الثلاثاء ٢٧ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم عمر يوسف سليمان

تغيير الواقع: تحطيم العامِّ وتمزيق السائد

قد لا يبدو الأمرُ جلياً أو واضح المعالم، أن تثورَ على الواقع، تخربه، تهز أركانه، وتريد من ذلك أن تعدله وتصحح مساره.

فعندما يدخل المجتمع في حالةٍ من الرتابة، وينتشر فيهِ الجمودُ، وتتراكم فوقَ نفوس أفرادِهِ طبقاتٌ غيرُ نهائيةٍ من الخوفِ والتخلفِ وإدمانِ الجهلِ والقمع، وعندما تتسم الأمة بالشحوبِ والهذيان، فليس المطلوبُ عندها أن يقومَ المُصلحُ بإبداء النصيحة، ونشرِ الكلماتِ الرنانةِ والخطبِ المطولة، أو أن يرسمَ لأبناء أمته لوحاتٍ من الأحلامِ البديعةِ توقظُ عندهم الشعور الرومنسيَّ والطوباوي، ليبتعدوا قليلاً عن واقعهم وينسوا همومهم ومشكلاتهم السائدة، فيكون بمثابةِ المخدر لأبناء أمته، كما ليسَ المطلوب أن ينقد هذا الواقع، أو يقفَ بوجهِ أي عاصفةٍ تهدده، بل عليه تهييجُ هذه العاصفة، وإذكاء أي نارٍ من شأنها إتلافِ الواقع والعام، بغيةَ إعادةِ البناءِ من جديد.

وإذا مانظرنا في رحلةِ التاريخِ الطويلةِ وجدنا أن السلامَ لم يحلَّ إلا بعد كثيرٍ من الحربِ والدماء وأنَّ النورَ لم يبزغْ يوماً إلا بعدَ فصولٍ من الظلامِ والألم، وأن الهدوءَ لم يعمَّر إلا على أنقاضِ الصراخِ والبكاء، وكأن الأرض تطهر جسدها بالدماء كي تستقبل الصفاء والجمال من جديد.

نعم، لم ينجُ بنو إسرائيلَ من فرعونَ إلا بعد أن ذبح أولادهم واستحيت نساؤهم، ولم يحلَّ السلام في الأرضِ ولم تستوِ على الجودي إلا بعدَ أن فاضتْ بالطوفانِ وأقلعتِ السماء بالماء.

فإذا تكفَّنَ كلُّ شيءٍ بالسواد، وسادَ الضياع، وسبتَ الجميعُ على زندِ الألم، واعتادوا الخوف، وأدمنوا الجهلَ والظلم، عشش الجمودُ والرتابةُ في كلِّ شيء، وحالت حركة المجتمعِ إلى مايشبهُ الهذيان، وانهارَ كلُّ شيءٍ إلى حضيض التخبط وانعدامِ الوعيِ والثقافة، وبعد كلِّ هذا، لم يشأ المجتمع تغيير نفسه، ونظر إلى وضعهِ الحالي كأفضلِ مايكون، وغابت عنه الصورة الصحيحة، صورةُ المجتمع الصحيح، وصورةُ الإنسانِ الحي، فهذا يعني أنَّ حالةً من الموتِ قد انتابت هذا المجتمع، وأن صفحةً سوداء قاتمةً سيملؤها في مسيرة تاريخِ أمته.

نعم، إن المجتمع عندها يعيشُ بحالةٍ من الاستقرار، بل إن استقراراً واسعاً يخيِّم عليه، ولكنه استقرارٌ مميت، استقرارٌ كاذب، إذ أنه يبقى ظاهرياً، في حين أن الفردَ يعيشُ بحالةٍ مزرية من التخبط والخوفِ وانعدام الأمن الداخلي، بعد أن فقد كلَّ قشةٍ من النور يتعلق بها في بحر الظلام الواسع الذي يعيشُ فيهِ هذا.

فهنا لا يحتاجُ المجتمع إلى استقرار, بل إلى هزةٍ عنيفةٍ تهدم كل ما فيه، ليُعادَ بناؤه مجدداً بالشكل الصحيح.

وغالباً ما تحدث هذه الهزة على يدي شخصيةٍ عبقريةٍ تدرس وضعَ مجتمعها جيداً وتعلم كيف تنبهه، وذلك بعد أن يكونَ ذلك المجتمعُ كالذي أثقل في الشراب، وأتبعه ببضع حبوبٍ مخدرة، فلا بُدَّ من ماسٍ كهربائيٍ يدفعه إلى الصحوِ من جديد.

ولدينا العديدُ من الشخصياتِ الفذة عبر التاريخِ عاشت في حالةٍ مشابهةٍ لهذه الحالة-حالةِ المجتمع- فعملت على تفجير الواقع، وتمزيق السباتِ الذي ينتابُ الأمم، وذلك بإحداثِ دويٍّ ينبه النائمين ويغير مجرى التيار.

ففلسفة جبران خليل جبران المعروفة، والتي أراد منها إيقاظ العالمِ العربي، وتنبيهه، لم تكن ببث الحكم الجامدة، أو بالبكاء والحزنِ وتصوير الواقع كما هو، وإنما كانت سياسة قوةٍ وهدم، والتي تدعو إلى الثورةِ في سبيل التغيير، وإلى الهدم في سبيل البناء، لأنه(يميلُ إلى الهدمِ ميلهُ إلى البناء، فهو صديقُ الناس وعدوهم في وقتٍ واحد) [1]

وقد بدت هذه الفلسفةُ جليةً واضحةً في كتبه التي تأثر فيها بنيتشه فنجدها في (الأرواح المتمردة)، و(العواصف)، لاسيما في (حفار القبور).

ويذكر لنا الكاتب جون ريتشارد جونيور في كتابه (تاريخ الحزب الشيوعي الروسي)، عن لينين أنه كان حاضراً في إحدى الحفلاتِ الموسيقية الخاصة التي أحياها أحد مديري الأوبرا الإمبراطورية في ذلك الوقت، أن لينين امتدح جمال العمل الرائع الذي سمعه، إلا أنه لم يلبث أن بدَّل موقفه وقال إنه لا يستطيع أن ينصتَ إلى الموسيقى كثيراً، لأنها تؤثر على أعصابه وتجعل المرء ينطقُ بكلامٍ سخيفٍ عذب، ويربت على رؤوس الناسِ الذينَ يستطيعونَ رغم أنهم يعيشونَ في جحيمٍ قذرٍ أن يخلقوا مثل هذا الجمال، وأردف جونيور بقول لينين في هذا الصدد:

(من الضروري ضربُ الناسِ على رؤوسهم، وضربهم بلا شفقة، بالرغمِ من أنَّ مبادئنا تعارضُ كل أعمالِ الإكراه). [2]

وإنني لا أذكر قولَ لينينَ أو تصرفه بسبب تأييدي لكلِّ ما جاءَ فيه، ولكن كي أبين للقارئ العزيز مدى أهمية أن يعايشَ المرء الواقع ويثورَ عليهِ ويهدمه بدلاً من أن يتهرب منه ويرسمَ لنفسه وللناسِ الأحلام العذبة التي لا طائل من ورائها.

كما نجدُ في التاريخِ العديدَ من النماذج الفذَّةِ الذكية التي اتبعت هذا الأسلوبَ لتغيير الواقع بطريقةٍ مدهشة استُخدمت بشكلٍ غيرِ مباشر، وغير واضح المعالم، ودون أن يظهر المقصودُ منه، إذ تبدو بظاهرها واقعةً شاذةً، وطريقةً مشبوهةً يريد صاحبها إثباتَ وجوده على حسابِ الحقيقة، وأقدِّمُ هنا مثلاً مُستمَداً من بداياتِ القرن الماضي، وهو الأديب المصري الدكتور طه حسين، الذي تمحصَ بعنايةِ ودقة الواقع الأدبي الذي يعيشُه أبناء أمته في تلك الفترة، وأدرك غايةَ الإدراكِ طبيعةَ الجمودِ والرتابةِ اللذَينِ يسودانِ فيه، فكان كتابه في تاريخ الأدبِ الجاهلي، الذي أنكر فيه- كما هو معروفٌ – معظم الشعر الجاهلي، بالإضافة إلى العديد من الأفكارِ الجديدة والخطيرة التي طرحها في كتابه، وبالتالي فقد غير معالم الأدب العربي، مما فجر ضجةً هائلةً في الأوساط الأدبية المصرية والعربية آنذاك، ودفع الأدباءَ والنقادَ إلى عودة البحث بدقةٍ وتفصيلٍ في تاريخِ الأدب العربي، ومما يُذكر أن نحواً من أربعينَ أديباً تصدى لفكرة طه حسين من خلال الكتب والمقالات التي نُشرت آنذاك!!

وهكذا حدثت النهضة الأدبية المصرية في بداية القرن العشرين، والتي كان كتاب طه حسين – برأيي-من أهم أسباب حدوثها، وبالتالي كانَ حدوثُ اليقظة الفكرية والتنوير العقلي، وازدياد نسبة الوعي الثقافي، فغير ذلك معالمَ العصر كله، ذلك العصر الذي وُلد فيه نجيب محفوظ والذي يقولُ عنه:"أحمد الله أني ولدت في عصر النور وأموت في عصر الظلمة".

وبغض النظر عن طرح الدكتور طه حسين وتعقيداته، والذي استغرق في كتابه عدة مجلدات، فإنه أحدث نهضةً غيرت معالمَ العصر كله، ومع ذلك لم تغير من الحقيقة شيئاً!!، وهنا لا أرى طه حسين إلا مدركاً تماماً للنتائج وردات الفعل التي ستحصل نتيجة طرحه، بل أرى هذه النتائجَ -التي تبدو وكأنها ثانوية- أراها مقصودةً بذاته من كتبه، وأجد دليلاً في ذلك أن طه حسين عاد وغير رأيه بعد سنواتٍ من طرحه لفكرته حول الأدب الجاهلي. . .

ومن الأمثلةِ الواضحةِ في عصرنا حول هذا الموضوعِ ما قامَ به الشاعر والمفكر أدونيس من تقديمِ أفكاره حول الحداثة، والتي أنكر فيها الكثير من التراثِ الأدبي العربي، ودعا إلى التأثر بالآداب الغربية، في حين أنه انطلق أصلاً من التراث العربي في شعره وفكره، فقصائده ملتزمةٌ بالقواعدِ النحوية وأحياناً العروضية، وإن أفكارَه هذهِ قادت إلى إحداثِ بلبلةٍ كبيرة حولَ شخصيةِ هذا الشاعر ومدى صحة ما قدمه، فقد نبه الكثيرين إلى ضرورة تحديد موقفهم مما قدمه، فانقسم الناس إلى مؤيدٍ ومعارضٍ لما جاء به، وانعكس ذلك إيجاباً على زيادةِ البحثِ والتمحيصِ في الأدب العربي كما أسلفتُ في مثالي عن طه حسين.

ولم يُعرف شاعرٌ عربيٌ أثار البلبلة حوله مثلَ أدونيس، وسواءٌ أقصد شخصياً تغيير الواقع وخلخلةَ العام أم لم يقصد، فقد فعلها، ولابُدَّ أن نعترفَ بفضلهِ على الساحة الأدبية العربية، من ناحية الإغناء الفكري والثقافي، وزيادة النشاط النقدي.

ويتحدث أدونيس نفسه عن هذا الموضوع بكلماتٍ رائعة، تنم عن عبقريته وعمق فكره، وتستحق التفكر والتأمل، وذلك في قوله:

(أجملُ ماتكون: أن تخلخل المدى، والآخرون... بعضهم يظنك النداء... بعضهم يظنك الصدى...).

وإنَّ من اللافتِ أن لا نرى هذه الطريقة التي يتغير الواقعُ الرتيب المظلم من خلالها، لا نراها موجودةً على صعيد الشعوب في حركة التاريخِ وحسب، بل أيضاً نجدها في التعاليمِ الدينية لمختلف الأديان، فنحن نصوم – مثلاً- كي نهيئ أنفسنا للعبورِ إلى طريقٍ أسمى من النقاء، وبالتالي إلى السعادة، والتصوفُ الهندي المتجسد في العديد من الأديانِ التي نشأت هناك، يحمل كثيراً من هذه المعاني الرائعة، وليست اليوغا والتأمل الطويل والإقلاع عن ملذات النفس وحرمانها من الكثير مما تحبه، إلا سبيلاً لتطهيرها وتهذيبها كي تُهيَّأ لاستقبال النور الأعظم...

إذاً لابُد، لتغييرِ الواقع وتبديلِهِ، من إحداثِ الضجةِ فيه، أياً كانت هذه الضجة، ولا بُد من هدمه، ومن إثارة ِالصخبِ للوصولِ إلى السلامِ والهدوء المطلَقَين، وإننا في أمس الحاجة إلى ذلك، في أمس الحاجةِ إلى قليلٍ من النور في هذا العالمِ المظلم القاتمِ الذي نعيشه، والذي يسيرُ بطريقٍ مجهولةً لا نعلمُ أين ستنتهي، طريقٍ ملؤها الضياعُ والعذابُ والألم.

نعم من الممكن أن تضيءَ الأرضُ وأن تزدهي بنورها، ولكن بعد كثيرٍ من الظلمةِ والدماء والدموع، ومن الممكن أن تُبنى صروحُ المجدِ في أي مجتمعٍ جامد، ولكن بعد الكثير الكثير من الهدمِ الذي سيحطم الواقعَ الواقعْ... ويمزِّقُ قتامةَ الأرضِ وسوادَ الإنسانية.


[1تاريخ الأدب العربي لحَنا الفاخوري.

[2(تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي) للكاتب جون ريتشارد جونيور، ترجمة فوزي قبلاوي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى