الأربعاء ١٤ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم عزالدين كطة

هانس فيرنز غيردتس: الفنان و أعماله

صدر مؤخرا عن منشورات كراس المتوحد بمدينة مراكش كتاب بعنوان: هانس فيرنر غيردتس:الفنان و أعماله" للناقد والمؤرخ التشكيلي الألماني سييجفريد غنيشويتز. و قد قام بترجمة الكتاب من اللغة الألمانية إلى اللغة الفرنسية الشاعر والمترجم السويسري برينو مرسييه. تناول الكاتب أعمال الفنان الألماني المراكشي هانس فيرنر غيردتس بذائقة فنية عالية وبحس نقدي فريد جعلا أعمال الفنان الرائد وحمولتها الدلالية والرمزية قريبة من فهم المتلقي.
وتجدر الاشارة إلى ان هانس فيرنر غيردتس هو مؤسس ورائد الفن الحشدي الذي انطلقت أضواءه من مراكش لتنتشر في كل العالم. وسرعان ما التفتت إليه صحافة باريس(جريدة لوموند الفرنسية ) واجتذب أقلام النقاد ليتناولوا أعماله وحياته المنطلقة من مراكش منذ استقراره بها عام .1963 بعد سلسلة من الرحلات أعقبت سنوات الحكم النازي بألمانيا قادته إلى اسبانيا واليابان والشرق الأوسط.

والفنان الآن يناهز الثمانين من عمره ولا زالت الريشة مقرونة بأنامله, وقد تغيا الكاتب تسليط الضوء على أعمال و مسارات حياة غيردتس وتقريبهما إلى المتلقي متوسلا في ذلك بتقنيات فنية عالية متتبعا لكل النماذج التي تسم مراحل متعددة من أعماله، كما استعان بالأعمال الأدبية.التي كتبها الفنان كروايته يحيى مراكش " وسيرته الذاتية يوميات متسكع.
والكتاب يتضمن نماذج من لوحات الفنان مرتبة ترتيبا منسجما مع مضمونه وسياقه، مما أضفى على دراسته صفة التكامل التي جمعت بين عملية الغوص في مكنونات الأعمال التشكيلية وسبر أغوارها الدلالية، واستفزاز النصوص السردية التي ألفها الفنان كنتاج يرى فيه الكاتب عنصرا مهما يضم بؤرا ساطعة فوق عروق المعاني المنفلتة.
يوضح مؤلف الكتاب أن الفترة التي هاجر فيها الفنان ألمانيا ليعيش في مختلف مناطق العالم قبل أن يستقر نهائيا بالمغرب كانت نقطة انطلاق نحو حياة جديدة بالنسبة له وخاصة بعد أن دق أوتاد خيمته المنهوكة برياح التنقل من مكان إلى آخر بعاصمة النخيل، إذ كانت المدينة الوحيدة من مدن العالم التي سيطر عشقها على قلبه فمنحته الاطمئنان والاستقرار بعد الاضطراب و النزوح, والدفء الفردوسي بعد صقيع المعاناة تحت غيوم الحكم النازي بألمانيا.
فقد كانت مراكش الأسطورة التي مارست سحرها الخفي على حياة الفنان وأعماله إذ تجلت في البداية على شكل لوحات بالأبيض والأسود مشكلة نسقا جماليا منسجما يتميز بعمق، يجعل المتلقي يشعر بانتعاش ذائقته البصرية، إنها لحظة الرعشة الفنية عند غيردتس، كما يصف الكاتب أحد أعمال الفنان أنها تحمل عددا من الرموز الدالة ومعالم ترسو في الأعماق لا يمكن أن تغيب عن أي عاشق للفن العصري الحضاري و هي سمة تميزت بها جميع أعمال غيردتس القديمة منها والجديدة...
فالكاتب يتتبع كل أعمال الفنان بحس نقدي نافذ وبذائقة بصرية خبيرة مكتشفا ما تحمله من جمالية وعمق دلالي وخاصة الأعمال التي أنتجها غيردتس في مرحلة تأثره بأستاذه " فيلي باومايستر " احد ممثلي الفن التجريدي المعروفين في مرحلة ما بعد الحربين في أوربا، إذ يعتبر غيردتس لحظة اكتشافه لإعمال هذا الفنان الشهير لحظة انطلاقه من الصفر. وفي هذا السياق درس الكاتب اللوحة الأولى التي رسمها الفنان الألماني غيردتس سنة 1949 مبرزا علامات تأثره بأستاذه باومايستر. إذ كان يسعى أثناء درس الفنون كي يجد التلميذ درجة الصفر لينطلق ويجد نقطة البداية التي يبدأ منها المسار الشخصي.يقول الكاتب: إنها لوحة تميل إلى التجريد مركبة بشكل ثابت، تحمل خطوطا تعبر الواجهة دون أن تخرق الحدود الفاصلة للصورة بحيث تظل البيئة العامة لفضاء اللوحة محتفظة بوزنها الجمالي وبسمتها التركيبية .

والكاتب يتعقب كل مراحل التحولات التي عرفتها أعمال الفنان غيردتس بكل تفاصيلها ودقائقها، فهو لا يمر على عمل فني يسم مرحلة ما من حياة الفنان دون أن يقف وقفة تمعن واكتشاف مبرزا ذخائره وكنوزه الجمالية, حتى عندما يركب الفنان مغامرة استثنائية بين ألوان أخرى غير الأبيض و الأسود اللذين يعتبرهما ’’تجسيدا للقوة كما يجسدها عمق الحشد " نرى الكاتب يجترح فضاءها بذائقته الفنية المعهودة .

ويبرز الكاتب في سياق حديثه عن الاتجاه الفني الذي أسسه غيردتس: " الفن الحشدي " أن ساحة جامع الفناء قد مارست مفعولها السحري على الفنان بحشودها الموزعة على شكل دوائر بشرية ، ماتفتأ تظهر في مكان حتى تتلاشى لتتشكل في مكان آخر، وهو ما لاحظه الفنان غيردتس حينما كان على سطح إحدى المقاهي المطلة على الساحة ، حيث كانت الحشود تبدو من الأعلى كأحرف بشرية " homochiffre" وكان يركز نظره على مجموعة كناوة مصيخا إلى النغمات المهيجة التي كانت تتدفق من الطبول فانساقت أنامله بقوة خفية كأنها مسكونة بأرواح حملتها موسيقى طبول كناوة لترسم تلك المشاهد المتموجة على الورق، "كان يرسم باهتياج ، وبطريقة متوازية ومماثلة لإرتجافاته التي كانت أسرع من دفقات موسيقى الطبول ( ص25) .

إن الكاتب الذي التفت إلى أعمال غيردتس مدججا بتقنيات نقدية متميزة، وغاص في مجاهلها كي يخرج دررها الجمالية إلى المتلقي، لم يكن حريصا على تتبع الفنان في أعماله مرحلة بعد مرحلة فحسب، بل كان يربط حمولة أعمال غيردتس بظروف إنتاجها، وتاريخها وخصائص كل مرحلة، ولو أن الفنان لا يولي كبير اهتمام للسياق التاريخي الذي أنتج فيه أعماله كما يقول:" فإذا ما سألنا الفنان كيف رسمت هذه اللوحة وفي أي ظرف كان يجيبنا بهزة كتف أو بتقديرات شاسعة".
فإذا كان الفنان لا يعير اهتما ما لهذا الجانب، فهو مهم بالنسبة للباحث في الفن ، لذلك نرى الكاتب يأخذ نماذج من أعمال الفنان ويضعها في سياقها التاريخي والبيئة التي تشكلت فيها ملامحها ، ليخرج بقراءة يانعة تنم عن خبرة واسعة في مجال النقد التشكيلي .

ولا غرو أن يعتبر أحد ابرز النقاد التشكيليين المعاصرين ومؤرخا مختصا في فن التشكيل أيضا,فقد وظف كل خبرته كمؤرخ وناقد تشكيلي ليتتبع مسار فنان كبير ومؤسس لاتجاه فني: " الفن الحشدي " .

وبالإضافة إلى ما بينه الكاتب من أعمال غيردتس التي تتسم بخصوصية المراحل ابتداء بمرحلة التأثر بالفن التجريدي مرورا ببوادر تأسيس الفن الحشدي الذي أصبح مكتمل القسمات في أعمال غيردتس وانتهاء باللوحات التي تحتوي على ألوان بخطوط هندسية متباينة، تناول الكاتب تجربة فريدة عبر عنها الفنان بتقنية الكولاج إلا أنها لم تخرج عن إطار الرؤية التي أسس لها غيردتس منذ تأثره بحميمية حشود ساحة جامع الفنا وعفويتها، وهو ما وضحه الكاتب من خلال نماذج للوحات تعود إلى فترة السبعينيات من القرن الماضي، أبدع فيها الفنان بطريقة الكولاج ويتعلق الأمر بصفحات جرائد الإعلانات، حيث جعلها الفنان بسحر فني خاص تبدل وجهها النمطي بوجه آخر أكثر جمالا وتعبيرا وأقوى دلالة، وهنا يبين الكاتب كيف أن الفنان استطاع أن يظهر بطريقة عجيبة أسطر الكتابة المطبوعة كإعلانات في صفحة جريدة لتتحول إلى صفوف متراصة من الأحرف البشرية، بعد أن قام بطيها ومغازلتها بالألوان وكذلك الأمر بالنسبة لأوراق فواتير الحسابات حيث يفرغها من محتوياتها ليضفي عليها محتوى جديدا مختلفا يخلق حوارا جديدا بين المتلقي والعمل ص( 41).
يتضح في أعمال غيردتس المستمرة نوع من التلاؤم النادر: فنجده يشكل بآلة السباتيل صورا مرسومة على خلفية رمادية خشنة، ويخلق بهذا أسلوبا يظهر فيه اندماج عناصر الرسم التجريدي مع فن الرسم التجسيمي. وقد استوحى هذه العناصر من لوحات رسوم لصخور جبال الأطلس العالية التي تعود لما قبل التاريخ، وأيضا من رؤيته للجماهير التي تجتمع حول الرواة والموسيقيين في ساحة جامع الفناء.

وتربط هذه العناصر الغالبة على فنه تاريخ البشرية القديم بالوقت الحاضر، مثلما يربط فنه بين عالميْن. وقد نجح هذا الربط لأن رسومات غيردتس متأثرة بالتقدير الجوهري للثقافة المغربية التي يعيش فيها، ومتأثرة أيضا بالأفكار التي واجهها في هذا العالم المغربي. كما أننا نجد في رسوماته التخطيطية - التي تعبر عن جمهرة الناس والتي تعتبر جوهر أعماله – صورة الإنسان الفردية بألوانها وملامحها الدقيقة وحركاتها المختلفة.

لقد نالت أعمال غيردتس تقديرا دائما بالتعاون مع كتّاب أمثال خوان غويتيسولو ورولف إطالياندر، حيث تعرض أعماله في المتاحف الهامة في العالم. ومما يعد أكثر تقديرا أن هيئة اليونيسكو غيرت عام 2001 لوائحها بالقصد حتى تجعل ميدان جامع الفناء - الذي أصبح مركزا لحياته - أول تراث ثقافي عالمي معنوي.
لقد افلح الكاتب في تقريب أعمال الفنان من المتلقي ، برجة عالية من الخبرة والاحترافية ، إذ يمكن المتلقي من فهم أبعادها ولو لم تكن لديه خبرة كافية لفك رموز الألوان ، وهو بذلك يشكل أحد أهم الأعمال الدارسة للفن التشكيلي عموما وأعمال الفنان الكبير الذي يعيش بين ظهرانينا " هانس غيردتس على الخصوص ".

ونختم هذه المقالة بكلمة لخوان غويتيسولو في حق الفنان:

"يقيم هانس فيرنر غيردتس في مراكش منذ أربعين عاما، و ثمة تعلم و كسب خبرة البصاص و كذا النظرة الثاقبة للأشياء و الموهبة الكبيرة؛ أقصد تحديدا تلك الضرورات التي لا مناص منها لاقتناص و فهم تنقل الحلقات و كذا الحركات و الأصوات العابرة، وتعقب الدائرة المتنقلة للحلقة بحيوية ونشاط. وقد جعل منه ذلك بحق رسام جامع الفناء بامتياز. و من ثم يمكننا أن نقارن جمال عمله التشكيلي، و بعد نظره بعمل إلياس كانيتي و كتاب آخرين كبار وجدوا
في كتاب الساحة المفتوح إلهاما لهم، و وشمتهم الساحة، كذلك، بحيويتها المعدية."


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى