الخميس ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم عمر يوسف سليمان

نحن من يصنع التاريخ

(لقد راقبتُ التاريخَ طوالَ حياتيْ،نحن في التاريخ الآن،نحنُ من يصنعه،أنتما منحتما الرجلَ العجوزَ أعظمَ ليلةٍ في حياته).
بمثلِ هذه الكلماتِ الرائعةِ تحدث الرجلُ المسنُّ الذي قامَ بدورِ العالمِ التاريخي في الفيلم السينمائي الشهير(شيفرة دافنشي) ،والذي عبر من خلالها عن عظيمِ امتنانهِ للبروفيسور والآنسة اللذينِ جلبا له الشيفرة التي تقودُ إلى معرفة (الغريل المقدسة).
التاريخُِ بمفهومهِ الضيق علم،غير أننا إذا نظرنا إليه من زوايا أكثرَ اتساعاً وجدناهُ يختلفُ عن باقي العلومِ ويشذُّ عنها في جوانب مختلفة.

فهو ليس علماً جاهزاً-كاللغة-ولا يخضعُ للمصادفةِ والتجريبِ -كالعلومِ التطبيقية-بل يتصفُ بالاستمرارِ والثبات على نحوٍ ما،واللتينِ تمثلانِ أعظمَ نقطتينِ تتحكمانِ بنوعيةِ هذا العلمِ والتصاقهِ بالإنسانِ بشكلٍ مباشر،لأن ترجمة كلمة تاريخ،هي تفاعلُ الإنسانِ مع غيره،ومع الأرضِ التي يعيشُ عليها.

فمعَ ظهورِالإنسانِ على الأرض،ومسيرهِ أول خطوةٍ في ضوءِ الشمس،ظهرت كلمة (تاريخ) كعلم وبصمة تسجل لهذا الكائنِ كلَّ ما يفعله،إذا اعتبرنا أن التاريخَ بدأ (بتاريخِ الإنسان) ولم يمتد لما قبل ظهوره بأزمانٍ شاسعة،ومن ثَمَّ فإن بدايةَ التاريخِ مجهولة،ولا يمكننا أن نصيغَ بدايةً واضحةً لهذا العلمِ مهما استمر العمل والبحثُ فيه.

فهذا الكائنُ يرتحلُ ،ويكتشف،ويفرح،ويحزن،ويخططُّ عصا ترحالهِ في شتى بقاعِ الأرض،ليترك آثاره عليها،فمنها مايذهبُ سدىً،ومنها مايبقى ،ليأتي بعد ذلك أحفاد أحفاده،وأجيالٌ تعمِّرُ ما تركه،لتختَصَّ بعلمٍ اسمه(التاريخ).
ولكن،إذا نظرنا إلى التاريخِ الذي لم يُكتب بعد،التاريخِ الذي سيأتي في يومٍ ما،عرفنا أنَّ هذا التاريخَ سيمثِّلنا في وقتٍ من الأوقات،وعرفنا أيضاً أننا كائناتٌ رائعة،لها من القيمة بحيثُ تصنعُ علماً ،وتخطُّ جزءاً من مسيرةٍ طويلةٍ بدأها أجدادٌ لنا مروا فوق الأرضِ التي نسيرُ عليها وملؤوها بآثارهم وإبداعهم ومبتكراتهم.

إذا نظرنا إلى التاريخِ المستقبلي،سندركُ أننا سنغير هذا التاريخ ونبتكره،ونصنعه في حقبةٍ من الزمن كما شئنا خلال إقامتنا فوقَ الأرض.

إننا اليومَ في فترةٍ مظلمةٍ حالكةٍ من التاريخْ،في فترةٍ مجهولةِ المصيرِ وغير طبيعية،فماذا سيُكتب عن هذه الحقبةِ في أزمانٍ ستأتي لانعرفها؟،إذا قدِّرَ للأرضِ أن تستمر في الدوران حتى تلك الأزمان.
التاريخُ حياة،نعم،فهو الذي يحيينا،ويجعلنا خالدين عبر العصور،وماالموتُ إلا حالةٌ طارئةٌ تداهمنا،لتنقلنا إلى نموذجٍ مختلفٍ من العيش.

هذا شأنُ الذين يصنعونَ التاريخ فحسب،وقد يكونونَ قلائلاً،بل قد يكون شخصاً واحداً يصنعُ هذا التاريخ ويغير وجهته،كما قد يكون هؤلاءِ سيئينَ أوخيرين،لاأتكلم عن هذه الناحية،ولكن أتكلم عمن يصنعونَ التاريخ،باستثناءِ أدواتهم واتجاهاتهم.
فالمسيحُ -على سبيلِ المثال-غيَّر التاريخَ بمحبةٍ عظيمةٍ وكلماتٍ رائعةٍ ومعجزاتٍ كثيرةٍ قامَ بها، وخلالَ سنواتٍ قليلةٍ عاشها على الأرض،والمسيحُ شخصٌ واحد!!

ومحمدٌ غير وجهَ التاريخِ بما قامَ بهِ من طرحِ أفكارِ الدينِ الإسلامي في جزيرة العرب لإخراجِ الناسِ من عبادةِ الأوثانِ إلى دينِ التوحيد،والفتوحاتُ التي حدثت فيما بعدُ غيرت مصيرَ أصقاعٍ شاسعةٍ من الأرض،وكان الداعي لكل ذلك شخصٌ واحد،وعقلٌ واحد!!

وبوذا ،الذي يذكر أتباعهُ انه بينما كان يجلس تحت شجرة تينٍ في إحدى الليالي فتساقطت عند قدميه هموم الدنيا ومشكلاتها جميعاً فاهتدى إلى حلها(1)،ومن يومها بدأ بدعوته التي يُعدُّ أتباعها الأكثر من حيثُ أتباعُ الديانات في العالم!!.
غير أن الإسكندرَ أيضاً غير وجهَ التاريخ،ولكنه كانَ شرَّ الأرضِ ،حتى بلغ ظلمهُ وملكهُ ما لم يبلغهُ أحد،وبالرغمِ من ذلك فقد صنع هذا التاريخ.

وغاندي وهتلر وعبد الرحمن الداخل وهولاكو وزنوبيا ونابليون،جميع هذه الأسماء وغيرها الكثير تذكرنا بأشياء عظيمة أسهمت في صناعةِ الأمم،وتغيير التاريخ،بالرغم من التناقُضِ الكبير الذي تحتويه والذي يأخذنا إلى عوالمَ شتى من الحب والالم والحزن عبر تاريخِ الإنسانية الطويل!!!

ولاأقصدُ في كلامي أن يسهمَ الإنسانُ في تخليدِ ذاته،وصناعةِ نفسهِ على أنها شخصيةٌ تاريخية،ولكن أقصد عن صناعة التاريخِ بحدِّ ذاته،فنحن نذكر الثورةَ الفرنسية كحادثةٍ أسهمت في صناعةِ تاريخ فرنسا الحديث،بغضِّ النظرِ عن صانعي هذه الثورة.
ولا ينبغي أن يكونَ الأديبُ أو المفكر مسايراً للطوفانِ حتى يتصل بالناس ويقرؤوه،بغيةَ أن يقومَ بأي أمرٍ في المجتمعِ يأمره به الناس،بل لابدَ أن يكون رافضاً(في الغالبِ)،حتى يستطيعَ أن يصنعَ تاريخا،ويغيِّرَ أمَّة.

في حديثٍ جمعني بالروائي السوري(سلام مدني)،طُرِحت فكرة(لماذا نكتب؟)،وكان نقدهُ حاداً لأن يكتبَ الأديبُ أو المفكرُ ليخلّدَ ذاته وشخصه،وقال بأنَّ من يهدفُ إلى هذا الأمرِ ولا يسعى لخدمةِ الناس والتقربِ منهم ويقتصر على خدمةِ ذاته لن يستمر أصلاً!!،فأجبته: (ولكن المتنبي كان يسعى إلى ذلك،و لا يزالُ حياً!!)،فقال لي: (المتنبي حالةٌ شاذة).
غير أني لم أقتنع بما قاله أستاذي الأديب سلام مدني مع تقديري لرأيه،ذلك أنَّ المتنبي ليسَ حالةً شاذة،ولم يبقَ لأنه سعى ليخلد نفسه،بل استمر من ناحيةٍ أخرى،وبصورةٍ مختلفة،فهو-كظاهرة أدبية تحتل حيزاً ضخماً من ثقافتنا وتاريخنا العربيين-إنما استمر بشعره وحِكمه التي نثرها في ثنايا هذا الشعر،ولم يستمرّ كشخصية كما استمرَّ كحِكَمٍ وشعرٍ رائعين،وهو أصلاً لم يرد الخلودَ من خلال الشعر،بل أراد من خلال الملكِ والسياسة والحكم،ولم يستطع إلى ذلك سبيلاً.

إذاً استمرَّ المتنبي من حيث لا يشعر لكونه مُغيِّراً،ولكونهِ صانعاً للمجدِ وحكيماً،وبهذا سيَّر التاريخ واتصل بالناسِ كما يريد،دونَ أن يخدمهم كما يريدون ،لا لكونِهِ حالةً شاذة، أومخلِّداً لنفسهِ ونرجسياً يحتقرالخلق بشكلٍ مريعٍ كما يظهرُ لنا من خلالِ سيرته وشعره!!.

وبالرغمِ من أننا نعيشُ في شعوبٍ متخلفة،وفي بلدانٍ نكادُ نجزمُ أنه لامكانَ للحياةِ والأملِ والسلامِ فيها،ونغوصُ في مستنقعٍ مظلمٍ من الجهلِ والتخلف والقمعِ والخوف،في ظلِّ هذا العالمِ الآخر-العربي مجازاً-إلا أنَّ هناكَ وسائل يستطيعٌ كلٌّ منها اتخاذها ليكوِّنَ حولهُ وسطاً ثقافياً ،فيعيشَ في حالةٍ من الوعي ،ومن ثم ينشرها بينَ الآخرين،وهذه الحالةُ أو الجو الثقافي الذي يكونه الفردُ حوله ويصبحُ خاصاً به ضروريٌّ لأنه لا يمكن لأي إنسانٍ أن يصنعَ تاريخاً،وأن ينجزَ أمراً يرفعُ شأن أمةٍ من الأمم دونَ أن يكوِّنَ حوله هذا الوعيَ الثقافي،لاسيما في هذه الفترة الأخيرةِ من مسيرةِ أمتنا،وأعني بها فترةَ الاتصالاتِ والمعلومات،فهناك الكثير من الأمور المبشرة والرائعة التي تسهم في تبادل الخبرات والمعارف والانفتاحِ على الشعوبِ كافَّة،وهكذا يستطيعُ أيُّ مفكرٍ أو مبدعٍ أن يخلقَ حولهُ هذا الجو الثقافي،وأن يتواصل مع الآخرين،حتى نستطيعَ أن نخلقَ التاريخَ ونسيرَه لا أن نسيرَ فيه وحسب.

كما أن النشرالالكتروني يسهم كثيراً في الخروجِ من الأطرِ المعقدةِ التي تضعها التنظيماتُ في وجهِ المفكرين،فيكسرونَ طوقَ الممنوع،ويحلقونَ في سماء الفكر والإبداع.
لذلكَ اقترحُ على المؤسساتِ الثقافية بإنشاءِ قسمٍ أو زاويةٍ تُسجل فيها إبداعاتُ الافرادِ الذينَ ينتمونَ إلى المنطقة أو البيئة المحلية التي تتواجدُ فيها هذه المؤسسة أو تلك،وأن يُعتبرهذا تأريخاً تهتمُّ به،وليس ذلك فحسب،بل أن يُخصص قسمٌ آخرُ يَطرحُ فيه الناشطون المنتمونَ إلى هذه المؤسسة ما يرغبونَ أن تكون عليهِ الفترةُ التاليةُ التي سيعيشونها،على صعيدِ المؤسسة،وما سينجزونه خلالها،ومن ثَمَّ تُكتبُ بعد أن تنتهيَ تلكَ الفترةُ ما كانت عليه كتأريخ، ويُقارن بينَ الزاويتين،وبعدها يوَضَّحُ الاختلافُ بينهما ويُستفادُ منهُ في إجراءاتٍ قادمة وهكذا...

وبما كانت الفكرة أوضحَ في إنشاءِ موقعٍ تتحد فيه هذه المؤسساتُ ويُفتحُ فيه المجالُ أمام الراغبينَ في الاشتراكِ لتطبيقِ الفكرة،ولاأظنُّ المؤسسات الثقافية العربية المطبوعة أو الالكترونية إلا مستجيبةً لهذا الأمر،لا سيما المستقلَّة منها.
فكِّر الآنَ أيها القارئُ العزيزُ بأن أمامكَ شيءٌ يجبُ أن تصنعه ،وأن ثمةَ صفحاتٍ بيضاءَ تستطيعُ ملأها بما تشاء،وبأن التاريخَ لا يصنعه إلا من هم أهلٌ لذلك،وجميعنا كذلك،نعم،لأنه لا يوجد إنسانٌ عاديٌ وآخرغير عادي،بل كُلُّ فردٍ منا يمتلكُ موهبةً وملكةً إذا فعَّلها تدوي في الأرجاءِ بما ينعكسُ على تاريخِ أمته كما يشاؤهُ هوَ...وأياً كانت نوعيةُ الحياةِ التي نعيشها فبمقدورنا أن نسهمَ في صناعتها،ولا نرضى أن يأتي من بعدنا ليكتبونَ ما فعلناه دونَ إرادتةٍ منا،بمعنى أن يدوِّنوا حياتنا التي أرغمتنا أن نعيشَ كما تُريد!!.

نعم أخي القارئ:العامُ الماضي على سبيلِ المثالِ قد مضى،نعم مضى!،ولكن هناك عامٌ الآنَ في انتظارك،عامٌ تستطيعُ أن تملأه بما تشاء،وتصنعه كما تشاء،أجل،بإمكانكَ أن تجعله أبهى وأجمل.

وهأنذا أنتهي الآنَ من كتابةِ مقالي(نحن من يصنعُ التاريخ) لأقوم بإرسالهِ إلى مجلة (ديوان العرب) ومن ثمَّ يصلك أيها القارئ العزيز...وهو جل ماأصبو إليه،لقد صنعت شيئاً،وما صنعته كان تاريخاً،وأنا سعيدٌ به ،نعم،هذا حقيقي!!،وسوفَ أبدأ الآنَ بالتفكير بما سأصنعه ، قبل أن يسبقني العمرُ الذي يعدو بسرعة دونَ أن يلتفتَ إلى الوراءْ....

(1) عن موسوعة ويكيبيديا الحرة بتصرف.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى