الأربعاء ٧ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم محمد السموري

مثنوية اليمين واليسار في التراث العربي

ودلالاتها الصامتة

تعتبر مثنوية اليمين واليسار من الإشكاليات الكونية حيث يسود مفهومها أرجاء الفضاء التراثي ثقافة وسياسة واجتماعاً وقد أوليت اهتماماً خاصاً ، وحظيت بمكانة هامة في علم الاجتماع السياسي لما أفرزته من أثر في تكوين وبلورة خطاب عرفه وأدلجه علم الاجتماع السياسي وأحدث حوله جدل استقطب اهتمام العامة ناهيك عن الدراسات والبحوث المتخصصة ، واهتمامنا بدراسة هذه الثنائية يأتي إثر الانعتاق من نير سلطانها الذي امتد ردحاً من الزمن حيث عصفت بشقه السياسي ( نسبياً ) المتغيرات المفاهيمية التي شهدها العالم منذ بداية العقد الأخير من القرن العشرين وألبسها ثوب الماضوية أو لربما وضعها في خزانة التراث .

المرجعية الدينية للمفهوم

ورد مفهوم مثنوية اليمين واليسار في القرآن الكريم بصيغة تفضيل واضح لليمين على اليسار حيث رمز مفهوم اليمين للمؤمنين كقوله تعالى : " إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون " المدثر 39-40 ، عن أهل النار وحالهم وقوله تعالى : " وأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه " الحاقة (19) خطاباً للمؤمنين لما أسر به " وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه " الحاقة (25) وقوله تعالى " وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين " الواقعة (90-91) ، أي له السلامة من العذاب ، ويأتي ذكر البيان الإلهي ( وما تلك بيمينك يا موسى " طه (17) ، والاستفهام للتقرير ليرتب عليه المعجزة فيها ، وقوله تعالى " وناديناه من جانب الطور الأيمن وقريناه نجينا " مريم (25) ، بقول يا موسى إني أنا الله ، عندما كلمه ربه وكان جبل الطور على يمين موسى حين أقبل على مدين
ونذكر أيضاً قوله تعالى : " لأخذنا منه باليمين " الحاقة (45) ، أي لنلنا منه عقاباً ( باليمين ) بالقوة والقدرة وقطعنا شرايين قلبه وهو تهديد للنبي لو تقول على الله ما لم يقله ( حاشى ) وورد التفضيل في الأديان الأخرى لا مجال لذكره كي لا يطول بنا المقال .

2- في السيرة النبوية الشريفة :

تنسجم عادات وطبائع وسلوكية رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مضامين البيان الإلهي ، تجسد هذا الانسجام في تفضيل اليمين على اليسار بكثير من مظاهر حياته ، فإذا أراد لبس ثوب جديد بدأ لبسه بيمينه ، ويجعل يمينه لأكله وشربه ولأفضلية البدء في الوضوء وأثناء التشهد في الصلاة وحين الأخذ والعطاء ، وجعل شماله لما سوى ذلك ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخلد للنوم يضع يده اليمنى تحت خده ويقول :(اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت ) وكان يختتم في يمينه ثم حوله إلى يساره ، وإذا ما أضفنا عملية دخول المسجد باليمنى والخروج منه باليسرى وعكسها دخول بيت الخلاء لوجدنا لليمين فضلاً على اليسار في السيرة النبوية الشريفة .

3- في العادات والتقاليد الاجتماعية :

آثرنا البدء بدراسة العامل الديني ليتاح لنا وضع تسويغ منطقي وموضوعي لأسباب تفضيل اليمين على اليسار في أعمالنا وعاداتنا وتقاليدنا الاجتماعية وتراثنا الشعبي لنصل إلى حقيقة المجتمع وانطباعه السلوكي والأخلاقي بالقيم الدينية ، فقد استعمل المفهوم استعمالاً قداسياً لكن دون تعليل ففي مراسيم تقديم ضيافة القهوة المرة وطقوسها يتم تناول الفنجان باليمنى دون اليسرى ، فمن استقبلها باليسرى فقد وجه إهانة لصاحبها فعلى مقدمها أن يتجاوزه دلالة عل أن هذا ليس من شاربها ولا يحترم التقاليد . والبداية في ضيافة القهوة من اليمين إلى اليسار ولها مثل شعبي يقول : ( ابدأ بيمينك ولو كان أبو زيد على يسارك ) أيضاً في الشعر النبطي ( ابدي وصبها للذي تدفق السمن يمناه وثني وصبها للي تخاف الرجال ملقاه ) يقصد بأفضلية الكريم على الشجاع

ومن التقاليد طنين الأذن اليسرى دلالة على أن أحداً ما يخوض بسيرتك بسوء ، أما طنين الأذن اليمنى فدلالة على أن السيرة حسنة ، وأما حكة اليمنى فهو بشرى لقبض المال أو مصافحة غائب ، وحكة اليسرى إنذار لخسارته ومنها ضروب كثيرة كرفيف جفن العين اليمنى لرؤية الغائب ورفيف اليسرى لفراق عزيز تدمع لفراقه العين ، وكثيراً ما يتطير العامة من الناس باليسرى ، أما حك الرجل اليمنى فللذهاب إلى فرح ، وحك اليسرى فللسير وراء جنازة ، ولهذا جرى التقليد أن يلامس الشبان أرجلهم اليمنى برجل العريس في صباحيته للتفاؤل بقرب زواجهم ، ونذكر من ضروب هذه المثنوية الميمنة والميسرة في الحرب وجناح اليمين واليسار ببعض الألعاب الرياضية الجماعية واستخدام هذا المفهوم في نظام السير .

4- الأعسر والعسروية

لقد فطرنا على تأدية أعمالنا اليدوية كالكتابة والمصافحة وتناول الطعام باليد اليمنى ، ومن أدى تلك الأعمال أو بعضها باليسرى فيسمى أعسراً ولأن العسروية حالة نادرة فهي تثير الاهتمام والملاحظة ، فهي من الناحية الفيزيولوجية تعود – كما اعتقد – للتدريب والممارسة ولا صحة للأسطورة التي تعول ذلك إلى انزياح كتلة الدماغ في رأس الإنسان إلى الجهة اليسرى ، كما لا يتعلق الأمر بأي عامل وراثي ، فالجينات لا تحدد اليد التي تكتب فيها ، فأنت الذي تقرر ذلك وتفيد الدراسات التربوية أن الطفل يتعلم هذه العادة في بواكيره الأولى ، كما لا تعتبر العسروية نقصاً في التركيب أو عيباً ، بل إن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أعسراً ، ومن مشاهير العسرويين الرئيس الأمريكي بيل كلينتون والفنان مايكل أنجلو صاحب اللوحات الشهيرة والرياضي جو فرايزر بطل العالم للملاكمة في وزن الريشة 1971-1972 والبطل السابق للملاكمة نسيم حميد .
والسؤال المطروح دائماً : هل يستطيع الإنسان أن يغير عسرويته ؟ إن لم نجب على هذا السؤال نقول : ما حاجته إلى تغيير عسرويته أساساً وهو يعلم أنه لا عيب في ذلك ؟

5- في الاجتماع والسياسة :

كما بدأنا نقرر أن علم الاجتماع السياسي أفرز من هذه المثنوية قضية ليجعل منها إشكالية سياسية وفكرية ، حيث جعل اليمين يمثل البرجوازية وأيديولوجيتها ( الروحية ) وجعل اليسار يمثل العمال والفلاحين وأيديولوجيتهم الراديكالية ( المادية ) ولقد لعبت الأحزاب الإصلاحية دورها في التلاعب بشعارات اليمين واليسار. فأحزاب اليمين اتهمت بطرح الأوهام الغيبية والظلامية وإنها تقف ضد حركة التطور وتريد إرجاع عجلة التاريخ إلى الوراء وتستغل الدين لتحقيق مآرب أجلها الوصول إلى السلطة بإثارة النزاعات المسلحة ، أما أحزاب اليسار فتراهن على النضال الطبقي من أجل تحقيق مكاسب للجماهير الكادحة ، ويدعو فكرها المادي إلى الحتمية والطبيعة ، فاتهمت بالكفر والإلحاد ، أما في الوطن العربي فنشأت ضروب من هذه الأحزاب والمهاترات متزامنة مع نشوء الحركة القومية التي هي أيضاً لم تفلت من هذا التناحر ، فنشأ في داخلها ما عرف باليمين المشبوه واليسار الطفولي ، وهما تياران ما انفكا يتقاذفان الاتهام بالتآمر على القضية القومية للأمة العربية كما ظهر إبان ذلك مفهوم اللاانحياز كصيغة موضوعية نتيجة ظهور معسكرين واضحين متناقضين كنتاج عن الحرب العالمية الثانية متمثلين بالاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية ، فنشأ بينهما ما عرف بالحرب الباردة التي انتهت بانتصار اليمين مما أتاح فرصة انتشار حركات سياسية تنتمي إلى هذا المعسكر يطلق عليها في الوطن العربي تيارات الإسلام السياسي ظلماً وعدواناً على الإسلام الحنيف بقصد تشويه سمعة الله تعالى في الأرض ، وإلا فما حاجة الإسلام إلى حركات سياسية تدعي أنها تمثله؟

6- في الشعر العربي :

تغنى الشعراء باليمنى فجعلوا منها مركزاً للحب متناسين وجود القلب أساساً في الجهة اليسرى من جسم الإنسان وقد ورد في تراثنا أن عنان جارية الناطفي ضربها مولاها فبكت في حضرة أحد الشعراء فقال متغزلاً :

بكت عنان فجرى دمعها

كلؤلؤ ينسل من خيطه

فردت عنان داعية على مولاها :

كذاك من يضربها ظالماً

تجف يمناه على سوطه

وقال محمد القاسم المصري يصف المحب :

مكتئب ذو كبد حرى

تبكي عليه مقلة عبرى

يرفع يمناه إلى ربه يدعو

وفوق الكبد يضع اليسرى

وخاطب أعرابي فتاة متبيناً موقعه في قلبها قائلاً :

أبيني أفي يمين يدك جعلتني

فأفرح أم صيرتني في شمالك

فإن كنت في اليمنى فيا ليت عيشتي

وإن كنت في اليسرى فضل ضلالك

لقد ولعت نفوس الشعراء محاذرة وقوع الفراق فهو سهم قاتل بالنسبة لهم وتلك حال لا يتهيأ معها وصال . يقول الحسين بن الضحاك :

أباحني قربه ووسدني

يمنى يديه وبات ملتزمي

ويقول آخر :

ولا مبصراً بالأجزع الفرد نارها

ولا ثانياً يمنى يديها وساديا

ويصف نافع بن نفيع الفقعسي الأسدي ( بن لقيط ) فتاته بالقول :

ولقد توسدني الفتاة يمينها

وشمالها البهنانة الرعبوب

فهي طيبة نفس ، سمحة ومتهللة ، وهي بيضاء طويلة يخالها كذلك . ثم يردف قائلاً :

كأن لم تكن منها الفراض محلة

ولم يمس يوماً ملكها بيميني

ويتضح طهر النفس والعفة ( لم يمس يوماً ملكها بيميني ) .

أما التعبير الثاني عن اليمنى فيتوافق تماماً مع ما خلصنا إليه في فصل قراءة المفهوم بوروداته الدينية ( لأخذنا منه باليمين ) الحاقة 45 ، رمز القوة والقدرة فقد ، ورد في كتاب الزهرة للأصفهاني رواية عن الأصمعي أنه قال :
دخلت فإذا بإمرأة تنوح على قبر وهي مسفرة ، فلما رأتني غطت وجهها ثم كشفته وقالت تخاطب من في القبر وكان زوجها :

لا صنت وجهاً كنت صائنه

يوماً ووجهك في الثرى يبلى

يا عصمتي في النائبات ويا

ر كني القوي ويا يدي اليمنى

وفي حماسة أبي تمام الشهيرة نقرأ :

ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني

يمينك فانظر أي كفيك تبذل

وقال سعد بن ناشب :

ويصغر في عيني تلادي إذا ما انثنت

يميني بإدراك الذي كنت طالبا

وقال جعفر بن علبة الحارثي :

بإيماننا بيض جلتها الصياقل

إذا ما ابتذرنا مآزقاً فرجت لنا

أما شاغل الناس ومالئ الدنيا أبو الطيب المتنبي فقد وصف سلطان سيف الدولة بقوله :

بسط الرعب في اليمين يمينا

فتولوا وفي الشمال شمالا

ويقول ابن الدمينة ولعله يريد التوفيق بين الاتجاهين :

بكت عيني اليسرى فلما زجرتها

عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا

وبعد :

إذا كانت دراسة مثنوية اليمين واليسار تفرض على القارئ والكاتب معاً حيرة تضعه في مفترق طرق بينهما فلا هو يجلس على يمين الاسكندر المكدوني حيث يجلس الذوات ولا على يساره مكان الفئات الهامشية . فإن الموقف يفترض ، وليس هروباً – أن نقرأ المثنوية من قبيل التوثيق التراثي فاكتفينا بوروداتها التراثية ورموزها وذلك عبر محاكاة التراث من جوانبه المتنوعة – الأدب – الثيولوجيا (علم العقائد ) والميثولوجيا ( الأساطير ) وغيرها كالتقاليد والأعراف من منظوم ومتواتر ضمن نطاق المعرفة الكلية الشاملة باعتبار هذه المثنوية تشكل نسقاً حضارياً متواجداً تاريخياً يفرض ضرورته بأرضيته المعرفية الصرفة ولا سيما أن توثيق التراث الشعبي بات يستجدي مستغيثاً من أخطار النسيان أو التناسي ، وبالتالي التراجع لصالح منظومة قيم العولمة الغازية.

المرجع : ثقافة الصمت محمد السموري دار المعارف حمص سوريا 2003صفحة 34وما بعدها

ودلالاتها الصامتة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى