الاثنين ٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

التصورات المسرحية وتقنيات الإخراج

تمهيــــد:

لا يمكن لأي كاتب مسرحي أو مخرج درامي اليوم في عالمنا العربي تمثل المسرح الغربي والاستفادة من تقنياته إلا باستيعاب أهم التصورات المسرحية لدى رجال المسرح الغربيين وقراءة ذاكرتهم المسرحية والاطلاع على أهم التقنيات الغربية في تحقيق العرض الدرامي من أجل الاستفادة منها وتوظيفها في أعماله الدرامية وعروضه السينوغرافية.

إذاً، ما هي أهم التصورات المسرحية التي اعتمد عليها المسرح الغربي؟ وما هي أهم التقنيات الإخراجية التي شغّلها المسرح الغربي تنظيرا وتطبيقا؟

1- تاريخ الإخراج المسرحي:

إذا كان أرسطو أول من نظر للخطاب المسرحي في كتابه "فن الشعر" اعتمادا على أعمال سوفكلوس وأسخيلوس ويوربيديس وأرستوفانوس، وإذا كان أسخيلوس أول من كتب نصا دراميا وهو"الضارعات"، فإن الإخراج المسرحي لم يظهر إلا في منتصف القرن التاسع عشر مع الألماني ساكس مننجن في 1874م، وإن كانت كلمة الإخراج قد استعملت سنة 1820م
 [1]. وقبل ذلك، كان المؤلف هو الذي يمارس الإخراج بواسطة الإرشادات المسرحية وما يكتبه من تعليمات وتوجيهات وإشارات وتفسيرات تسعف الممثلين على تمثل المسرحية.

وبعد تراجع مكانة المؤلف وسلطته النصية، أصبحت الأهمية تعطى للممثل النجم الذي يشكل محور المسرح ولاسيما مع الرومانسية التي مجدت الفرد وإبداعه الذاتي والشخصي. ولكن بعد ذلك، ستتضاءل مكانة الممثل النجم ليحل محله مخرج العرض الذي أصبح يتحكم في النص والممثل والعرض المسرحي على حد سواء قصد تقديم فرجة مسرحية تجذب الجمهور وتشركه في الفعل الدرامي.

ومن المعلوم أن المخرج هو الذي يخرج النص من حالته المجردة الكتابية إلى حالة المعايشة والتجسيد الحركي الملموس. ومن ثم، يمكن الحديث عن ثلاثة أنماط من المخرجين حسب الدكتور محمد الكغاط: المخرج المفسر (المخرج الحرفي)، والمخرج – المرآة (المخرج الذي يحافظ على روح النص)، والمخرج المبدع (المخرج الذي يغير النص ويعيد بناءه من جديد). [2]

هذا، وقد مر المسرح بثلاث مراحل كبرى في تاريخ الإنسانية وهي: مرحلة التمثيل ومرحلة الظواهر المسرحية ومرحلة المسرح. كما مر المسرح كذلك بثلاث مراحل أيضا، وهي: مرحلة المؤلف (النص) ومرحلة الممثل ومرحلة المخرج.

2- أرسطو ARISTOTLE ونظرية التطهير:

يعد أرسطو أول من نظر لفن المسرح في كتابه "فن الشعر" خاصة تجنيسه لفن المأساة حينما عرفها بقوله: "إن المأساة محاكاة فعل تام له مدى معلوم؛ لأن الشيء يمكن أن يكون تاما دون أن يكون له مدى. والتام هو ما له بداية ووسط ونهاية....ولوضع قاعدة عامة في هذا نقول: إن الطول الكافي هو الذي يسمح لسلسلة من الأحداث التي تتوالى وفقا للاحتمال والضرورة وأن تنتقل بالبطل من الشقاوة إلى النعيم، أو من النعيم إلى الشقاوة.

أما الشخصيات فأمرها يتناول أربع مسائل: الأولى أن تكون فاضلة (...) والمسألة الثانية هي التوافق.... وثالثتها التشابه... ورابعتها الثبات...

في كل مأساة جزء يسمى العقدة وجزء آخر هو الحل، والوقائع الخارجية عن المأساة وكذلك بعض الأحداث الداخلية فيها تكون غالبا العقدة، أما الحل فيشمل ماعدا ذلك. وأعني بالعقدة ذلك القسم من المأساة الذي يبدأ ببدايتها ويستمر حتى الجزء الأخير الذي يصدر التحول إما إلى السعادة وإما إلى الشقاوة، وأعني بالحل ذلك القسم من المأساة المبتدئ ببداية هذا التحول حتى النهاية". [3]

أما كتاب الكوميديا لأرسطو فقد ضاع ولم يصل إلينا حسب الباحثين المتتبعين لإنتاج أرسطو.

ومن أهم أسس التنظير الأرسطي تقسيم المسرحية إلى أجزاء أساسية: البداية والوسط والحل، وتقديم صورة تركيبية للمسرح مع تقسيمها إلى مشاهد وفصول. كما أثبت أرسطو أن أي عمل مسرحي لابد أن يرتكز على ثلاث مبادئ كبرى هي: وحدة الحدث ووحدة المكان ووحدة الزمان، كما قدم نظرية للأنواع المسرحية وأنماطها الصغرى حينما ميز بين التراجيديا والكوميديا وفصل بين الهزل والجد.

و من أهم نظرياته المسرحية نظرية التطهير النفسي، ومفاد هذه النظرية أن التراجيديا تقوم على تطهير النفس البشرية عبر إثارة الخوف والشفقة في نفوس الجمهور [4]. ويعني هذا أن المأساة تساهم في مداواة نفوس المشاهدين وتطهيرهم من كل النوازع الشريرة المكبوتة عن طريق زرع الخوف والشفقة قصد تطهير الجمهور من قيم الشر والدناءة قصد الرقي به إلى مصاف الأخيار. ومن هنا نعتبر التراجيديا وسيلة لعلاج الإنسان لاشعوريا من كل الانفعالات العدائية والغرائز المكبوتة وتحريرها من الشر والتناتوس وتوجيهها نحو الخير وخدمة الصالح العام.

3- ساكس ميننجن Sax Mienengin والدقة التاريخية:

يعد ساكس ميننجن أول مخرج في تاريخ المسرح العالمي وهو من ألمانيا اسمه جورج الثاني دوق مقاطعة ساكس ميننجن اقترن به الإخراج المسرحي منذ1874م. وقد ثار هذا المخرج على زيف المسرح وأشكاله السطحية، وتمسك بالأصالة التاريخية وخاصة في مجال السنوغرافيا وتصميم المناظر والأزياء. كما ثار على الزخرف المسرحي الباروكي واعتمد على الدقة في معايشة الأحداث والواقعية التاريخية في تقديم عروضه الدرامية.

وتهدف نظرية ساكس ميننجن في اعتماد الدقة التاريخية والجمع بين الأصالة والمعاصرة في تقديم نظرية التصميم في المناظر والأزياء، ولاسيما أن المخرج كان من الموهوبين في فن التشكيل والتجسيد البصري دون أن يخل ذلك بمعنى العمل المسرحي المنجز. ويعني هذا أن المخرج كان يربط جدليا بين الماضي والحاضر ضمن سينوغرافيا تاريخية دقيقة وأصيلة وموضوعية وواقعية بعيدا عن الزيف التاريخي والمبالغة في الزخرفة الباروكية التي طغت على مسرح العصور الوسطى ومسرح الكنيسة المنتشر كثيرا في إيطاليا.

وتتجلى هذه الأصالة في إخراجه لمسرحية "يوليوس قيصر" لوليام شكسبير. وقد أعد المخرج في هذه المسرحية "العدة لتقصي كافة تفاصيل الديكور والملابس الخاصة بالمسرحية. فها هو ذا يحاكي ضخامة المعمار الروماني عند تصميم أعمدة القصور والأبهاء الرومانية القديمة ويبعث إلى روما برسول يأتيه بوزن وعباءة يوليوس قيصر، وطولها ولونها وكافة تفاصيلها الأخرى.

اهتم أيضا بالأقنعة وتفاصيلها والمجوهرات والحلي وغيرها من الزوائد المسرحية. ولم يفته رغم اهتمامه بتجربة هذه الدقة وهذه الأصالة أن تنتسب الأزياء المصممة إلى الحركة والفعل المسرحي اللازمين لديناميكية العرض". [5]

وكان يجتهد ساكس ميننجن كثيرا من أجل أن يوفر لعمله النجاح والكمال والدقة، لذلك كان يعد كل ما يخدم المسرحية والممثلين من ملابس وإكسسوارات وأزياء عصر المسرحية في أصالتها ويقربها لهم بعد أن يوفرها في مخزن المسرح، ويضعها بين أيدي فرقته المدربة أحسن تدريب والتي تقوم بأدوارها المسرحية في فريق جماعي منسجم.

وقد ساهم ميننجن في بلورة الممثل البديل حينما أصدر تعليماته بأن يكون الممثل على استعداد تام ليمثل أي دور أنيط إليه" وهذا النظام إن دل على شيء فإنما يدل على توفر روح العمل الجماعي الذي يفترض أن تتحلى به فرق التمثيل. وكأمر طبيعي، لا يتوفر هذا النظام إلا في المسرح الفقير وليس المسرح الخاص أو التجاري الذي يعتمد على ممثلين تجمعهم الصدفة فحسب". [6]

ومن النظريات التي أضافها ساكس مننجين قيام أعضاء فرقته الفنية بتشكيل جماعات يسيرها قائد فني مرن له تأثير كبير على فرقته وجماعته التي يتحمل مسؤولية تأطيرها والإشراف على تدريبها. ويعني هذا أن كثرة الجنود الذين سيمثلون في المسرحية التاريخية كما في مسرحية "يوليوس قيصر" تحتاج إلى تدريب الجيش تدريبا تقنيا وحركيا، لذلك كان ساكس مننجن يقسم هذا الجيش إلى جماعات وفرق محاربة، لكل فرقة قائدها الفني الذي يعمل على تدريبها وتكوينها فنيا ومسرحيا. [7]

4- أندريه أنطوان André Antoine والجدار الرابع:

يعد أندريه أنطوان (1858-1943) من المخرجين الفرنسيين الكبار الذين ثاروا على المسرح الفرنسي في وقته، وقد تأثر كثيرا بساكس مننجن صاحب المدرسة التاريخية الطبيعية في تقديم التصاميم والأزياء من أجل توفير فرجة مسرحية أصيلة يتداخل فيها الماضي والحاضر والأصالة والمعاصرة.

ويقترن أندريه أنطوان بنظرية الجدار الرابع Fourth Wallحيث كان يدعو إلى تصميم الحركة حسب الجدران الأربعة على الرغم من فتحة الستار الوهمي الذي يشرف على الجمهور المتفرج.. والمقصود بهذه النظرية أن يحترم العرض علاقة الممثل بالجمهور، وأن تكون مقدمة المسرح شفافة وواضحة في إقامة التواصل بين العامل الدرامي والمتلقي مراعيا انطباعات كل منهما. وهنا، تصبح الستارة مجرد جدار رابع عبرها تشخص الحياة الطبيعية كما هي بطريقة فوتوغرافية يتخللها الإيهام والفرجة والتقمص. وعلى المتفرج أن يندمج في الفرجة الركحية وأن يتخيل الصور الحركية في مخيلته وعقله.

هذا، ويعد أندريه أنطوان من مؤسسي المدرسة الطبيعية إلى جانب مبدعها الأستاذ و الأديب الجامعي إميل زولا، وخير من يعبر عن إنجازاته وأعماله مسرحه الحر الذي أنشأه في سنة 1887م.

5- قسطنطين ستانسلافسكي K.Stanslavski وتدريب الممثل:

يعتبر ستانسلافسكي (1836-1938) من أهم المخرجين العالميين الذين ركزوا على تدريب الممثل وإعداده إعدادا جيدا من أجل بناء شخصيته ليشارك بكل كفاءة في أي عمل سينوغرافي يعرض عليه مهما كان هذا العمل الدرامي. ومن أهم كتبه المشهورة التي تتعلق بتكوين الممثل نذكر:"إعداد الممثل" و"بناء الشخصية". ويعرف ستانسلافسكي بأنه صاحب أول منهج متكامل لتكوين الممثل في المسرح الحديث.

ومن المعلوم أن الممثل من أهم مكونات العرض المسرحي الذي لا يمكن الاستغناء عنه؛ نظرا لمكانته الحيوية ودوره في إيصال العلامات السمعية والبصرية إلى الجمهور، ولايمكن- بالتالي- أن يقوم المسرح إلا على أكتافه ووجوده الإلزامي. ومن الذين سايروا هذا الطرح ميرهولد وگروتوفسكي وگريگ.

وقد أسس ستانسلافسكي أستوديو الممثل في موسكو لتأهيل الممثلين وتدريبهم على اللياقة العقلية والبدنية والنفسية قصد إعدادهم لأداء أدوارهم بطريقة علمية وفنية تعتمد على الإعداد الأولي والإعداد الثانوي والإعداد النهائي مع احترام القراءة الصوتية وتحسين النطق والقراءة الحركية والارتجال واستجماع الأحداث الدرامية وتحديد أهدافها والظروف المحيطة بها والالتجاء إلى الذاكرة الذاتية والتسلح بالمؤثرات العاطفية والوجدانية الشخصية لمعايشة الدور الجديد. ولابد أن يعرف الممثل " الشخصية التي يحاول أن يقوم بها أو يحققها على خشبة المسرح. ويجب أن يعرف أين موضع شخصيته بالنسبة للزمان والمكان والظروف الشخصية التي تسبق أحداث الشخصيات الأخرى ومواقفها، ويجب عليه أن يكون قادرا على الإفادة من تجربته الماضية في الحياة لمعاونته على إعادة إيجاد الحدث الحالي، الذي يرشح عن طريق الظروف، ويحدده الهدف." [8]

وعليه، فإن تدريب الممثل يستلزم إعداد تخطيط هيكلي مبني على الغرض وهو التأثير في المسرحية، والاعتماد على القراءة التمهيدية لفهم القصة واكتشاف معانيها، والانتقال بعد ذلك إلى القراءة الثانية لفهم ما غمض في النص وتبيان التراكيب الصعبة وتوضيح الجمل والألفاظ غير المألوفة، وتعقبها مرحلة القراءة التفسيرية بتدخل المخرج لتفسير المسرحية وإبراز خلفياتها التاريخية و ظروفها السياقية وأبعادها الإيديولوجية. و بعد ذلك تقسم المسرحية إلى وحدات وتحدد على ضوء أهداف سلوكية حركية (يفعل، ويحقق، ويبلغ، ويتمنى). وتقترن كل متتالية من الوحدات الدرامية بالهدف العام المشترك الذي تنبني عليه المسرحية.

ومن أهم واجبات المخرج أن يرى ممثليه قد أدركوا الفكرة الرئيسية والهدف العام من إنجاز العرض. وبعد تقسيم المسرحية إلى وحدات مفصلية يأخذ كل ممثل دوره فيقسمه إلى وحدات صوتية وحركية حتى يستوعبه ويفهمه ضمن الهدف العام المشترك. وتأتي مرحلة التدريب لإعداد الممثل على أداء دوره ويساعده المخرج في فهمه وتفسيره اعتمادا على أسئلة سقراطية توليدية للتأكد من فهم الممثل لدوره جيدا.

وفي لحظة التدريب، يعتمد الممثل على الذاكرة العاطفية أو عملية التذكر أثناء أداء موقف عاطفي وجداني من خلال استحضار تجارب شخصية عاشها تشبه ما يمثله على خشبة المسرح ويسمى كذلك بمفهوم المشابهة. ومن ثم، ينتقل المخرج بالممثل في تداريبه الركحية إلى عملية الارتجال ومعايشة الأدوار كما في الحياة والواقع على غرار نظرية الكوميديا المرتجلة التي ظهرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وينشد ستانسلافسكي من هذه الطريقة " التصوير الصادق للحياة الواقعية على خشبة المسرح. وقد ركز ستانسلافسكي على ما هو قائم في الوجود- ما يحتمل أن يكون حيا، المشاعر والمختارات التي تستلزمها الحياة. وطريقته تعطي للمثل حرية القيام باكتشافات لنفسه وللشخصية. ولكن هذه الحرية يجب أن تمارس داخل نطاق البناء الذي تقتضيه المسرحية والمفهوم الإجمالي للمخرج، كما ناقشه مع الممثلين". [9]

وبهذا يكون ستانسلافسكي الواقعي مؤسسا لحرفية الممثل وواقعيته الداخلية. كما تبنى منهج الحركات الطبيعية وتمثيل الممثل لنفسه عن طريق المعايشة الطبيعية الداخلية (العرض الذاتي أو التقنية الشخصية)، والتلقائية في أداء الأدوار الدرامية والتركيز في تدريب الممثلين على الأفعال actions أكثر من التركيز على العواطف؛ لأن الأفعال تقترن جدليا بالعواطف. ومن هنا، فالأعمال الواقعية كما يسميها المخرج الفرنسي جان لويس باروه Jean-Louis Barrault أهم من استدرار العواطف الذاتية والانفعالات الوجدانية. أي إن الفعل لابد أن يسبق العاطفة أثناء التمثيل، وبعبارة أخرى الفعل أولا والإحساس سوف يعقب ثانيا... وهكذا عمل ستانسلافسكي على الاهتمام بطريقة الإلقاء وتبني طريقة التحليل بالحركات الطبيعية لتحقيق الانفعالات النفسية خلسة وعن وعي بالتجربة وتقديم الإحساس الطبيعي بالحياة في مجموع الدور. وذلك بربط سيكولوجية الدور بالتشخيص الطبيعي. أي يجسد الممثل دوره السيكولوجي في علاقة استلزامية بتشخيصه لدوره بكل تلقائية طبيعية في محاكاة الحياة.

وتتألف طريقة التحليل بالحركات الطبيعية من عنصرين مترابطين: التأمل العقلي كتابة أو شفاهة، وهو التأمل في الدور لسبر غوره وأعماقه وهو الجزء التحليلي، و تشخيص الدور حركيا وعمليا وهذا هو الجزء العملي الميداني عن طريق الحركة الطبيعية. ومن خلال هذا يقسم المخرج المسرحية إلى أحداث، وكل حدث يتكون من مجموعة من الأفعال التي تشكل التجربة الواقعية. وينطلق الممثل من فهم الأحداث الجزئية الصغرى حتى يصل إلى الأحداث الكبرى. وتخلق هذه الأحداث ما يشكل محطات المسرحية، وهذا يساهم في خصوصية دور الممثل. وهذا يعني أن المسرحية في أحداثها كالسفر من مدينة إلى أخرى عبر محطات متنوعة ومختلفة. ويحث ستانسلافسكي "على استخدام تحليل الدور بالحركات الطبيعية، وبالتغلغل بواسطة التدريبات إلى أعماق المسرحية ولم يعرض عن استكشاف الدور عن طريق التفكير، بل إنه على العكس من ذلك أصر عليه...". [10]

وعند بداية المسرحية، لابد أن يستخدم الممثل كل أعضائه وفطرته ويركز على العمل ويعايشه فكريا وحدثيا وعاطفيا بكل تلقائية وحركة طبيعية، أي أن يدمج روحه في العرض المسرحي من أجل إرساء الفن الدرامي على القانون الطبيعي والحقائق الإنسانية.

5- فسفولد ميرهولد وأسلوب الماريونيت في تحريك الممثلين:

يعتبر فسفولد ميرهولد من أهم تلامذة ستانسلافسكي، وقد ثار على حصانة المؤلف والنص معا، واهتم بتكوين الممثل وتدريبه وبناء شخصيته وإعداده إعدادا جيدا، ورفض واقعية أستاذه ستانسلافسكي، ومال إلى الجانب الشكلي في المسرح، كما استغنى عن الماكياج والأقنعة وكل المظاهر الخارجية وعوضها بحركة الجسد التي ينبغي تطويعها لتشخيص كل الوقائع الدرامية. وأثبتت التجربة أن الممثل هو المحرك الأساس إذ يمكن أن ينقذ نصا ضعيفا من الفشل، ويمكن للمثل الضعيف أن يفشل نصا مسرحيا في غاية الجودة والإتقان، لذا لابد من تدريب الممثل وإعداده إعدادا حسنا ليؤدي الدور المنوط به. و من المثبت كذلك أن الممثل يساعد
المخرج على الابتكار وإيجاد الحركات المناسبة والفضاء الركحي الأليق به.

هذا، ويعد مسرح ميرهولد علامة كبرى على التجريب المسرحي في روسيا، ويعرف تقنيا أنه انتهج أسلوب الماريونيت في تحريك الممثلين مع ابتداع الأسلوب الشكلاني في التعامل مع الظاهرة المسرحية بعيدا عن الواقعية الباطنية كما عند ستاسلافسكي.

6- جيرزي گروتوفسكي: Grotowski والمسرح الفقير:

جيرزي گروتوفسكي من أهم المخرجين الذين اهتموا بالممثل إلى جانب ستانسلافسكي وميرهولد وگريگ. ونستدعي هذا المخرج البولوني في هذه الدراسة باعتباره أول من بلور نظرية المسرح الفقير الذي يعتمد على البحث وكفاءة الممثل وتشغيل الحركة والصوت لتعويض قلة الإمكانيات التقنية البصرية والسمعية والصوتية.

يرى گروتوفسكي أنه من الممكن أن نستغني عن مجموعة من المكونات المسرحية، ولكن لا يمكن أن نستغني عن عنصرين أساسيين وهما: الممثل والجمهور. ويمكن كذلك أن نستغني عن كل التقنيات الصوتية والتقنيات البصرية وذلك بتدريب الممثل على تعويض هذه الإمكانيات عن طريق كفاءته الحركية البصرية عبر تشغيل جسده وحركاته، ويمكن تعويض التقنيات الصوتية والغنائية والإيقاعية عبر استثمار الطاقة الصوتية لدى الممثل. ويعني هذا أن الممثل سيكون أمام تحديات كبرى ولابد أن يكون كفئا لكي يقنع الجمهور بجسده الحي وإمكاناته الصوتية المؤثرة وكل ذلك في غنى عن الديكور المترف وزخرفة المناظر الباروكية والإكسسوارات والتقنيات ذات التكاليف الباهظة. كما يعمد هذا المسرح إلى تكسير خشبة المسرح والاتصال مع الجمهور بطريقة حميمية.

ويركز گروتوفسكي كثيرا على الممثل الذي يجب أن "يكشف عن نفسه ويضحي بالجزء الحميم منه، أن يكون قادرا على العطاء بالصوت والحركة. هذه الذبذبات التي تتأرجح في الحد بين الحلم والواقع. باختصار، عليه أن يستطيع تأسيس لغته النفسية التحليلية بالأصوات والحركات، بنفس الطريقة التي يخلق بها شاعر كبير لغته وكلماته.

إذا اعتبرنا مثلا مشكلة الصوت فإن على الجهاز الصوتي للمثل أن يكون أكثر تطورا من جهاز رجل الشارع، وفوق هذا على الجهاز أن يستطيع إنتاج ردود فعل صوتية تتحدى في سرعتها سرعة الفكرة. إن تدخل الفكرة هنا يلغي التلقائية.

على الممثل أن يحل كل المشاكل الجسدية التي تعترضه، أن يعرف كيف يمرر الهواء عبر أجزاء جسده التي تخلق صوتا وتكبره بنوع من الصدى." [11]

وعليه، فالممثل له دور هام في مسرح گروتوفسكي الفقير يتحمل عبئا كبيرا في خلق التفاعل الإيجابي بين الخشبة والمتلقي، لذلك لابد أن يسخر كل طاقاته وإمكانياته ليحقق النجاح في أدائه وأن يكون كفءا ومقنعا وأن يتقن مجموعة من الأدوار لإيصال الفرجة الدرامية. وإذا كان "گروتوفسكي" قد ركز على الحوار بالمفهوم العام، وعلى الممثل المبدع فإنه فعل ذلك من أجل البحث عن جوهر المسرح، هذا الجوهر الذي يعني، بالنسبة إليه، العناصر التي قام عليها المسرح منذ نشأته الأولى. ولذلك فالمسرح يمكن أن يستغني عن الماكياج والأزياء والديكور والإضاءة والمؤثرات الصوتية. والواقع أن كل هذه العناصر أضيفت لاحقا وبالتدريج على المسرح، إلا أنها أصبحت من عناصره الأساسية عند بعض المشتغلين بفن الخشبة، لكن گروتوفسكي لا يرى وجودا للمسرح دون تلك العلاقة الحية بين الممثل والمتفرج، ولا تعني هذه العلاقة الوجود الفيزيقي لكلا الطرفين بقدر ما تعني الوصول إلى خلق ذلك التجاوب العاطفي الذي يجمع بين طرفي الإلقاء والتلقي، مهما كانت نسبة الأوقات التي يصبح فيها الجمهور ملقيا بدوره؛ ولاشك أن هذه المشاركة الوجدانية العامة تشكل الجوهر الذي قام عليه المسرح ولا يمكن أن يوجد بدونه.

إن گروتوفسكي عندما يركز على الجوهر، ويرى أن بالإمكان إلغاء بعض العناصر المسرحية يقف موقف من يعارض ما يسمى بالمسرح الشامل، ولعل هذا ما جعل بعض الدارسين يذهبون إلى أنه يرفض كل أشكال المسرح عدا مسرحه هو الذي أسماه المسرح الفقير". [12]

7- لويجي براندللو L.Pirandillo بين الارتجال و المسرح داخل المسرح:

يعتبر لويجي براندللو (1867-1936) من أهم كتاب المسرحين الإيطاليين الكبار الذين جمعوا بين الكوميديا المرتجلة وتقنية المسرح داخل المسرح، ومن أهم مؤلفاته المسرحية: "ست شخصيات تبحث عن مؤلف"، و"الليلة نرتجل"، و"لكل شيخ طريقته"... وكلها مسرحيات تحيل على نسبية الحقيقة واختلاط الواقع بالوهم.

يطرح براندللو في مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" تقنية المسرح داخل المسرح، ويعني هذا أن الكاتب يمسرح الأحداث والواقع في آن معا. ومن هنا، فقد جزأ مسرحيته إلى مستويين: مستوى الواقع ومستوى التمسرح. تبدأ المسرحية بمسرحة الممثلين لقصتهم فوق خشبة الركح مع فضح أسرار اللعبة الدرامية وكشف تقنيات الفرجة السينوغرافية. وفي نفس الوقت يمسرح الممثلون الواقع الحقيقي الذي يعيشونه في الخارج. وبتعبير آخر تبين لنا المسرحية صراع الواقع والفن على خشبة الركح وصراع ممثلي الواقع مع ممثلي المسرح المحترفين. وينطلق بيراندللو من الفن التكعيبي من خلال تكسير "الحدود المعروفة للحبكة السردية التقليدية مستخدما أسلوب المنظور الجديد أو المنظور المركب. وهذا المنظور ينشأ من الخلط بين بعض المشاهد المسرحية وبعض الأحداث الواقعية بحيث تبدو المشاهد المسرحية وكأنها الواقع والأحداث الواقعية وكأنها مجرد مشاهد تمثيلية، فنحن نرى في بداية ذلك العمل الذي يصعب أن نسميه مسرحية، نرى مجموعة من الممثلين يقومون بأداء أدوار ممثلين في فرقة مسرحية أثناء بروفة مسرحية من مسرحيات بيراندللو نفسه- وهكذا نجد أن تفتيت الواقع على مستويات متغيرة قد بدأ منذ البداية. وأثناء البروفة تدخل على المسرح العاري أسرة مكونة من ستة أشخاص أب وأم وأبناء شرعيون وأبناء غير شرعيين. وتطلب الأسرة من المخرج أن يسمح لهم بتمثيل أو تحقيق حياتهم على المسرح في صورة درامية حيث إن مؤلفا ما قد (فكرهم) دون أن يكتبهم في نص. وهنا يجد المتفرج نفسه وقد تحللت أمامه فكرة الممثل وفكرة الشخصية المسرحية إلى العديد من المستويات المتصارعة." [13]

ويلاحظ من خلال أعماله المكتوبة أن براندللو يستعين بالكوميديا المرتجلة الإيطالية في كتابة نصوصه الإبداعية وتفسير عروضه الدرامية كما يدل على ذلك عنوان مسرحيته المشهورة "الليلة نرتجل".

8- إرفين بيسكاتور E.Pescator والفن السينمائي:

يعرف إرفين بسكاتور (1893- 1966) بأنه من أهم المخرجين الألمان الذين التزموا بقضايا المجتمع والسياسة. وقد كان السباق إلى توظيف المسرح الملحمي الجدلي ذي الطابع السياسي الذي يخاطب عقل الجمهور قبل عاطفته ليتخذ موقفا من القضايا السياسية.

وعلى مستوى العرض، كان بيسكاتور يكسر وحدة النص ويفكك الكتابة إلى مشاهد مفككة أو متناظرة، ويستعين بالحكي والوصف والحوار والتوجه مباشرة إلى الجمهور لكي لا يندمج عاطفيا مع عرضه المسرحي. ومن أهم التقنيات التي استعملها بسكاتور في عروضه المسرحية الاستعانة بالفن السينمائي باعتباره أداة للتعبير الفني. فقد كان بسكاتور يستعمل الأشرطة الوثائقية والسينمائية لتنعكس على الستارة الخلفية أو ما يسمى بستارة "الفوندو"، وكانت هذه الأشرطة بمثابة خلفية تاريخية للمشاهد التي يقدمها مسرحه السياسي.

9- برترولد بريخت:Bertorld Brecht والمسرح الملحمي:

يعد برتولد بريخت من أهم المخرجين الألمان الذين تأثروا بالفكر الاشتراكي الماركسي الثوري، ومن الذين حاربوا النازية الهتلرية بكل شراسة و ضراوة. وقد كان يمارس المسرح في برلين في الشق الاشتراكي من ألمانيا. وقد ثار بريخت على المسرح الأرسطي الذي يعتمد على التطهير النفسي مستبدلا إياه باللاندماج أو التغريب أو التباعد وتكسير الإيهام المسرحي، أي إن الممثل في مسرحه يكشف لعبة التمسرح وأسرار الشخصية، ويبين للجمهور أنه يمثل فقط ولا يتقمص الدور ولا يندمج فيه. وبهذا يرفض بريخت نظرية التقمص والتطهير، ويستوجب أن تبقى خشبة المسرح خشبة للمسرح والتمثيل.

وتتميز مسرحيات بريخت بغياب الديكورات التقليدية واستخدام الأغراض الواقعية التي تبرز علاقة الإنسان بالواقع.. كما يتبنى بريخت المادية الجدلية ومسرح الشهادة والاستشهاد ويدعو إلى تغيير الواقع عن طريق توعية الجمهور وإشراكهم في الإدلاء بآرائهم في أحداث المسرحية ووقائعها المأخوذة من الواقع المعاش. وقد كسر بريخت الجدار الرابع من أجل الاحتكاك بالجمهور، وهذه التقنية وظفها المخرج الفرنسي أندري أنطوان André Antoine. وقد استخدم بريخت في مسرحه الملحمي مجموعة من التقنيات الإخراجية كاللافتات والشعارات المكتوبة عليها ويعلقها على الستائر، كما نراه يستخدم السينما بتحويل ستارة الفوندو إلى شاشة سينما يعرض عليها أثناء تمثيل المسرحية بعض مشاهد توهم بأنها واقعية صورت على الطبيعة كتسجيل قسوة وهمجية الحكم النازي كما في مسرحيته الملحمية "عظمة الرايخ الثالث وبؤسه"، كما اعتمد على تقنيات شرقية كالتغريب والراوي والحكاية والأمثولة والغناء والرقص والبهلوان والأقنعة. [14] والتجأ كذلك إلى الحوارات والخطاب المباشر مع الجمهور وتوظيف كتابة متقطعة يتمتزج فيها الحوار والكلام واستعمال السرد بصيغة الماضي، أي يورد بريخت الأحداث كما لو وقعت في الماضي. وتصبح شخصية الممثل شاهدة على الأحداث ويقوم بالتعليق عليها ويمارس النقد ويكتشف زيف الحقائق الإيديولوجية.

ومن هنا، فالمسرح الملحمي البريختي مسرح سياسي لا أرسطي يجمع بين المتعة والفائدة، وقد نظر لمسرحه الطلائعي في كتابه التنظيري المشهور "الأرجانون الصغير".

ومن مسرحياته المشهورة: "القاعدة والاستثناء"، و"دائرة الطباشير القوقازية"، و"رجل برجل"، و"حياة جاليليو"، و"الأم شجاعة"، و"السيد بونتيلا وخادمه ماتي".

10- أنطونين أرتو Antonin Artaud مسرح القسوة:

يدعو أنطوان أرتو في تجاربه المسرحية وكتاباته النقدية إلى مسرح جديد وهو مسرح القسوة الذي يعتمد على اللاشعور الجماعي بدلا من اللاوعي الفردي الذي يتبناه السرياليون، كما يتوسل هذا المسرح بالأسطورة بدلا من الأحلام والرؤى الفردية، والاعتماد على شعرية الحركة بدلا من التركيز فقط على شعرية الكلمة. ويدعو مسرح القسوة إلى استخدام السحر والأسطورة في التعرية القاسية العنيفة للصراعات المتأصلة في اللاوعي الإنساني الجماعي. ومن هنا يستند هذا المسرح إلى الشكل والحركة والإضاءة واعتماد البلاغة الحركية. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان يدعو إلى المسرح الشامل، ويرفع من مكانة الممثل، وينفتح على الجذور الأنتروبولوجية للمسرح الشرقي وخاصة الأندونيسي والصيني والهندي والمكسيكي والبرازيلي....

ويتحول مسرح أرتو إلى صرخات وحركات عنيفة التي تستخدم بطريقة مباشرة للتأثير على الجمهور والاستحواذ عليه واجتياحه بحرارة شديدة.

ومعظم النصوص التي شغّلها أرتو هي تراجيديات للكاتب الروماني الفيلسوف سنيكا Sceneca، وهو باستحضاره لشياطين النزوات والانفعالات في هذه المسرحيات كان يسعى إلى تطهير جمهور المتفرجين منها.

هذا، وقد كفر أرتو بالمسرح الغربي بعد أن تأثر بطقوس واحتفالية المسرح الشرقي حينما شاهد لأول مرة سنة 1931 عروض المسرح الأندونيسي بجزيرة بالي، ثم ارتحل إلى المكسيك للبحث عن لغة مسرحية نقية وعذراء...". [15] وذلك لخلق مسرح يجمع بين السحر الشرقي والمنطق الغربي في بوتقة احتفالية متناغمة بشعرية الروح واللاشعور الجماعي المتأصل في ذاكرة الإنسان.

11- إدوارد گوردن گريگ (E.G.Graig): لمسرح الشامل والممثل الدمية:

تأثر گريگ ( 1872-1966) كثيرا بمسرح أنطونين أرتو ألا وهو مسرح القسوة، وطبقه في الكثير من مسرحياته المثيرة للإعجاب. وإذا كان ستانسلافسكي وگروتوفسكي قد أشادا بدور الممثل باعتباره الركن في العملية الدرامية والسينوغرافية، إلا أن گريگ اعتبر الممثل دمية خارقة - متأثرا في ذلك بالمسرحي الرمزي ماترلنك M.Maeterlink (1862-1949)- يمكن أن يتحكم فيها المخرج كيفما يشاء ويطوعها بالطريقة الفنية التي يريدها بعيدا عن كل مظهر واقعي احترافي. وبهذا يتبنى گريگ المذهب الرمزي في تشكيل الممثل باعتباره دالا رمزيا، أي إن الممثل يصبح رمزا وقناعا يمكن تشكيله بطريقة تتجاوز الشخصية الواقعية. وبهذا ثار گريگ على المسرح وحاول تدميره وتعريته من كواليسه وزخارفه، وحد من نجومية الممثل واعتبره مجرد لعبة في يد المخرج محرومة من كل مبادرة خلاقة تعتمد على الإمكانات والطاقات الذاتية. لقد أصبح الممثل أشبه بالدمية، إنه بالنسبة إلى كريج " عبء وصعوبة. إذا استخدم الممثلون فيجب أن يكفوا عن الكلام ويتحركوا فقط...وإذا أرادوا أن يرجعوا إلى الفن في صورته الأصلية فالتمثيل هو الفعل، والرقص هو الشعر في هذا الفعل". [16] وهنا يتأثر هذا المخرج البريطاني الكبير بالروسي ميرهولد الذي اعتبر بدوره الممثل دمية في يد المخرج يؤطرها بالطريقة التي يرتضيها وعلى ضوء الفلسفة التي يتبناها.

وينطلق گريگ في كتابه "فن المسرح" من أن جذور المسرح تعود إلى الرقص والحركات الصامتة، وقد رفض فلسفة الواقعية كثيرا وكان في المقابل يدعو إلى المسرح الشامل وخاصة المسرح الذي ينبني على المسرحية الصامتة و شعر العرض المسرحي الجامع بين طقوس الكلمة والحركة.. ويتحدد المسرح الشامل لدى گريگ في الحدث والكلمات والخط واللون والإيقاع.

12- أدولف آبيا Adolphe Appia والمنظور الثوري للإضاءة:

اهتم المخرج السويسري أدولف آبيا كثيرا بالعرض الدرامي وقلص من قيمة النص المسرحي؛ لأن المؤلف لا يعتني بتجسيد النص سينوغرافيا، بل يركز جهده على بناء الحوار اللغوي وتشكيله، لذلك يبقى عرض الكلمة أهم من كلمة النص. أي إنه لا يدعو إلى إلغاء النص، وإنما يولي أهمية كبرى للحركة. وللمخرج المبدع الحرية الكاملة في أن يتحكم في النص ويفسره بالطريقة التي يرتضيها ويجتهد في الإخراج الذي يستهويه. وقد ثار آبيا على العلبة الإيطالية التي تعيق عملية التواصل بين الممثل والجمهور وتخلق جوا من الغموض والسحرية، ودعا إلى بناية مسرحية جديدة تتلاءم مع طبيعة العرض الدرامي المشخص.

وكان يهدف آبيا إلى خلق شعرية مسرحية يتقاطع فيها المستوى الصوتي مع المستوى المرئي في تناغم شاعري منسجم، والغرض من ذلك هو"تحقيق شعرية جديدة للعرض المسرحي مختلفة عن الشعرية الكلاسيكية القائمة على الإيهام المسرحي وعلى الاندماج بين العرض والمتلقي. إنه يؤكد على تأسيس علاقة هارمونية بين الصورة الصوتية (كبلاغة للمتلفظ) وبين الصورة الحركية (كبلاغة للمرئي)، ليتحول العرض المسرحي إلى فرجة مشحونة بالدينامكية وبالحركية حتى لا يبقى المتلقي ساكنا في فرجة سكونية تكرارية". [17]

وتحسب لأدولف آبيا "أهمية استخدامه للإضاءة المسرحية بأسلوب فني ولازال يطبق حتى اليوم. ويقال إن المخرجين اهتدوا إلى خلق الظلال المختلفة بأجواء العروض المسرحية بدلا من إضاءتها إضاءة مسطحة ومملة بوحي من نظريات آبيا". [18]

13- جان ڤيلار Jean Vilar والمسرح الاحتفالي:

يعد المخرج الفرنسي جان ڤيلار من المخرجين السباقين إلى تأسيس النظرية الاحتفالية في المسرح الغربي خاصة في الخمسينيات من القرن العشرين، إذ حول مهرجان أفنيون الصيفي إلى مهرجان مسرحي احتفالي خيالي، وجعله فضاء اجتماعيا وإبداعيا مفتوحا وفضاء للاحتفال الجماعي الشعبي للتعبير الحر والارتجال التلقائي. وقد كان مسرح جان ڤيلار شعبيا احتفاليا في خدمة الحفل والجمهور على حد سواء. وقد تأثر بنظريته الاحتفالية كثير من المغاربة منهم الطيب الصديقي وعبد الكريم برشيد.

14- بيتر شومان P.Schumann ونظرية مسرح الدمى:

أسس بيتر شومان مسرح الدمى والخبز سنة 1962م، وقد قدمت عروض هذا النوع من الدراما في المسارح والشوارع، وبهذا يتجاوز هذا المسرح فضاء القاعة لتنقل العروض إلى الفضاءات المفتوحة. وتركز هذه النظرية على تشغيل الدمى على غرار تجربة الدمى اليابانية.

ويعتمد العرض في هذا النوع من المسرح الجديد والطليعي على توظيف الأقاصيص والخرافات والفولكلور والحكايات الرمزية التعليمية وأدب الأطفال. وتتسم لغت بيتر شومان في عروضه المسرحية بالوضوح والمباشرة المختلطة بشعرية رفيعة المستوى. وكان يخاطب بمسرحه كل فئات الجمهور، ويراعي مستوى تلقيها للعمل المسرحي.

هذا، وقد تأثرت فرقة أيرلندية بهذا المسرح حيث قدمت في المسرح الجامعي بالدار البيضاء ما بين 4 و18 أيلول (شتنبر) 1992م مسرحية يقوم فيه الممثلون بتشغيل الدمى المتفاوتة الأحجام على الركح لتقديم العرض عن طريق تشخيص الأدوار عبر إصدار أصوات رمزية دالة والدخول في حوار سيميائي تواصلي مع الدمى. [19]

15- بيتر بروك Peter Brook والتلفيق المسرحي:

لعل ابرز الشخصيات المسرحية البارزة في عالمنا المعاصر هو المخرج الإنجليزي بيتر بروك وهو من أصل روسي. وقد شهد له العالم بكفاءته حتى إن منظمة اليونسكو أسست له معملا مسرحيا تجريبيا بباريس يمارس فيه نشاطه الفني والحرفي مع بداية السبعينيات. وقد استفاد بيتر بروك من أسلافه السابقين، واستوعب نظرياتهم في تكوين الممثل وتقديم الفرجة السينوغرافية المتكاملة. وكان بيتر بروك مخرجا سياسيا كما في مسرحيته الناجحة "نحن والولايات المتحدة"، كما تأثر بمسرح القسوة لدى أرتو كثيرا وبالمسرح الملحمي لدى بريخت واشتغل على هذه النظرية في كثير من مسرحيات شكسبير. وكان بيتر بروك يركز على الصوت والحركة والمونتاج علاوة على الارتجال والبحث عن أصول المسرح. وقد أخرج بيتر بروك مسرحية بيتر فايس التسجيليةPeter Wies مارا- صاد marat- sade وقد وجد فيها "ضالته في هذا النص لاحتوائه على عناصر برختية وآرتودية وحركية وموسيقية وغنائية ولغوية وسيريالية وطبيعية وبيراندلية وطقسية. بمعنى آخر مسرحية شاملة العناصر ومسرحية داخل مسرحية. ونحن هنا أمام مسرحية تربط المسافة بين ماضي بروك التجاري وحاضره التجريبي على حد تعبير الناقدة مارجريت كرويدون (أمريكية). مسرحية صورت عالم ماوراء عبثية بيكيت وتكنيك بريخت، مسرحية تضرب جذورها في التاريخ وأمراض البشر والتي مكنت كلا من بريخت وفايس من التعامل مع تصورات المسرح كوسيلة للعلاج". [20]

ونستنتج من هذا أن بيتر بروك يشتغل كثيرا على التوفيق بين صورة القسوة في مسرح أرتو والصورة الشعرية المجردة عند بريخت. كما يوظف جميع التقنيات المسرحية الصوتية والبصرية والكوليغرافية وخاصة الميم والتلوين بالأقنعة والماكياج.

خاتمــــة:

تلكم هي أهم التصورات المسرحية والتقنيات الإخراجية التي عرفها المسرح الغربي تنظيرا وتأليفا وتطبيقا عبر تاريخه الممتد من العصر اليوناني إلى يومنا هذا مرورا بمدارس أدبية وفلسفية وتشكيلية متعددة ليصبح اليوم المسرح الغربي مسرحا شاملا ومتنوعا ومنفتحا على جميع التجارب الدرامية العالمية. ويمكن لكل من يريد الكتابة المسرحية أو تأطير الممثلين وتكوينهم وتدريبهم التدريب الحسن أو تقديم عروض سينوغرافية وفرجات درامية ممتعة، لابد عليه من الانفتاح على المسرح الغربي وتمثل تصوراته المسرحية واستيعاب تقنياته الإخراجية.


[1P.Pavis: Dictionnaire du théâtre, Editions Sociales.Paris.1980.P:254.

[2محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته، دار البوكيلي للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1996م، ص: 179-180.

[3انظر أرسطوطاليس: فن الشعر، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة بيروت، لبنان، بدون تاريخ.

[4د. محمد مندور: الأدب ومذاهبه، دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة، القاهرة، ص: 186.

[5أحمد زكي: عبقرية الإخراج المسرحي، المدارس والمناهج، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 1989، ص:196.

[6نفس المرجع السابق، ص: 196.

[7نفس المرجع السابق ص: 196.

[8نفسه، ص: 209.

[9نفسه، ص: 212.

[10نفسه، ص: 226.

[11گروتوفسكي: المسرح الفقير، دار الفرقان للنشر الحديث، الدارالبيضاء، ص:16-17.

[12د. محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته، دار البوكيلي للطباعة والنشر، ط 1، 1996م، ص:9.

[13د. نهاد صليحة: المدارس المسرحية المعاصرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى 1986، ص: 107-108.

[14د. عبد الكريم برشيد: حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط 1، 1985، ص:44.

[15عبد الكريم برشيد: نفس المرجع السابق، ص: ص 44.

[16عبد الرحمن بن زيدان: التجريب في النقد والدراما، منشورات الزمن، ط 1،2001، ص:98.

[17د. عبد الرحمن بن زيدان: التجريب في النقد والدراما، منشورات الزمن، ط 1،2001م، ص:97.

[18أحمد زكي: عبقرية الإخراج المسرحي: المدارس والمناهج، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى 1989، ص:90.

[19د. محمد الكغاط: نفس المرجع، ص: 96.

[20أحمد زكي: نفسه، ص: 132.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى