الأحد ١١ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم عادل الأسطة

الأشياء تأتي متأخرة

" كان ذلك مختلفاً
صباي كان وقتئذ
في ريعانه
وأنتِ " ( سافو، شاعرة قديمة ).

سيراها تأتيه في الليل. سيراها ترتدي جلباباً أسودَ طويلا، سيراها تضع على رأسها شالاً يميل إلى البياض.سيراها تدخل إلى شقته تجلس معه.

من قبلُ، رآها أيضاً.رآها أفعى سوداء اللون، أفعى نحيلة. ورأى، هناك، في منزلها، رأى أفعى سوداء أخرى، أفعى معمرة، ممتلئة، رآها في سقف بيت منزلها الذي لم يكن من خشب، رآها في سقف بيتها وقد بدا مصنوعاً من الخشب. [ يتذكر في الصحو، يتذكر ما قصه عليه أحد تلامذته حين كان يدرس في الريف. يتذكر كلام تلميذه: أنام في الكوخ، وفي الكوخ أفعى تقبع في السقف. ويسأل تلميذه: ألا تخاف؟ ويجيبه: لا أخاف ].

يتذكر آخر مرة رآها، قبل أن يراها في المنام. ولا يذكر التاريخ. ربما كان ذلك قبل عام. ربما أقل قليلاً، ربما أكثر كثيراً. ويتذكر لقاءات عابرة تتم دونما اتفاق مسبق على موعد. ربما يكون الحديث عابراً. ربما يكون حديثاً عن الصحة أو عن مكان العمل. ربما يسألان عن العائلة، وقد تصدر عنهما عبارات تعبر عن ضجر ما من هذه الحياة، ضجر من الحياة في مدن صغيرة أشبه بالقرى، مدن محتلة، مدن محافظة، مدن تشيع أخبار سكانها وتتداول كتداول العملة بين أيدي البشر حين يبيعون ويشترون. قد تبدي سلوكاً ما، قد تعبر خفية عن إعجاب ما، عن رغبة في تواصل ما.

يتذكر أنه لا يفصح عن مشاعره. أنه لم يعد يرغب في مواصلة علاقة ما. ربما يشتهي امرأة، ربما يحتاج إلى امرأة، ربما يريد الخروج من عزلة فرضها على نفسه منذ زمن.

ويفترقان.
يفترقان زمناً طويلاً. لا هو يراها ولا هي تراه، ولا يسأل عن أخبارها إنْ تحدث الآخرون عنها في حضوره. ملاعين هؤلاء يذكرون أخبارها أمامه حتى يلاحظوا ردّ فعله. حتى يعرفوا إن كان يفكر فيها. يفعلون هذا ليبدوا رأيه في موقفه منها. هل حقاً يفكر فيها؟ أم أنه لا يسأل عنها؟ يريدون أيضاً أن يتأكدوا مما تشيعه من أنه يجري وراءها. [ يتكرر هذا السلوك أيضاً من كثيرين، من آخرين يعتقدون أنه يفكر في علاقة ما مع فتاة تخصهم ].
يغدو أسير وظيفته. يغدو بطل رواية لا يبحث عن امرأة ما قدر ما يبحث عن درجة أخرى في سلم الوظيفة. يقول أحياناً ربما أغدو مثل بطل رواية نجيب محفوظ " حضرة المحترم ". ربما أجد نفسي على أبواب الستين وقد حصلت على الدرجات كلها، وسأنظر إلى نفسي في المرآة لأجد شعري أبيض أشيب، ولأرى تجاعيد الوجه وفعل الزمان ". هل سيفكر رجل في الستين في امرأة؟ يسأل نفسه.
وتغدو أسيرة وظيفتها. امرأة عاملة أنهت دراستها. تذهب مبكراً إلى العمل. تذهب بسيارتها التي اشترتها بالتقسيط المريح. وتسدد ثمن السيارة. تسدد الأقساط قسطاً قسطاً. تصحو مبكراً، وتعود في وقت متأخر، وتنتظر راتبها الشهري. امرأة عاملة، لها عالمها المستقل. امرأة مثل أي رجل. امرأة تملك حريتها، وما عادت تقبل أن تكون حذاءً في رِجْلِ رَجُلٍ. ولماذا لا يكون هو أيضاً حذاءً في رجلها. ولّى ذلك الزمان الذي كان الناس يكررون فيه المثل: المرأة مثل الكندرة، ويخاطبون فيه الرجل الذي لا تطيعه زوجته: اشلح كندرة والبس كندرة، حتى تريحك الكندرة. فالمرأة يمكن أيضاً أن تشلح كندرة وأن تلبس كندرة، حتى تعثر على كندرة تريح رِجْلها، تريح قدمها.

والمدينة تكبر. المدينة التي كانت محتلة غَدَتْ نصف محتلة. خرج الجنود من شوارعها، وحل محلهم رجال الشرطة العرب. تحررت المدينة جزئياً. وتوفرت فيها فرص عمل. البنوك افتتحت أفرعاً جديدة لها، أو أعادت افتتاح الفروع التي أغلقت عام 1967. والشركات تنتشر في وسط المدينة وفي أحيائها الشرقية والغربية. المكاتب تكثر، والمكاتب تحتاج إلى سكرتيرات، ويفضل أن يكن جميلات أنيقات. [ يتذكر شابة عرفها. يتذكر لقاءه معها على دوار المدينة. كان عرفها من قبل، كانت تحدثه عن المدينة وما يجري فيها، شابة من المدينة تعرف خباياها وما يجري فيها، ولها لسان ثرثار، شابة، مثل نساء كثيرات في المدينة، يسعدهن الحديث عن الفضائح، ويسعدهن أكثر أن يعرفن الأسرار. وربما يكن هن لا يختلفن في سلوكهن عمن يتحدثن عنهن. يتذكر شابة ويتذكر أيضاً أنها …. ولا ضرورة. تحدثه الشابة عن الشابات. تذكر له اسماً واسما آخر. تتحدث عن رواتب مغرية وتغمز. تتحدث عن تقديم الكاس وما أدراك. يتذكر شابة عرفها قصّت عليه عن الزمن الجديد. عن المكاتب والأجور وما بعد ذلك ].

وثمة أيام تمر. ثمة قلب يشيب. وثمة زيادة وثمة نقصان. يمارس أيامه دون بهجة ما. يصحو مبكراً. في الصيف تطربه زقازيق العصافير على الشجرة القريبة. وفي الصيف، في الصباح يتنفس هواء الحياة. يذهب إلى وظيفته ويمارس حياته. قد يصغي إلى نشرة أخبار. قد يقرأ جريدة ما. قد يتابع مسلسلاً ما. وفي الشتاء ليس سوى ليل طويل. ليس سوى منزل ينفق فيه الساعات الطويلات. وحين يلتقيان تحدثه عن عملها وتسديد أقساط سيارتها. عن الأشهر التي تمر والأقساط التي تقل وراتب الشهر الذي ازداد، عن قسيمة الراتب. تذكر له أرقاماً تبدو له لا تتناسب ومؤهلاتها. أرقاماً تتناسب ومؤهلات أعلى، ولا يعقب. ربما الشركة تربح وتربح. ربما القطاع الخاص يكسب أكثر مما ينبغي، ولهذا يدفع ويدفع. ويلتفت إلى شباب يذوي. إلى نضارة كانت. نضارة تتلاشى. ربما لم تفكر بهذا. ربما تفكر بتسديد الأقساط.
وستأتي الانتفاضة. هل كان أي منهما يتوقع مجيئها. تحاصر الضفة أولاً، وتجتاح المدن، فيما بعد، وتحاصر، وتغدو كل مدينة دولة مستقلة، ولا بد من اجتياز الحدود، عندما يسافر المرء من مدينة إلى أخرى.

سترى راتبها يتضاءل رويداً رويداً. سترى أن عليها أن تسدد الأقساط في موعدها الشهري. وستلاحظ أن الشركة ما عادت تدفع راتبها شهرياً. تغدو الشركة تعدّ أيام الحضور وأيام الغياب. وتدفع أيام العمل. وستجد نفسها أمام عمل غير مجدٍ، فهي ربما تداوم يوماً في الأسبوع. ربما تداوم يومين، وستجد نفسها أسيرة المنزل من جديد، وما زالت هناك أقساط كثيرة عليها أن تسددها والبنوك تتعامل مع الأرقام.
هل التفتت، وهي تجلس في المنزل، والأيام تدبر بعد أن أقبلت، هل التفتت إلى شبابها؟ هل أخذت تمعن في النظر في المرآة؟ وهل رأت آثار الزمن على ملامح جسدها؟

ويلتقيان.

ثمة كلام ما. ثمة نظرات ما. ويختلف الكلام عما كان. يبدو كلاماً مغايراً. ثمة حديث عن رحيل عن البلاد. تنظر إليه وينظر إليها ولا كلام. لا يقول كلاماً ما يعبر عن رغبة في تواصل ما. يفهم الأشياء، يقرأ أحياناً معنى الصمت، ويتظاهر بأنه لا يفهم، ولا يحس ولا يشعر. كأنه بليد الإحساس. كأنه ليس رجلاً. كأنه من طين آخر جُبِلَ ؟! [ يتكرر هذا مع غيرها من الفتيات اللاتي عرفهن. منهن من حدث معها ما حدث معها. منهن من كانت تشعر بالكبر، من كانت تشعر بالوحدة. منهن من كان لا يلتقي معهن. من كن يحاورنه من خلال أخريات. ثمة رغبة في تواصل ما معه ].
يتذكر أنه كان على الاستعداد لأن يقيم علاقة ما مع واحدة منهن. يتذكر أنّ ثمة حواراً مباشراً أو غير مباشر جرى بينه وبينهن. يتذكر المثل الشعبي: خطبوها تعززت. وثمة عروض كثيرة. عروض مغرية. عدّة مقابل عدّة. ولا يأبه لأي من العروض، ولأي منهن. هل انقلب المثل السابق؟ خطبوه تعزز. لكأنه سادي. لكأنه يتلذذ بتعذيبهن.

[ حين قرأ مجموعة محمود شقير القصصية " مرور خاطف " توقف أمام القصة التالية مطولاً:
فرص:
بنات الحي كلهن تقريباً رفضنه، لأنه أطول مما ينبغي، وأكثر نحافة مما ينبغي.
انزوى في بيته البائس خمس سنوات.
ظل خلالها يقرأ التعاويذ والأدعية، ويمارس طقوساً استقاها من كتب وجدها في مكتبة جده الذي مات.
خرج إلى الحي كائناً جديداً.
وبنات الحي كلهن تقريباً رفضنه، لأنـه أقصـر مـما ينبغي، وأكثر بدانة مما ينبغي.
انزوى في بيته هذه المرة عشر سنوات.
خرج إلى الحي كائناً مختلفاً.
يذكر محياه الوسيم بأبطال الحكايات، وتوحي عضلات صدره وذراعيه، وانسجام قده من رأسه حتى قدميه، بأنه واحد من نجوم السينما المشهورين هذه الأيام.
بنات الحي كلهن تقريباً تهافتن عليه، كل واحدة منهن تتمناه في السر وفي العلن زوجاً أو عشيقاً، فلم يرقن له، لأنه وجدهن عوانس مترهلات.
انطلق في أرجاء الدنيا وحيداً، يبحث عن امرأة على هواه. وبنات الحي ما زلن جالسات على قارعة الطريق، في انتظار فارس أحلامهن الذي غاب ].

في المنام يراها. يراها تأتيه. ترتدي جلباباً أسود. يراها نحيفة، تضع على رأسها شالا أبيض اللون، وتأتيه تأتيه كما أتته ذات نهار في اليقظة. أتته ترتدي جلباباً اسود طويلاً، ولم تكن ترتدي شيئاً آخر. لم تضع شالاً على رأسها. كان شعرها أسودَ طويلاً. قال لها: اجلسي. قالت له: إنني على عجل. طلبت ما طلبت منه إنجازه، ولم تشرب قهوتها. [ يتذكر أنه كان في بلاد غريبة. يتذكر أنه كان يدعو فتيات لزيارته، ليشربن القهوة، يتذكر أنهن كن يشربنها ويمكثن طويلاً. ويطلبن أن ينفقن الليل كله معه. ويتذكر أيضاً أن من كن مرسلات له كن يرفضن شرب العصير أو القهوة. كنّ ربما يخفن … ].
والآن، في المنام يراها. [ وأحياناً يراهن واحدة واحدة ]. يراها تأتيه ليلاً، ويتذكر، حين يراها، يتذكر أجمل ما قالته العرب في موضوع الطيف، يتذكر بيتي قيس بن الخطيم:

أني سريت، وكنت غير سروب وتقرب الأحلام غير قريــب

ما تمنعي يقظــي ، فقد تؤتينه في النوم، غير مصرد محسوب

ولكنها، ليست مثل تلك التي جاءته في المنام فقط، ولكنها أتته أيضاً في النهار، وكما سَرَبَتْ سَرَتْ، كما جاءت نهاراً جاءت ليلاً، سوداء نحيفة.

وهو الآن غير الذي كان.
_ ثمة كهولة ما، وثمة شباب ولّى.
_ ثمة شعر أشيب يزداد تساقطه كل صباح، وثمة قلب ما عاد يخفق للأنثى، كما كان يخفق من قبلُ.
_ سَيُقِرُّ بأنه ليس سادياً. وسيردد عبارة واحدة:
الأشياء، كما أشتهيها، تأتي متأخرة.

الأشياء تأتي متأخرة. هذا كل ما في الأمر.

الجمعة 16/1/2004


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى