالفتوة و الشباب، الى نظرة اكتسبها توحي بالرزانة و الهدوء ، و كانت ذقنه حليقة، هتفت به:
 اخيرا اقتنعت بالتخلص من ذقنك الطويلة؟!
رفع الي عينيه بنظرة باسمة ثم قال و هو يتخلص من العود البلاستيكي الذي اذاب به السكر:
 لم يعد لها من جدوى.. اخذ حسوة من فنجانه ثم استطرد:
 لقد انقضى عهد المظاهرات و الخطب الحماسية، و باتت اللحية الطويلة في يومنا ثقلا يدين حامله كشبهة !
رمقته بابتسامة عابسة ، و رشفت بعض القهوة فشعرت بلذتها و بعثت في نفسي دفئا و حرارة.
بيد انه اضاف بعد برهة و قد افتر ثغره عن ابتسامة :
 لكن اتدري يا محمود ، ان فكرة التخلص من ذقني لم تكن فكرتي انا، انما فداء هي التي الحت علي بذلك زاعمة ان الذقن الطويلة تجعلني اشبه بالمسلحين و السفاحين الذين انبتتهم الحرب في في شوارع و ازقة بيروت!
 لقد ذكرتني بفداء!
اجتاحتني موجة من الذكريات و شعور عارم بالحنين..صديقتنا المخلصة فداء! و تلك الايام و الليالي التي قضيناها معا كيف يمكن نسيانها؟ هم يحيى بأن يقول شيئا لكني استبقته الى القول:
 أما زالت كعهدي بها. تعتمر بقبعة غيفارة السوداء و تستميت في الدفاع عن ارائها و مبادئها في الاخلاق و السياسة حتى اخر رمق؟!
امسكت عن الكلام لثانية، ثم اضفت متسائلا:
 هل بدت حزينة جدا عندما و دعتك، كشانها كلما ودعت قريبا؟
 عندما ودعتني؟ من قال انها و دعتني يا محمود..لا ذلك لم يحصل لانها اتت معي فقد تزوجنا!
لقد فوجئت لكني لم ادري ان كان الخبر مفرحا لي ام كان خبر عاديا. لكنني قلت :
 حقا! مبارك مبارك..و منذ متى؟
 منذ عام و نصف تقريبا.
 لكن كيف وافقت فداء على فكرة السفر. فعهدنا بها كارهة للهجرة لا تبارح حارتنا!
لوح بيده لامباليا و رشف من فنجانه. و سمعت صوت عبدالحليم يذوب في اللحن الشجي في و احدة من اغنياته . و ترامت الى سمعنا قهقهة عالية فالتفت الى مصدرها لفتة و جيزة فرأيت مجموعة من لاعبي النرد متحلقين حول طاولة في اقصى المكان.
 و اين تسكنان الان؟
 في شقة صغيرة في ماركهام. و على فكرة لقد رزقنا بطفل اتم عامه الاول منذ مدة.
 مبارك..و ماذا اسميتمانه؟
 اصبح قادرا منذ مدة قصيرة على المشي دون مساندة من احد. و ما ان يميز اصطفاك الباب حين اعود الى البيت حتى يندفع نحوي مهرولا و مثيرا صخبا و هرجا. و توهجت عيناه و هو يقول:
 لا تتصور كم انا سعيد بوجده في حياتي يا محمود. و لقد اتفقنا انا و فداء ذات ليلة على انه اجمل ثمرة اتت بها قصة زواجنا على الاطلاق!.
 فعلا ان الاولاد نعمة من النعم.
 انا اجده صور لامه ! لكن فداء تصر دائما على ان الولد نسخة عني ، معتلة باتساع جبينه و كبر انفه! تصور.
اخرج من جيب سترته علبة السجائر و فتحها. فحدجته بنظرة مستنكرة .
 ماذا تفعل؟!

هم بأن يستوضح مقصدي لكنه فطن الى مرماي قبلها فرد العلبة الى جيبه و هو يقول بلهجة انسحابية اقرب الى التذمر:
 لقد نسيت ان التدخين ممنوع في هذه الاماكن. اين هذه المقاهي من مقاهينا؟ يا سبحان الله !

لفت انتباهي نفر من الغلمان على الرصيف المجاور للواجهة الزجاجية، فرنوت اليهم وهم يعبرون مهللين تحت المطر المنهمر..صوبوا نحونا نظرات جريئة و قحة قبل ان يتواروا من المشهد تماما. رفعت بصري الى السماء فوجدت الدنيا في جنون و هياج..برق و رعد و مطر و ريح صافرة! و عبدالحليم حافظ يزداد انصهارا في مأساته و يزداد صوته تألما و انينا..و عاد لاعبوا النرد يرسلون بقهقهات خلتها اتية من عالم اخر!.. قلت ليحيى و انا الحظ شروده:
 اود ان ازورك في منزلك ذات يوم يا يحيى .. لقد اشتقت الى فداء كثيرا..اود ان اتحدث اليها و ابارك لها بالزواج و بالمولود..حقا لم تقل لي ما هو اسمه!

ابتسم يحيى و قال :
 لقد اسميته محمود!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى