الخميس ٣ أيار (مايو) ٢٠٠٧
البوتقة
بقلم حبيب فارس

دراسة حول مسرحية آرثر مِيلَرْ الخالدة

كتب الكاتب الأميركي المعروف أرثر ميلر (1915 - 2005) مسرحيته الكلاسيكية "البوتقة" في عام 1953. المسرحية سياسية – اجتماعية، استندت الى الأحداث التاريخية لما يعرف بـ"محاكم السَحَرَة" التي حصلت في بلدة "سالم" في ماساتشوستس عامي 1692 – 3 م. وقد استوحى ميلرالحملة التَطهُرية لغلاة أصولييّ تلك الحقبة ، والتي ذهب ضحيّتها عشرات المواطنين، إمّا شنقاّ أو كبساّ تحت الحجارة، كي يوجِّه رسالة صارخة لأرباب ما بات يُعرف بالحقبة المكارثيه في الولايات المتّحدة الأميركيّة والعالم الرأسمالي قاطبة، ضد الحريات والحقوق المدنية، باسم مكافحة الشيوعيه، في منتصف القرن العشرين. وتعتبر "البوتقة" من الأعمال اللازمنية – اللامكانية لأن موضوعها الرئيسي الذي يركّز على دور الضمير الإنساني ، لا يتصل بالحقبة الماكرثيّة وحسب، بل ويتجاوزها ليطال كل العصور والأمكنة، بما فيها عصرنا وعالمنا الرّاهنان . فبين محاكم التفتيش ومحاكم الساحرات ومحاكم الماكارثية وصولاً إلى محاكم الإرهاب في وقتنا الّراهن، هناك عشرات وربما مئات من المحاكم تحت مسمّيات أخرى جرت ولا تزال في أنحاء شتى من العالم. والجامع المشترك بينها واحد وهو " أنت مجرم حتى تثبت براءتك". لكنّ "بوتقة" ميلر ذهبت الى أبعد من هذا الإستنتاج ، حيث أن جميع حجج وشواهد البراءة يمكن ألاّ تصمد بوجه الطغيان ، وإن حصل وغفر عن الضحية ، فستبقى التهمة الجائرة تطارد حرّيتها، سمعتها، كرامتها ومعيشتها وصولاً الى القبر. لقد استطاع ميلر من خلال بناء ولغة المسرحية، إيصال الفكرة الرئيسية لـ"البوتقة" وأفكارها الفرعية بذكاء وبراعة خارقتين، لتشكّل إحدى روائع الأدب الإنكليزي التي تركت بصماتها على مجمل الحياة السياسية – الإجتماعية – الثقافية في الولايات المتحدة الأميركية والغرب عامة.

في أحداث "البوتقة" نقرأ الكثير من أوجه الشّبه مع أحداث المكارثية ورموزها وشخصياتها رغم تباعد الحقبتين. وتُنسب المكارثية إلى باعثها وقائدها السناتور جوزيف ماكارثي الذي أثار حملة هستيرية ضد الشيوعية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مستخدماً ما عرف بـ "لجنة التحقيق في النشاطات اللاأميركية" كأداة لملاحقة نخبة المجتمع الأميركي بتهمة الشيوعية، تلك الحملة التي طالت عدداً كبيراً من المثقفين والمبدعين وغيرهم من الشخصيات المرموقة بما فيها موظفين يحتلون مناصب رفيعة في الإدارة، خاصة في وزارة الخارجية ممن أتّهموا حينها بالتعاطف مع الثورة الشيوعية في الصين . ولقد كان آرثر ميلر نفسه إحدى ضحايا الماكارثية، حيث اتهم بالشيوعية واستدعي أكثر من مرّة للتحقيق والشهادة ضد عدد من الكتاب والفنانين، الاّ أنه رفض ذلك مصرّا على موقفه الجريء في التصدّي لمزاعم المحققين.

و"البوتقة" هي عبارة عن إعادة كتابة تاريخ أحداث "سالم" بطريقة دراماتيكية مثيرة، مركّزة على الأعمال الوحشية التي ارتكبها "البيوريتانيون" ضد المواطنين الأبرياء، خلال" محاكم السحرة" بحجة الدّفاع عن النقاوة الدّينية والتي لم ينجو منها حتى العديد من المتدينين أنفسهم. تبدأ أحداث بلدة "سالم" على إثر انتشار نبأ مفاده أن مجموعة من المراهقات قد أقمن حفلة رقص إباحية في الغابة المجاورة للبلدة، بما فيهن إبنة قسْ البلدة وإبنة أخته وخادمته. ولإتّقاء شرّ العقاب، تبدأ الفتيات بإلقاء التبعة على النّساء الساحرات في البلدة، بأساليب متقنة من النفاق والصّخب والشعوذة، لتمتد فيما بعد إلى الرّجال، بما يخلق جواً هستيرياً بين المواطنين، يدفع غالبيتهم وفي محاولات للتبرؤ من التهمة إلى إتهام الآخرين، حيث نشهد سلسلة لا حصرلها من تصفية الحسابات القديمة بما فيها ما يتعلّق بالملكيّة والحدود والسعي إلى النفوذ وتحقيق أهداف شخصية وإيديولوجيّة مبيّتة. هذه الأحداث التي تفجّر لدى العديد من المواطنين مشاعر دفينة من البغض، الجشع، الحسد والأنانيّة، تكشف، بحد ذاتها هشاشة الإيمان الديني الذي كان يسود البلدة قبل نكبتها اللاّحقة. ولقد أسفرت محاكمات "سالم" عن إعتقال ما يزيد عن مئة شخص، أعدم منهم عشرون وتوفي العديد داخل السجن بانتظار المحاكمه.

يعتبر دور ضمير الفرد بمثابة إحدى المواضيع الرئيسية لمسرحية "البوتقة"، ويرتبط بهذا الموضوع مباشرة موضوع فرعي يتعلّق بالهوية الشخصية للفرد. ويقول ملر بهذا الصدد: "هناك شيء في كل إنسان لا يمكن أن يتخلّى عنه... إذا تخلّى عنه فسيتحوّل إلى إنسان آخر، غير نفسه". وفي المسرحية يؤكد هذه المقولة من خلال كل من جون بروكتر، جايلز كوري وريبيكا نارْس، الذين فضّلوا التّخلي عن حياتهم بدلاً من التّخلي عن أشياء يعتبرونها أهمّ منها. وهذا الأمر يتجلّى أكثر في موقف بطل المسرحية، بروكتر حيث صرخ في نهاية محاكمته بوجه القضاة الذين خيّروه بين الموت أو نشر إعترافه بعلاقته بالشيطان: "قولوا أي شيء، لكن إسمي لا يُمْكِنكُم...". ومن المواضيع الرئيسيةالأخرى التي تعالجها المسرحيّة هو موضوع النزاع مع السلطة. وفي شرحه الذي تضمّنه الفصل الأوّل من المسرحيّة، كتب ميلرالآتي: "لقد كان اصطياد السحرة بمثابة إعلان واضح عن الذعرالذي أرسي بين كل الطبقات عندما بدأ الميزان يميل لصالح حريّات فرديّة أكبر".

إلى ذلك، هناك جملة من المواضيع الهامة الأخرى التي تطرحها المسرحية أهمها دور عامل الرعب حيث أن "الرّعب يشل الفكر" والهستيريا الجماعية "حيث تتلاشى الأعراف ويتصرّف الأفراد بدون تفكير وعقلانية" كما يؤكّد ل. سميث. ومنها أيضاً دور الدين في حياة الناس، مثالاً على ذلك قول رابيكا نارْس لـ "بروكتر" :"لا تخَفْ من شيء! فهناك محاكمة أخرى بانتظارنا"، الطمع (دور السيد بوتنام)، الإنتقام (دور السيد والسيدة بوتنام)، العاطفة (دور أبيغايل)،السلطة في دورالأسقف باريس الذي يعلن: "لا يجب أن يُقفز بخفّة عن دور الكاهن ومعارضته"، المؤامرة حيث يدّعي القاضي دانفورث بأن "هناك مؤامرة تحاك للإطاحة بالمسيح في هذه البلاد" والنظام القضائي حيث يتساءل دانفورث نفسه "السحر هو جريمة غير مرئية، أليس كذلك؟". كل هذه المواضيع لا تنحصر بزمن أو مكان.

يمثل جون بروكتر، الشخصيّة الرئيسية في المسرحية دور الرجل المتمرّد المحترم والمناضل من أجل الحريّة في زمنه، ولقد وصفه ميلر بأنّه الرجل "المحترم والمهيب أيضاً في ’سالم‘". عموماً، إنه يدافع عما يؤمن به، يعتني بعائلته، لا يذهب دورياً إلى الكنيسة كما يفعل الآخرون، لا يؤمن بالسحر، وهو اعترف بارتكابه للـ "خطايا" فقط من اجل الدفاع عن الأبرياء ، وأخيرا فضّل ان يموت بدلاً من ان يفقد سمعته.

لقد بنى ميلرمسرحيته جامعاً بين عرَضِيَّة واستمراريّة الدراما. فهي تتألّف من أربعة فصول تحصل في أماكن مختلفة في بلدة "سالم". الفصل الأول يأخذ مكانه في منزل الكاهن باريس ويقدّم بعض الأحداث السالفة التي لم يتضمّنها السيناريو الفعلي، مثل الرقص في الغابة وعلاقة بروكتر – أبيغايل العاطفية. كذلك يعرض لنا أول دفعة من تهم السحر ضد مجموعة من نساء "سالم". الفصل الثاني يتمّ في مزرعة جون بروكتر،وهناك تكشف ماري وارن أن عدداً آخر قد تم اتهامهم بالسحر، ويتم أيضاً إعتقال إليزابيث بروكتر، زوجة جون، بتهمة حيازتها على دُمية إدّعت أبيغايل أنها تسببت لها بالأذى. وتدور أحداث الفصل الثالث داخل المحكمة، حيث يدخل جايلز كوري محاولا رفع التهمة عن زوجته، فإذا به يُدان نفسه. وهناك أيضاً يدخل جون بروكتر لفضح إدّعاءات أبيغايل، فينتهي معترفا بعلاقته بها ثم يدان بعد أن سمّته ماري وارن بأنه رجل الشيطان. في نهاية هذا الفصل يفضح الخبير بشؤون السحر،الكاهن هايل المحكمة معلناً بأن العدالة لم تتحقق. أما الفصل الرابع والأخير، فتدور أحداثه داخل السجن، حيث يرفض جون بروكتر تعليق إعترافه الموقّع على باب الكنيسة ويختارالإعدام عوضاً عن التفريط بسمعته الحسنة. من اللافت في الفصلين الثالث والرابع للمسرحيّة الدور الفاشستي الذي يلعبه نائب الحاكم الذي هو القاضي الأعلى للمحكمة، دانفورث، حيث أعلن بالفم الملآن "على المرء أن يكون مع هذه المحكمة أو يُعتبر حُكماً ضدها". وفي مكان آخر يعلن بكل فظاظة ووحشية "سوف أشنق عشرات الآلاف ممن يتجرّؤوا على الوقوف ضد القانون".

من الميزات التقنيّة الرائعة للـ "البوتقة" أن ميلر قام ببناء ذروة داخل كل فصل من فصول المسرحيّة بالإضافة الى ذروتها النهائية، حيث أن كل فصل يبدأ برقة ليبلغ بشكل بطيء وتدريجي نقطة التوتّر وبالتالي الذروة، انتهاءً بذروة المسرحية ككلّ. ونشهد في الفصل الثالث قمّة الذروات - إذا جاز التعبير- حين يقف جون بروكتر مدافعاً عن نفسه معلناً "الله مات" ثم يتابع "إنكم تسقطون الجنّة وترفعون إلى السماء عاهرة!". ومن التقنيات التي اعتمدها ميلر هي كتابة تعليقاته وتوجيهاته في مقدمات الفصول وخلالها بما هي ضرورة لفهم الموضوعات التي تطرحها المسرحية وتسهيل إخراجها، وهذه التقنية غير مألوفة في أعمال مشابهة لجهة دقة تفاصيلها وطولها واستطرادها والتي تعبّر عن فلسفته وتوجّه القارىء نحو ما هو مهمّ. إن جمهور مشاهدي المسرحيّة لا يعرف هذا الأمر لكنّه سيكتشف فاعليته عندما يقرؤها.

وفي كتابته لمسرحية تاريخية خلق ميلر لغة خاصّة تبدو سليمة من الناحية التاريخية لإعطاء هذه الميزة. وكما يشير ملر فإن العاملين الأساسيين في حياة مواطني "سالم" هما الأرض والدين. لذا فقد قام بدمج لغة إنجيل الملك جايمس "لم يعطني الرب القوة التي أعطاها ليشوع لكي أوقف هذه الشمس عن الشروق" ولهجة شبيهة بلهجة "يورك شاير ". إلى ذلك فهو يستخدم العديد من التعابير المتعلقة بالأرض والحيوانات "لديّ ست مئة أيكر إلى بالإضافة إلىالأخشاب". كذلك فقد اجتهد في توظيف أشكال الصرف والنحو بإتقان مستخدماً بشكل لافت النفي المزدوج مثل " لم أفعل لا شيء من ذلك". كذلك فهو قد طعّم لغته بمسحات شعرية متعددة مثل"عدالتك تجمّد البيرة". كما ذهب بعيداً بعض الأحيان في استخدامه عبارات "مُلوّنة" مثل "ضُراط على توماس بوتنام!".

لكن التقنية الأساسية التي استخدمها ميلر في "البوتقة" تتجلّى بشكل واضح في الرمزية. فهو لم يكتب المسرحية ككل بأسلوب يرمز الى الماكارثية وحسب ، بل ولقد استخدم هذه الرمزية أيضاً في كل الموضوعات والحبكات الفرعية للمسرحية مثل الهستيريا ضد السحرة وكيفية اداء محكمة سالم مقارنة مع هستيريا معاداة الشيوعية وتحقيقات "لجنة التحقيق في النشاطات اللاأميركية". كما استخدم أدوار أبطاله مثل جون بروكتر، أبيغايل وليامز والقاضي دانفورث كردائف لشخصيات من الحقبة المكارثرية كشخصية الكاتب نفسه وأولئك المستفيدين من المكارثية و شخصية السناتور مكارثي، على التوالي. فميِلر نفسه لم يُقتل مثل بروكتر لكنّه اتخذ مواقفاً شجاعة مثله للدفاع عن سمعته التي مع ذلك تشوّهت نسبياً. العديد من المكارثيين، مثل أبيغايل خانوا أصدقاءهم وزملاءهم. أما دانفورث فيقابل ماكارثي الذي استخدم نفوذه وهواجسه السلبية لإيذاء الناس الأبرياء.

إضافة لذلك فإن ملر قد جسّد بذكاء خارق ذروة رمزيته من خلال عنوان المسرحية نفسه "البوتقة". فالبوتقة تعني فيما تعنيه،وعاءً طينياً يستخدم لتذويب المعادن. إنه عنوان مثالي لأنه أصليّ وفي الوقت نفسه يرمز الى العديد من التعابير بما فيها التَطهُر، الحرارة، الجحيم، نوعية جديدة، القساوة، الإختبار والتحويل. وبالإمكان إيجاد كلّ هذه التعابيرفي أحداث بلدة "سالم"، بما في ذلك حرارة الأجواء الهستيرية السائدة التي دفعت الى تغيير شخصيات مثل جون بروكتر، أبيغايل وليامز وماري وارن بالرغم من الإختلاف بوجهة هذه التغييرات. لكن اهمّ تغيير أحدثته محاكم السحرة هو التغييرالأبدي لبلدة "سالم" كنتيجة لتلك التهم الجائرة وبالتالي النتائج البشعة للمحاكمات.

يبقى من المفيد الإشارة إلى استشهادين مهمّين حول عمل ميلر الخالد، مسرحية "البوتقة". الأول هو ما قالته الكاتبة الصينية المعروفة نيان تشنغ للمؤلّف: "من الصّعب التصديق أن شخصاً غير صيني لم يعش تجربة الثورة الثقافية- قد كتب هذه المسرحية". أما الإستشهاد الثاني فهو لـميِلرْ نفسه إذ يقول "يبدأ عرضها أينما كان هناك إنقلاب سياسي على وشك الحدوث، أو نظاماً دكتاتورياً قد أسقط حديثاً". وهنا يجوزالتساؤل متى سيعاد عرض "البوتقة" في "غوانتانامو باي" بعد تحرير "سحَرَتِها" وتحريرها من" البيوريتانيين" الجدد، متى ستعرض في واشنطن وتل أبيب ومتى ستعرض على خشبات العواصم العربية ؟

مراجع

 بّارّي، ت ، محاكم سحرة سالم
mt.escortment.com/salemwitchcraft_rdhw.htm

 بريسَتْ.بّ

- البوتقة، آرثر ميلر، يورك نوتس، لانغستون،د. ووُلكر،م.
يورك بريس، لندن.

 تشيدت،ج،
كليفس نوتس، وايلي بابليشن، إنك، نيو يورك.

 جيران ضد جيران ، هاتّون ، دبليو
http://www.voicesweb.org/voices/ae/crucible1201.html

 ميلر، آرثر ، انسايكلوبيديا بريتانيكا، "لماذا كتبتُ’البوتقة‘"
أو نيويوركر.كوم/أرشيف/محتويات www.britannica.com

 وكنسون،س، وأوجومو،أ
observer.guardisn.co.uk/review/story/ 0, 6903, 1411526, 00.html


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى