السبت ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

أنماط الكتابة الروائية في المغرب الشرقي

تمهيــــد:

عندما نتحدث عن الرواية العربية بالمغرب لابد أن نذكر مجموعة من الأعلام الرائدة التي ساهمت في تطوير هذه الرواية دلالة وصياغة ومقصدية، و سنجد أن نسبة كبيرة من هؤلاء الروائيين البارزين الذين اشتهروا داخل الوطن أو خارجه ينحدرون من المنطقة الشرقية أو من المناطق المهمّشة التي تشكل ما كان يسمى في الخطاب الكولونيالي بالمغرب غير النافع. وعندما نتكلم عن الرواية الشرقية فإننا نربط المبدعين بمسقط ولادتهم و بيئتهم المحلية التي عاشوا فيها وأبدعوا من خلالها، ولا يهمنا في هذا الموضوع مكان استقرارهم أو مكان عملهم، بل ما يهمنا هو ضابط الولادة والنشأة وضابط البيئة المحلية. إذاً، ماذا نقصد بالمنطقة الشرقية على المستوى السياسي والإداري؟ وماهي أهم النتائج والمعطيات التي تقدمها لنا الببليوغرافيا الإحصائية حول الرواية في الجهة الشرقية؟ وماهي أنماط الكتابة الروائية في هذه الجهة؟ وماهي أهم مميزاتها الدلالية والفنية؟ تلكم هي الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في دراستنا المتواضعة هاته.

أ- قراءة ببليوغرافية:

شهدت الرواية المغربية في المنطقة الشرقية انتعاشا كبيرا منذ العقود الأخيرة من القرن العشرين وبداية العقد الأول من هذا القرن وذلك على الصعيد الكمي والنوعي. وتضم المنطقة الشرقية ستة أقاليم متباينة في المساحة والساكنة حسب التقسيم الإداري والجهوي الذي تبنته الحكومة وهي: الناظور وبركان ووجدة وجرادة وفجيج وتاوريرت.

هذا، وقد أنتجت المنطقة أكثر من ثلاثة وأربعين (43) نصا روائيا لتسع وعشرين روائيا (29)، معظمهم من إقليم الناظور بنسبة عشر روائيين (10). و يعد الدكتور عبد الله عاصم حسب الببليوغرافيا التي أنجزناها باشتراك مع الببليوغرافي الكبير الدكتور محمد قاسمي أول من كتب نصا روائيا في المنطقة الشرقية وذلك سنة 1966م تحت عنوان "صراع القبائل"، وقد طبعت الرواية لأول مرة بالدار البيضاء، وتبعتها رواية لحميداني حميد سنة 1978م وهي "دهاليز الحبس القديم".

وإذا كانت رواية مصطفى الحسني "ملكة جمال المتوسط" أكبر رواية في الجهة الشرقية بمائتين وأربع وخمسين (254) صفحة من الحجم الكبير، فإن رواية سعدية أسلايلي "الجبال لا تسقط" أكبر رواية من حيث الحجم المتوسط بمائتين وخمس وثمانين (285) صفحة. بيد أن أصغر رواية من حيث الحجم – على حد علمي - هي رواية "مقاتلات أحفير" لعمرو جلول بستين صفحة (60) من الحجم المتوسط.

هذا، ويعد محمد شكري أكثر إنتاجا بخمس روايات وهي: "الخبز الحافي" و"الشطار" و"السوق الداخلي" و"زمن الأخطاء" و"وجوه"، ويليه عمرو والقاضي بأربع روايات وهي: "البرزخ" و"الطائر في العنق" و"رائحة الزمن الميت" و"الجمرة الصدئة".

ولم تعرف الرواية بالجهة الشرقية انطلاقتها إلا مع سنوات التسعين بسبعة عشر (17) نصا روائيا لتبلغ أوجها مع سنوات العقد الأول من الألفية الثالثة بواحد وعشرين (21) نصا روائيا.

ولم تعد مطابع الرباط والدار البيضاء هي الوحيدة التي تسهر على طبع الروايات التي يكتبها مبدعو المنطقة الشرقية، بل تشاركها مطابع المنطقة بنصيب لا يستهان به على مستوى الطبع والنشر وإن كانت عملية الطبع هنا أقل جودة من المطابع الحديثة والمتطورة على الصعيد المركزي. ومن بين هذه المطابع الشرقية نذكر: مطبعة الجسور والنخلة بوجدة، ومطبعة تريفة ببركان، ومطبعة اقرأ بالناظور التي طبعت رواية "جذور الضباب" لميمون الحسني، ومطبعة عكي بميضار التي تولت طبع رواية وريد الموساوي تحت عنوان "الحقيقة المختبئة".

وقد حظيت بعض النصوص الروائية بتقدير وطني وعالمي كبير كرواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري التي ترجمت إلى لغات عالمية عدة، ورواية "يوم الاقتراع" لمحمد بنعلي التي أحرزت على ميدالية ذهبية Vermeil بالأكاديمية الدولية بباريس Lutece خريف سنة 1991م، ورواية "رحلة خارج الطريق السيار" لحميد لحمداني التي أحرزت على جائزة الرواية العربية لسنة 2002م (جائزة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين للإبداع بعمان الأردنية) مع ميدالية ذهبية، ورواية "ألواح خنساسا" (2004م) لبنسامح درويش والتي أحرزت على جائزة ناجي نعمان الأدبية بلبنان سنة 2003م... وتدل هذه الجوائز والميداليات والشواهد التقديرية على مكانة الرواية بالجهة الشرقية وسمو جودتها الفنية وجدتها في طرح القضايا الإنسانية الشائكة والجريئة.

ب- أنماط الكتابة الروائية:

عرفت الرواية المغربية في الجهة الشرقية على مستوى التجنيس والتشكيل النوعي عدة أنماط فنية يمكن إجمالها في الأشكال التالية:

1- الرواية العمالية:

تصور الرواية العمالية معاناة عمال المناجم وصراعهم ضد أرباب وسائل الإنتاج الذين يستغلون عرق المستخدمين ويستنزفون طاقاتهم ويمتصون دمائهم بدون رحمة ولا إنسانية، و يتعرض كل من يصرخ في وجه الظلم والبطش للطرد والتسريح من العمل. كما تجسد هذه الرواية الوضعية المزرية التي يعيشها هؤلاء العمال المحرومون من السكن اللائق والتعليم والضمان الاجتماعي، و يفتقدون كذلك إلى أبسط الحقوق التي تحفظ كرامة الإنسان و أنفته. وهذا الظلم الاجتماعي هو الذي يدفع هؤلاء الشغالين ليخوضوا النضال النقابي ضد المسؤولين قصد الدفاع عن حقوقهم المشروعة وتأمين حياتهم المهددة بالبطالة والأمراض المعدية وبطش المشرفين المتجبرين. وتسمى هذه الرواية كذلك بالرواية السوداء؛ لأن الروائيين يصورون فيها أجواء قاتمة وفضاءات تراجيدية كفضاء جرادة بفحمه الأسود الذي لوث محيط المدينة وسمم أجسام العمال وسعّل صدور أطفالهم. وخير من يمثل هذا النمط من الرواية نذكر محمد بنعلي في روايته "يوم الاقتراع" (1993م)، وجلول قاسمي في روايته الأولى "سيرة للعته والجنون" (2002م)، وسعدية أسلايلي في روايتها "الجبال لا تسقط" التي تتحدث فيها عن نضال عمال منجم الفضة والرصاص بجبل عوام قرية مريرت عمالة خنيفرة.

وقد تأثرت هذه الروايات بأعمال إميل زولا وخاصة روايته الطبيعية الرائعة" جيرمينال"، وعبد الكريم غلاب في روايته "المعلم علي"، ومبارك ربيع في روايته "الريح الشتوية". وتستند هذه الرواية العمالية إلى القالب الكلاسيكي، والإسهاب في ذكر الأحداث والحقائق (الجبال لا تسقط لسعدية أسلايلي)، وتوظيف الامتساخ الساخر في رواية جلول قاسمي.

2- الرواية الرومانسية:

تجسد الرواية الرومانسية في الجهة الشرقية من المغرب مجموعة من العلاقات الغرامية الإنسانية المثالية التي قد تنتهي بجمع الشمل بعد فراق طويل كما حدث لروبيو ولويزة في رواية "ملكة جمال المتوسط" لمصطفى الحسني (2000م)، أو قد تنتهي بالموت كما هو شأن العشيقين سارة وسعيد في رواية "زفاف الجنازة " (2003م) لحميد خيدوس. وتذكرنا هذه الرواية الرومانسية بقصص العذريين وروميو وجولييت وحب أنا كارنينا لتولستوي وبرواية الفضيلة للمنفلوطي. وتتسم هاتان الروايتان بضعف التحبيك الدرامي وسطحية التناول والمعالجة على الرغم من النفس الطويل في السرد لدى مصطفى الحسني وروعة الأسلوب ونصاعته لدى حميد خيدوس.

3- الرواية البيكارسكية:

يقصد بالرواية البيكارسكية رواية الشطار والمنبوذين والصعالكة المشردين الذين رفضهم المجتمع بسبب فقرهم وخمولهم وتقاعسهم عن العمل وانسياقهم وراء غرائزهم الشبقية واستسلامهم للمخدرات وآفة التسكع وفلسفة العبث والتصور البوهيمي. وقد بدأ هذا النمط من الكتابة الروائية مع رواية "الخبز الحافي"(1982م)، و"رواية الشطار" (1992م) لمحمد شكري، وفيهما يرصد الكاتب حياته البوهيمية العابثة ومعاناته الفظيعة من جراء الفقر والجوع والحرمان الذاتي والموضوعي وتفكك الأسرة منتقلا في هجرته التي كان يبحث فيها عن الخبز والشغل والاستقرار من بيئة الريف الجدباء إلى الجزائر، وبعد ذلك إلى تطوان والعرائش وطنجة التي سيستقر فيها بعد أن دخل عالم المدرسة في سن متأخر وتخرج بعد استكمال دراسته مدرسا.

وتظهر هذه الشطارية واضحة في رواية "جذور الضباب" (2006م) لميمون الحسني التي يصور فيها مجموعة من الشطار المنبوذين في بيئة بني سيدال بإقليم الناظور، تلك البيئة التي تعرف بالنشاط الزراعي وتربية المواشي ومناجم الحديد بوكسان. بيد أن الجفاف الذي توالى على هذه المنطقة منذ الحماية الإسبانية وبعد فترة الاستقلال سيدفع ساكنة بني سيدال إلى الهجرة إلى الجزائر ونحو الضفة الأخرى.

وإذا كانت هذه الهجرة قد أسعدت البعض في منطقة بني فكلان، فإن الآخرين قد التصقوا ببيئتهم ولم يحصدوا سوى الفقر والتهميش والإقصاء، وأصبحوا منبوذين مشردين ينظر إليهم نظرات شزراء قوامها الاستهجان والحقد والاحتقار والسخرية. ومن هؤلاء الشطار العاطلين الذين صورتهم الرواية بسوداوية جنائزية: بغداد وشيشحال والهواري...

وتمتاز هذه الرواية البيكارسكية بالطابع الأطوبيوغرافي والواقعية الانتقادية والتأثر بأدب المقامات وأدب الشطار والرواية البيكارسكية الإسبانية.

4- الرواية الأوطبيوغرافية:

ترتكز الرواية الأطوبيوغرافية على السيرة الذاتية في بعديها: الذاتي والتاريخي وتعزف أنغامها على إيقاع التذويت ورصد جدلية الاستبطان الداخلي واستقراء الواقع الموضوعي. ومن ثم، تنقسم هذه الرواية الأطوبيوغرافية إلى عدة أنواع صغرى كالسيرة البكارسكية التي تأثرت بالأدب الإسباني فيمثلها كل من محمد شكري في رواياته "الخبز الحافي" و"الشطار" و"وجوه" (2000م)، والسيرة الذاتية الطفولية كما في رواية "الجمرة الصدئة" (2007م) لعمرو القاضي التي يلتقط فيها لوحات سردية واقعية عن نشأته في بيئة ريفية جبلية أثناء الاحتلال الإسباني حتى استقلال المغرب، وفيها يسترجع طفولته الشقية وذكريات مراهقته الطائشة بعد انتقال الأسرة من سيطولاسار إلى مدينة الناظور ليصور لنا حياته العابثة بين أحضان المدرسة الإسبانية وما كان يصدر عنه في الشارع من سلوكيات غير أخلاقية كالسرقة والاحتيال والهروب من الدراسة ومشاكسة الإسبانيات الجميلات ومعاقرة الخمر والاستسلام لعالم المخدرات. وقد صاغ الكاتب هذه السيرة في قالب روائي كلاسيكي يجمع بين الواقعية والطابع البيكارسكي، وتوظيف كتابة بيانية رائعة في التصوير وتحبيك الأحداث. بيد أن هذه السيرة تفتقر إلى مقوم التوتر الدرامي أو تأزيم العقدة الذي سيؤهلها لتكون سيرة ذاتية حقيقية على غرار "الأيام" لطه حسين و"في الطفولة" (1956م) لعبد المجيد بنجلون.

ونذكر إلى جانب السيرة الطفولية ما يسمى بالسيرة الذهنية أو السيرة الثقافية التي تتكئ على وصف المسار الذاتي البيوغرافي للشخصية المرصودة في علاقته بالأبعاد التربوية والتعليمية والثقافية والفكرية والفنية والأدبية كما هو شأن رواية "أوراق" لعبد الله العروي و"حياتي" لأحمد أمين. ومن بين الروايات التي تندرج في هذه الخانة رواية "حفريات الذاكرة" (1997م) لمحمد عابد الجابري، و"غابة الإشارات" (1999م) لعبد الكريم برشيد والتي يرصد فيها الكاتب حياته الطفولية ومسار أسرته الكبيرة وافتتانه بمدينة أبركان وأجوائها الطبيعية والطقوسية وفضاءاتها المقدسة واستسلامه لعالم المسرح تخييلا وعشقا وممارسة وتفكيرا. ويحدد لنا الكاتب في روايته هاته سياق أعماله المسرحية وحيثياتها الذاتية والموضوعية وذكرياته أثناء تفاعله الوجداني مع أعماله المسرحية التي شكلت حياته الثقافية والفنية.

وقد كتب عبد الكريم برشيد سيرته العاشقة للمسرح بطريقة ركحية سينوغرافية على شكل لوحات درامية متقطعة متضمنة داخليا بين مقطع الاستهلال ومقطع النهاية. ويمسرح الكاتب حياته الذهنية و"يشعرنها" بأسلوب شاعري ممتع. ويعني هذا أن برشيد يتبنى الحداثة في تأطير الحبكة السردية وتشكيلها في لوحات شاعرية رمزية متوترة تجمع بين الواقع الذهني ورومانسية الطبيعة ورمزية المقاصد وسريالية التعبير وتفتيت الذاكرة الاسترجاعية. وينتقل أيضا بين السرد القصصي والكتابة الشعرية البيانية التي تقوم على نصاعة البيان وإشراق العبارة وفصاحة الكلمة وبلاغة الأسلوب.

5- الرواية السياسية:

يمثل عمرو القاضي الرواية السياسية بكتاباته الجريئة التي تتمحور حول جدلية اليسار والسلطة على ضوء رؤية انتقاديه تراجيدية تدين انتهاك حقوق الإنسان ومصادرة حرياته الخاصة والعامة. ومن بين هذه الروايات السياسية "البرزخ" (1996م) و"الطائر في العنق"( 1998م)، و"رائحة الزمن الميت" ( 2000م). ويشخص الكاتب في هذه الروايات مسار تجربة حزب اليسار المغربي وانبثاق النفاق السياسي وتبرجز الانتهازيين و تأرجحهم بين الشعارات الواهمة والتطلعات الزائفة. ويرصد أيضا ظاهرة الاستبداد وسلطة القهر والجور وتصوير القمع وسياسة التنكيل بالمثقفين وخاصة العضويين منهم إبان سنوات الجمر والرصاص.

وتتميز كتابات عمرو والقاضي بالحداثة وتنويع الأساليب والإكثار من المستنسخات والمقتبسات النصية والتجديد في الكتابة السردية والانزياح عن ما هو مألوف في الرواية الكلاسيكية واستثمار نظرية التلقي في استحضار القارئ أثناء انكتاب الرواية واستعمال الفراغ والبياض للتخييل الذهني والتسويد القرائي.

6- الرواية السينمائية:

تعد رواية "صراع القبائل"(1966م) لعبد الله عاصم أول نص روائي بالمنطقة الشرقية، وقد صاغها الكاتب في قالب سينمائي أو ما يسمى بكتابة السيناريو. أي إن الرواية عبارة عن لوحات درامية حركية actions، ولقطات سينمائية كتبت على ضوء تموضع الكاميرا وانتقالها الفيزيائي واعتمادا على المنظور البصري السينمائي أو مايسمى بالتأطير أو"le cadrage". و تصور هذه الرواية السينمائية ذات المنحى التاريخي صراع القبائل الريفية فيما بينها قبل قدوم المحتل الإسباني الذي سيوحدهم جميعا ليشكلوا قوة رادعة ستواجه بكل شراسة التكالب الاستعماري الغاشم.

7- الرواية الرمزية:

يمثل هذا النوع من الرواية المبدع الفجيجي حميد لحمداني صاحب "رحلة خارج الطريق السيار" (2000م)، وهي رواية رمزية حضارية تصور رحلة في صيف قائظ جاف إلى قرية بعيدة عبر ناقلة مهترئة يركب فيها مجموعة من الناس يمثلون بعض فئات المجتمع منهم: السائق وصاحب الناقلة والميكانيكي والمثقف والإعلامي ورجل الدين وخبيرة الزراعة والإرهابي إلى جانب البدويين والقرويين والحصادين والأطفال الصغار. لكن هذه الناقلة القديمة سوف تعرف أعطابا كثيرة أثناء اجتيازها لطرق وعرة غير معبدة خارج الطريق السيار وسط طبيعة جدباء مقفرة ضريها الجفاف المدقع بالموت الأخرس. وسيدفع الحقد عثمان الإرهابي ليفجر الناقلة التي كانت حلم عبدون ومصدر رزق أحميدة ومأساة سالم.

هذا، وتعبر هذه الرواية الحضارية الرمزية عن التسيب والإهمال وتخلف الإنسان العربي وتردي أوضاعه وتنامي ظاهرة الإرهاب و تأجج الصراع بين التقليد والحداثة. كما تعالج الرواية مجموعة من الإشكاليات والقيم المتناقضة الشائكة في الفكر العربي كالأصالة والمعاصرة، والتقدم والتخلف، والعمل والخمول، والجودة والغش، والانغلاق والانفتاح، والتعايش والإرهاب،و التجاذب الصعب بين الانطواء الحضاري والانفتاح على الحداثة والعولمة.

وقد كتبت هذه الرواية بطريقة بوليفونية باختينية تخضع لجمالية التلقي وحداثة السرد ومستجدات النقد السردي المعاصر. وتحتاج هذه الرواية إلى إخراج سينمائي مع تحويلها إلى سيناريو لغلبة الطابع الحركي والبصري على منظور الرواية وقابليتها للتشخيص الركحي والدرامي مع تفادي الحوارات الطويلة عن طريق اختصارها وتكثيفها وتحويل ما هو منولوجي إلى لقطات بصرية ومشاهد حركية.

8- الرواية الواقعية الاجتماعية:

من بين الذين يمثلون الرواية الواقعية بمناحيها الاجتماعية المبدع الناظوري حسين الطاهري في روايته "الرقص على الماء"(2001م) الذي يصور فيها صراع أسرة ريفية مع الطبيعة والواقع الموضوعي من أجل البقاء وإثبات الوجود على الرغم من مجموعة من العوائق التي واجهت أسرة ميمون الرايس وابنه محمود الذي تشبث بالأرض ولم يهاجر على غرار أقرانه الذين اختاروا أرض الغربة ملاذا لهم وتحقيقا لأحلامهم الوردية.

وتصدر الرواية عن رؤية تفاؤلية قوامها التحدي والمواجهة في مقابل رؤية سلبية تقوم على الاستسلام والهروب نحو الضفة الأخرى والمعاناة من الاغتراب الذاتي والمكاني. وتطرح الرواية فكرة الهجرة وتعالجها عن طريق العمل المتعدد الاختصاصات وعرض سلبيات الاغتراب كالتمزق الحضاري والديني والتفكك الأسري.

وسيسهب الروائي مصطفى شعبان في تصوير معاناة مهاجر سري إلى باريس، هاجر بطريقة غير قانونية وغير مشروعة في روايته "أمواج الروح (1998م)". ويقدم الكاتب تجربته المأساوية في قالب الرسائل والمذكرات واليوميات مجسدا إحساسه الرهيب و شدة خوفه من بطش رجال الشرطة وما يفرزه التمييز العنصري من تنكيل بالمهاجرين السريين والشعور بالضغط النفسي الناتج عن الاغتراب الذاتي والمكاني والخوف من شبح الجوع وقسوة البرد و الطرد من العمل.

أما رواية "مقاتلات أحفير" (2005م) لعمرو جلول فتنتقد ماترتكبه سيارات التهريب في مدينة أحفير التي تقع على حدود الجزائر والتي تحصد الكثير من الأرواح البشرية بسبب طيش سائقي هذا النوع من السيارات التي تهرّب البنزين والمخدرات، و لاتملك أي مستند قانوني ولا وثيقة رسمية تحدد هوية السيارة.

وفي المقابل، تعالج هذه الرواية في قالب درامي حكائي بسيط تفكك الأسرة في مدينة أحفير بسبب الانحلال الخلقي وانتشار ظاهرة الفقر والصعلكة الشطارية وانحطاط القيم الأصيلة ورجحان القيم المادية التي تستهدف الإفساد و ترتضي العبث بالآخر ولاسيما الكائن الأنثوي منه، و تصور تفشي الاستهتار الماجن في المجتمع الأحفيري بدون ردع أخلاقي ولا رقيب سلطوي.

9- الرواية الفانطاستيكية:

تصور رواية "الجرذان" (1999م) ليحي بزغود جزيرة بشرية فيها مخلوقات( القضاة والأئمة والعلماء وضباط الشرطة والمرابين ومسؤولو الإدارات ومكاتب الدولة...) تتحول إلى جرذان وفئران بالليل، وبشر بالنهار. وتعبث هذه الكائنات الغريبة في أرزاق الناس فسادا واستغلالا. وفي الأخير، ستلقى هذه الكائنات الممسوخة عقابها على يد الرجال الثلاثة الذين عملوا على تنقية الجزيرة من أشرارها وطغاتها وبغاتها، وأعادوا بناءها من جديد على أساس الفضيلة وتحكيم العقل وإحقاق حقوق الإنسان والحد من الرذيلة ومحاربة القيم الدنيئة وتعويضها بالمبادئ الأصيلة.

10- الرواية الأسطورية:

إذا كان نص "الجرذان" ليحي بزغود يشتغل على المكون الفانطاستيكي والتخييل العجائبي، فإن نص "طوق السراب" (2001م) للكاتب نفسه يعتمد على المكون الميتولوجي أو التخييل الأسطوري قصد نقد الواقع المتعفن الذي يعيش فيه الإنسان العربي بصفة عامة والمغربي بصفة خاصة. أي تنتقد الرواية الفكر الخرافي الأسطوري الذي تعشش في عقول الناس وضمائرهم الفارغة وانتشر بين أوساط الكثير من الناس السذج والأميين الذين يستغلهم الشطار المحتالون باسم الدين والشعوذة والسحر.
وعليه، فرواية "طوق السراب" رواية أسطورية على غرار رواية "بدر زمانه" لمبارك ربيع تشتغل على مكون التخريف والأسطرة لإدانة واقع العرب وانتقاد قيمه المتصدعة وسذاجة الإنسان العربي المستلبة وتسجيل وعيه المغلوط الذي يستلزم التغيير الجذري بتعويضه بواقع الوعي الجدلي الديناميكي المبني على العقل واحترام العلم وتبني قيم الحداثة والنقد والبناء الديمقراطي والوحدة الحقيقية.

11- الرواية المناقـبية:

تصدر رواية "روح الجنوب" ( 1996م) لمحمد الأشعري عن رؤية روحية مناقبية صوفية في شكل تذكر استرجاعي يصور رحلة آل فرسيوي من منطقة الريف إلى مدينة زرهون بحثا عن الاستقرار والعيش الآمن المطمئن. ومن ثم، تركز الرواية على تاريخ هذه السلالة وأسباب مجيئها إلى زرهون ووضعيتها الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية في هذه المنطقة الروحية. ويتجمع آل فرسيوي في دواوير بومندرة التي تبدو كأنها رباطات صوفية وزوايا ومساجد قرآنية. وفي نفس الوقت نجد هذه الدواوير تعج بالتناقضات الصارخة، حيث يجتمع فيها التقوى وحب الله والتصوف والعبادة إلى جانب الخرافة والشعوذة وممارسة الحرام. إنها فضاءات القيم المزدوجة والمقنعة التي تؤدي إلى الموت والفقدان وقطع جذور السلالة وانمحائها على مر السنين والعصور.

12- الرواية الشاعرية:

تندرج رواية "مدارج الهبوط" (2005م) لجلول قاسمي ضمن الرواية الشاعرية التي تزاوج بين المحكي السردي والإيقاع الشاعري بمفهوم إيف تادييه Yves Tadiéعلى غرار رواية "أرني كيف أمسك القمر" (2001م) لميمون ج. الكبداني. وتحمل هذه الرواية رؤية انتقاديه ساخرة لوضعية الإنسان في مغرب الاستقلال الذي صادر حقوق المواطنين المناضلين باسم القهر والاستبداد والتسلط، كما يسخر النص من الاتجاهات السياسية الحاكمة التي تعولمت وتغولمت وخانت شعاراتها ومبادئها ليحقق أصحابها مصالحهم البرجماتية ومآربهم الشخصية أو الحزبية على حساب كرامة المواطن وعيشه الكريم.

ومن الناحية الفنية، فهي رواية جديدة قائمة على السرد الشاعري وتداخل الأزمنة وتعدد الرؤى السردية والأصوات المتصارعة واللجوء إلى تنويع الضمائر والأساليب المهجنة ولاسيما المحكي المسرّد واللجوء إلى الروائية وفضح تقنيات الكتابة السردية على غرار "لعبة النسيان" لمحمد برادة و"رحيل البحر" لمحمد عز الدين التازي...

13- الرواية النسائية:

وإذا انتقلنا إلى الرواية النسائية في الجهة الشرقية فتمثلها حليمة الإسماعيلي من مدينة جرادة بنصها الروائي "أغنية لذاكرة متعبة" (2004م) والتي تثور فيها على الذكورة والفحولة المتغطرسة، وتدعو إلى استقلالية المرأة وقدسية الحب الرومانسي المبني على الاحترام والتفاهم المتبادل، وفي نفس الوقت تدافع عن حقوق المرأة وتدخل في صراع مع الرجل الغني المتخلف الذي يستهين بالوجود الداخلي للمرأة وينظر إليها بمثابة متاع ساقط أو جسد شبقي، وفي نفس الوقت تقع فريسة حب تكنه لكاتب صحفي مناضل تواجهه مشاكل الحياة الصعبة.

وقد صيغت الرواية فنيا بطريقة شاعرية ممتعة قائمة على التذويت والاستبطان واستقراء الذاكرة بروح سريالية حلمية تتأرجح بين الواقع واللاواقع.

ونستحضر كذلك رواية سعدية أسلايلي من مدينة وجدة "الجبال لا تسقط" ( 2006م)، والتي ترصد الكاتبة فيها تجربتها الذاتية عبر معاناتها المريرة من جراء طيش بعض المتعلمين المتنطعين الذين ثاروا في وجه أساتذتهم مستخدمين كل أنواع الأسلحة العاتية لمحاصرتهم داخل إعدادية تربوية حتى ينفذوا ما يطلبه هؤلاء الخاملون من نقط تؤهلهم للنجاح والفوز في الامتحان.

وتعكس الرواية كذلك تجربة الكاتبة الذاتية والعاطفية أثناء دخولها في علاقة طائشة ومتهورة مع الدكتور فهد أستاذ علم الاجتماع لتصحو في الأخير على إيقاع الممانعة والتصدي والحفاظ على ميثاق الشرف الأبوي الذي يسيج لاشعورها وأناها العلوي ورفضها لمنطق الاستغلال الذكوري وتعويض ماهو ذاتي ووجداني عاطفي بالنضال النقابي والوقوف مع عمال مناجم الرصاص والفضة حتى النصر المحقق، والاستسلام في الأخير لغريزة الحب وجمع الشمل مع عشيقها فهد.

ج- مميزات الرواية في الجهة الشرقية:

1- المميزات الدلالية:

تعبر الرواية المغربية في الجهة الشرقية عن قضايا جهوية محلية وقضايا وطنية وقومية تشترك فيها هذه الرواية مع الرواية المغربية والرواية العربية بصفة عامة. بيد أن من أهم خصوصيات هذه الرواية تعبيرها عن البيئة الريفية والشرقية على حد سواء،ورصد مقاومة الريفيين للمستعمر وتصوير الصراع القبلي داخل البيئة الريفية السائبة، وتصوير ظاهرة الهجرة بكل أنواعها وسياقاتها الذاتية والموضوعية، واستقراء ظاهرة الشطارة والصعلكة البيكارسكية الناتجة عن البطالة والاغتراب الذاتي والمكاني ناهيك عن تجسيد ظاهرة التهريب الحدودي في قالب درامي تراجيدي. كما نقلت لنا هذه الرواية الصراع العمالي والنقابي بسبب وجود بعض المناجم في المنطقة الشرقية كمنجم الفحم بجرادة ومنجم الحديد بوكسان وأفرا. ونلاحظ كذلك في هذه الرواية قضية التشبث بالأرض والتغني بالهوية الأمازيغية وتصوير الإحساس بالتهميش والإقصاء داخل المغرب غير النافع مع التنديد بمصادرة حقوق الإنسان في عهد الحكم الأفقيري وسنوات الجمر والرصاص.

2 – المميزات الفنية:

جربت الرواية المغربية في الجهة الشرقية عدة أشكال فنية منتقلة من القالب الكلاسيكي إلى القالب الحداثي وقالب ما بعد الحداثة مستفيدة من الخطاب البيكارسكي والخطاب الفانطاستيكي والخطاب الأسطوري والخطاب المناقبي والخطاب الشاعري والخطاب الذهني علاوة على الاستفادة من مستجدات النقد السردي المعاصر ونظريات التلقي و مفاهيم القراءة الجمالية. كما طعّمت النصوص الروائية بمستنسخات مناصية ومقتبسات نصية حبلى بالدلالات المناصية والحمولات المرجعية.

وتأرجحت الكتابة بين التشخيص الذاتي والتشخيص الموضوعي الواقعي مع تجريب البوليفونية والكتابة الشاعرية التي يتقاطع فيها المحكي السردي مع المحكي الشاعري، و تجريب تقنية التوليد والإنسال وتشغيل الروائية والتوازي الحكائي وتنويع الكتابة البصرية ذات المؤشر الأيقوني مع تنويع الرؤى السردية والإكثار من الرواة والسراد والتنويع في الأساليب والسجلات اللغوية مع الاستفادة من اللغتين: الإسبانية والأمازيغية كما عند محمد شكري وعمر والقاضي وميمون الحسني وحسين الطاهري ومحمد الأشعري...

خاتمة:

تلكم هي أهم مميزات الرواية المغربية في الجهة الشرقية وأهم أنماطها التجنسيسة دلاليا وفنيا، وتلكم كذلك أهم معطياتها الببليوغرافية، وأهم مساراتها الفنية والنوعية. ولابد أن نقول في الأخير بأن الرواية في الجهة الشرقية كانت تعبيرا حقيقيا و لسانا صادقا ومرآة أمينة في تصوير الواقع المحلي بصفة خاصة والواقع المغربي والعربي بصفة عامة على جميع الأصعدة والمستويات.

ونأمل بكل صدق أن يكون لهذه الرواية مستقبل كبير في الساحة الثقافية الوطنية والعربية مع انتشار ظاهرة الطبع والنشر الورقي والرقمي وانتعاش الثقافة في الجهة الشرقية وظهور جيل جديد متعطش إلى القراءة وعاشق للإبداع والكتابة السردية والروائية. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في سياق التقسيم الإداري والجهوي الجديد الذي تبنته الحكومة المغربية هو أين يمكن موقعة الإنتاج الروائي الذي يصدر عن الروائيين بإقليم الحسيمة، لأنهم بدورهم يصورون البيئة الريفية ويعالجون نفس القضايا والإشكاليات التي يهتم بطرحها مبدعو المنطقة الشرقية في كتاباتهم وإنتاجاتهم الروائية؟!


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى