الخميس ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧

دموع الحب

بقلم : محمود زين العابدين

رن جرس هاتفه في وقتٍ متأخر من الليل، بينما كان يتابع دراسته، فرفع سماعة الهاتف باستغراب وتساءل. عندها جاءه صوت متحشرج يغص بالدموع والحسرات. إنه صوت أمها، بعد مضي عدة سنوات على آخر اتصال كان بينهما، وقبل أن يبدأ بالاستفسار عن سبب اتصالها بدأت حديثها قائلة: آسفون للإزعاج يا ولدي، لكني اضطررت على أن أتصل بك في هذا الوقت المتأخر، لأطلب منك أن تحضر لطرفنا، وبأسرع وقتٍ ممكن.

فابنتي على فراش الموت تحتضر وتردد اسمك. أرجوك يا ولدي وأتوسل إليك أن تحضر، فهي ترجو لقاءك، حتى إن لم يعد لها أي مكان في قلبك، فأحضر حتى تنقذ حياة إنسانة من الموت، إنسانة أحبتك وقد أخطأت، مثلما أخطأت أنا بإقناعها بالزواج من غيرك.

أجل فأنا من أقنعها مراراً بأنك لا تحبها، وبأنك إنسان مغرور. فقد كان هدفي أن تتزوج ابنتي من شخص آخر، لأنتقم منك، ولكن الثمن كان باهظاً. نعم زوجتها ولكن زواجها لم يدم سوى بضعة أشهر، لأنها كانت تحلم بك ولازالت، فكم من المرات كانت تنادي زوجها باسمك.

لقد شعرت ابنتي بالندم والذنب كما شعرت أنا، مع أنها قد اتصلت بك عدة مرات بعد طلاقها، ولكن رفضت الإجابة، ثم أصابها المرض اللعين لشدة حزنها على فراقك، ولم تعد تطلب من هذه الحياة سوى رؤياك، فأحضر علّها تتماثل للشفاء بلقائك يا ولدي، أرجوك أن تحضر. أعطته عنوان المستشفى ورقم الغرفة ثم وضعت السماعة.

بدأ يدور في غرفته مطرقاً رأسه في الأرض مفكراً، بعد أن شبك يديه خلف ظهره، وتقلبت في ذهنه ذكريات ماضيه بحلوها ومرها. أجل إنها حبه الأول، لكنها انتهت بالفراق والدموع.

هل يذهب على الفور لعل صحتها تتحسن برؤياه، ناسياً جروح الماضي، فاتحاً صفحة جديدة بيضاء معها؟ أم عليه أن يرفض النداء، ويتركها تكتوي بجذوة العذاب التي اصطلى بحرارتها. .؟

خرج من منزله، واستقلّ أول حافلة إلى مدينة أنقرة. حاول النوم للهروب من ذكريات الماضي، ولكنه لم يستطيع، ومضى على هذه الحال حتى بزغت الشمس من خدرها، فبدأ يرقب خيوطها الذهبية وهي ترسلها بكل ثقة وتؤدة.

كان يتابع هذا المشهد الرائع من نافذة الحافلة، وكأنها إشراقة أمل ومستقبل رائع، حقاً إن الصباح بإشراقة شمسه أفضل مثال على الأمل، بعد ليلة قاسية وحالكة. وها قد بدأت معالم المدينة بالظهور رويداً رويداً، وقد مضت أعوام ولم يزرها.

استعاد شريط ذكرياته حتى أعلن معاون السائق وصولهم بالسلامة بعد توقف المحرك عن دويه الذي رافقه طيلة الرحلة.

غادر الباص ليستقل أول سيارة أجرة فراحت تجري في شوارع المدينة، كان يراقب الأبنية وتزدحم في ذهنه الذكريات، وبعد دقائق سمع سائق التاكسي قاطعاً سلسلة أفكاره وذكرياته قائلاً: "وصلنا يا سيدي". فشكره بعد أن دفع له نقوده، ووقف متأملاً المبنى الضخم، ثم دخل بخطى تنطق بالخوف والتردد. وكلما اقترب أكثر، ازداد قلبه وجيباً وخلجاناً.

وقف أمام الباب متوتراً سائلاً نفسه: ماذا سأقول لها عندما تلتقي عيناي بعينيها ؟ هل أسألها عن صحتها وحالها؟. أم أقول لها إنني لا أزال أحبها؟

دخل الغرفة. . اقترب نحو السرير متسائلاً: ولكن لماذا غطوا وجهها؟ بدأت أوصاله وأعضاؤه بالخلجان كلما ازداد قرباً من سريرها، ثم أمسك بطرف الغطاء محاولاً رفعه بيدين واهنتين مرتجفتين كاشفاً عن وجهها، فوجدها قد غطت في سبات عميق، مسدلة رموشها الطويلة على عينيها السوداوين اللتين كان يقرأ فيهما أجمل آيات المرح والسعادة.

تجمدّ في مكانه متأملاً وجهها النحيل الشاحب، بعد أن ذابت كالشمعة المتوهجة، وذبلت كالوردة الحمراء العطشى، ثم بدأ دمع عينيه بالانهمار مبللاً وجنتيها العطشى، متأملاً وجهها الذي أعاده إلى سنوات مضت، حافلة بالذكريات الحلوة والعذبة، وامتدت يده الهزيلة إلى شعرها الأسود علّها تستيقظ مرّحبة به، لكنها لم تفتح عينيها.

رفع رأسها بلطفٍ ودقة ووضعه على صدره علّ الحرارة تدب في جسدها البارد قائلاً: " ملاكي ها قد عدت إليك لنفتح صفحة جديدة ولو أني جئت متأخراً، أرجوك أن تنهضي، وأعلم أنك الآن تسمعيني فافتحي عينيك, كما فتحت لك قلبي وفؤادي.

أدري أن الشوق وطول الانتظار قد أضناك ولكنني الآن جئت لأحلق بك بين الذكريات والأماني، فهيا انهضي يا حبيبتي، لتطببي قلبي الذي صار جريحاً بأنّاتي وآهاتي، ثم سقط مغشياً عليه.

فتح عينيه المبللتين بالدمع متفحصاً ما حوله، فوجد نفسه في سريره وفي بيته، تعجب كثيراً كيف وصل إلى بيته ومن أحضره؟ يا له من حلم، فنهض من فراشه الدافئ ليعيش واقعه بعيداً عن الأحلام التي يشاهدها في منامه أو يتخيلها في خاطره.

بقلم : محمود زين العابدين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى