الأحد ٦ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم محــمد أنـقار

هــديـة

ملت على أذنها وهمست بكلمات قصيرة برقت لها عيناها وافترت شفتاها عن ابتسامة عذبة. لم نكن وحدنا في الركن الأيمن من المقصف الفسيح حيث المرح وصخب الأحاديث وحيوية الموسيقى الشابة. ولكي لا أشبع فضول الجماعة المحتفية بعيد ميلادي سرقت بضع ثوان بثثت خلالها لأنيسة مدى غبطتي في هذه اللحظة السعيدة ثم انصرفت عنها باشا نحو كتلة الهرج.

أضاءت مظاهر الاحتفال ركن القاعة الذي هيأه لنا صاحب المقصف فمد أربع طاولات غطاها بإزار أخضر فاتح وأحاطها بكراسي بيضاء. ثم تطوعت الجماعة لتتابع التنظيم وتضع فوق الطاولات الكؤوس وقناني المشروبات الغازية والمياه المعدنية. وبين كل ذلك استقرت الكعكة بشموعها النحيلة المتباينة الألوان كأنها تنافسني مركز صدارة الحفل. ولم أدر من كانت تلك اليد اللطيفة التي نثرت على الإزار زهرات قرنفل بلونيه الفاقع والباهت.

تعرفت إلى أنيسة منذ طفولتنا الأولى في الحي العالي الموسوم بـ "دارمورسيا". في هوائه الطلق زها جسدانا، وذهبنا معا إلى المدرسة. أثارنا العلو وغربة أشجار "غرّابو" وعبث الصبا ونحن نحمل العجين جماعة إلى الفرن، ثم ونحن نرجع به وهو خبز، فنمعن في مطاردة بعـضنا فتتدحرج دوائر الخبز في المنحدر، فنسرع إلى التقاطها مخافة أن تتسخ فيكون عقابنا. أهواء بهيجة تعاورت علينا فجعلتنا ننسى حالتنا الاجتماعية المتواضعة ونذوب في عـوالم النكتة والقهقهة. ثم فرقتنا المرحلة الثانوية فقلت فرص الرؤية من دون أن تنقطع، إلى أن جمعتنا من جديد السنة الأولى من كلية الآداب، فاشتهرنا بالوصول المتأخر إلى المحاضرات، وفضلنا الكراسي الخلفية للمدرجات، وزادتنا حبا في الحياة تلك الحرية الفريدة التي دغدغت أعماقنا في رحاب الكلية المترامية الأطراف. وخلال أيام الاستعداد للامتحانات كنا نلتقي في حديقة الكلية أو في قاعة المكتبة أو على الشاطئ؛ نحفظ ونتحاور مع زملاء آخرين كانت من بينهم حورية القليلة الكلام،ونخوض في كل شيئ، هيآت الأساتذة وثقل الدروس وتناقضات المجتمع. وبين الحين والحين أستطرد في حديثي من الهموم العظيمة للكرة الأرضية إلى أشياء شخصية صغيرة كمعاناتي مع الخط وأقلام الكتابة.ومرت السنوات الثلات كلمح البرق،عرفنا خلالها النجاح أنا وأنيسة وحورية وطائفة أخرى من الطلبة المقربين. وأثناء ذلك اشتهرت بترددي الذي ترسخ في داخلتي بسبب خوفي من الاختبارات والأساتذة والمقررات. لكني كنت أحاول توطيد النفس بالقراءة عن طريق القلم. ولقد عرف عني الطلبة ذلك وأصبحوا قادرين على تمييز نسخ الدواوين والروايات وكتب المقررات التي قرأتها من خلال شكلي لحروفها والتنصيص على ذلك بالضغط الشديد. «من هنا مر عبد القادر«، هكذا كانوا يقولون.وكنت أجد في ذلك متعة عظيمة تعوضني المتع التي أفتقر إليها في البيت وخارجه. كما اشتهرت باستطرادي إلى الحديث عن الأقلام كلما اقتربت عسرة الامتحانات.وتعود الزملاء مني هذا الاستطراد وتبرمي مما لدي من أقلام البك والفوتر والكاريوكا وحتى المداد الرخيص. كنت أنساق مع هذا الموضوع الحميم فيصرفوني عنه إلى أمور أخرى أشد حرارة وألصق بمرارة الحياة. ومرة وُفقت في أن أجعل نفسي مركز كلام الجماعة فقلت لهم بحماس زائد:

«- أعطوني قلم حبر مـن الـنوع الجيد مثل الذي توقع به الشخصيات اللامعة أتنازل لكم عن نصيبي من الدنيا».

وردّ علي أحدهم بهدوء ماكر:

«- ومن المحظوظ الذي ترشحه من بيننا ليفوز بالنصيب الجميل؟».

وأشعت الابتسامات فوق الشفاه، واتجهت العيون نحو أنيسة.

حلمت منذ طفولتي بقلم مداد من النوع الفاخر في مستوى باركر أو شيفر أو واطرمان. كانت الأحلام قوية تجعلني أتجاوز الوضعية المادية البئيسة لأسرتي وتُخيل إلي أنني أمتلك حقيقة الأشياء التي أحلم بها. فعندما كنت أختلي في منعطف من منعطفات "دار مورسيا" يصبح القلم حقيقة، وتصبح الفتاة كائنا مجسدا في الأعماق، وتصبح الوظيفة رتبة متحققة. كم تخيلت أنني نجحت في الامتحان وحصلت على نقط عالية أتاحت لي المشاركة في طلب منحة السلك الثالث، وأغرتني بتجريب حـظي في مبارتي المركز التربوي الجهـوي، والمدرسة العليا للأساتذة ثم التقدم بعد ذلك لخطبة أنيسة التي أعربت لها مرارا عن تخيـلاتي فقابلتها ببشاشتها المعهودة. كانت فتاة شديدة الميل إلى الأمور الواقعية، تنشط وتحفظ الدروس بنهم، من دون أن توجع دماغها بتفاهات تحسين الخط أو تبالي بهوسي الدائم من احتمال أن تكـون نتائجي غير الباهرة راجعة بالأساس إلى ارتباك خطي المرتبط بالأقلام الرديئة.

وأعادني تدافـع الجماعة إلى الواقع المضىء كما تعشقه أنيسة. وخـلال الصخب وبهرجة الألوان بدا كـأن حـورية تمثل المخلوق الرزين الذي يراقـب كل شـيء ويعاين في صمت الحركات والإيماءات والخلجات السرية. لذلك كنت متأكدا من أن مشهد الهمس في أذن أنيسة لم يمر من دون انتباهها وإن أفلحت في إبداء لامبالاتها. إن صحبتها لأنيسة في مثل هذه المواقف علمتها إتقان دور اللامبالية.

نسي الأشقاء مؤقتا شبح الامتحانات المتربص بنا فطلبوا الانطلاق في هذه المناسبة المسروقة التي اقتسموا مصاريفها فيما بينهم. ثم بدرت منهم خطوة تلقائية هبوا في إثرها واقفين فتهافتوا على فتح القنينات. كنت أتصدّر الجماعة التي أحاطت بي وهي تغني في نشوة:

« - سنة حلوة ياجميل....».

ثم أحسست بالأيدي تدفعني من أكثر من جهة لكي أنفخ بقوة حتى أطفىء الشمعات كلها في نفخة واحدة. واسـتغل أحد الأشقياء فرصة الدفع فدغدغني تحت إبطي حتى قهقهت. وخلال فوضى الضحكات والتصفيقات والكلمـات المتقاطعة دشنتُ قطع الكعكة كأنني أنتقم من منافستي. ثم خطفت أنيسة الموسى من يـدي وتكفلت بتقسيم الحلوى إلى مثلثات وتوزيعها في أطباق ورقية. كانت كل خطوة من خطوات الحفل تتم في ارتجال وتداخل. ففي اللحظة التي كان فيها معظم الـحاضرين لا يزال يتلذذ بتناول الحلوى كـان العِجال قد التهموا نصيبهم وبادروا إلى تقديم الهدايا. وتمكن السريفي من أن يسكت الجميع ويرتجل خطبة أرادها في البداية قصيرة، وسخر خلالها من الميزانية الخجول التي لم تسمح للمساكين إلا بمثل هذا الحفل المتقشف، ووعد بوليمة رسـمية في حال حصول أول واحد منا على وظيفة في المستقبل الوردي. فليس بالإمكان أفضل مما كان. لكن فوضى الأصوات لم تطق سماع خطبة بدأت تطول. ونجحت أنيسة في إرباك السريفي وإسكاته فبادرت إلى تدشين خطوة الهدايا رافعة يدها بالرزمة الملفوفة في الورق اللامع. ثم صاحت في تمـرد:

« - الهدايا يا إخوان...».

وسلمتني الرزمة وفي عينيها بريق فتوة كل الدنيا. وفضضت الشريط الوردي فإذا بدب من الوبر الأبيض يبتسم وهو مقعى يحدق بعينين صغيرتين تنطقان مرحا لا يقل عن مرح أنيسة. وقدم الخالدي ملفوفا فصاح أكثر من صوت إنه كتاب. بل إن صوتا طغى على الجميع فصرخ منددا:

« -لا مجال الآن لأدوات المطالعة...».

وعندما فسخت الهدية المضلعة اكتشفت أنها لعبة. وقدم السريفي ساعة يدوية أنيقة وإن كانت من النوع الثقيل الرخيص. وقدمت حورية علبة صغيرة مستطيلة توحي بأنها تتضمن سلسلة أو قلما. ثم عرفنا أنها قلم. وقدم آخرون هدايا متنوعة منها سلسلة عنق من الفضة المزيفة، ودمية فتاة شقراء، وساعة منبه.

وانحشرنا في تعاليق ساخرة على الهدايا. ثم فترت التعاليق الطائشة رويدا رويدا فكان لا بد للحفل أن ينتهي بالتدريج مثلما تخبو بالتدريج النار المتأججة. ومع مخايل الغروب الربيعي رافقْنا حوريةَ أنا وأنيسة حتى وسط المدينة. ثم انعطفنا لنصعد عقبة "دار مورسيا" من دون أن ننقطع عن استرجاع المواقف القوية في الحفل. وظلت أنيسـة محتفظة برصيد زائد من الحيوية على الـرغم من تعب الحفل والـطريق. وحينما ودعتها أمام دارها بدت لي فتاة صريحة وفي متناول يدي. كانت دارنا قريبة، لكن هاجس الخلوة بعد الصخب همس بي كما يفعل في مثل هذه المناسبة:

« - لا بد أن تزيد في استقطار النشوة قبل أن تعود للانغماس من جديد في مستنقع المنزل الكئيب».

وتركت دار الأسرة ورائي وأمعنت في طلب العلو وكيس الهدايا في يدي إلى أن أشرفت على الموضع الذي ينتهي فيه شريط المنازل من دون أن ينقطع بصيص نورها. وبحثت عن متكإ أسفل شجرة صنوبر في "غرّابو" مثلما كنت أفعل منذ الصغر وأطلقت بصري لأتابع أضواء المدينة وشاطىء "مرتِين" وهي تتلألأ وتدعوني إلى أن أفهم الذي لا يفهم. وفي هدوء الموقع افترشت التراب ورحت أعيد فسخ الهدايا وأتأمل كلا منها بعناية ومتعة كما لو أني في يوم عاشوراء. الدب... الساعة... المنبه... الدمية... وفي لحظة وصولي إلى هدية حورية تنازعتني أهواء التجريب الجامحة. قلم مداد من الصنف الجيد مرفق بعلبة صغيرة من خراطيش الحبر. قلم أسود، ذو شوكة ذهبية مهيبة، كأنه قلم الغابرين. ذكرني وقاره بلحظات الصبا الجليلة حينما كان فقيه الكتاب يدبج لي على اللوح آيات بالصمغ المنساب قبل أن أتقن كتابة الحروف. وعبأت قلم حورية بخرطوش والتمست ورقة صغيرة ثم رحت أجرب الكتابة في ضوء محتضر. «هذا قلم حورية». وشعرت بالقلم وهو يطمئن مستكينا بين أصابعي. مداد أسود ينث على الورقة حروفا منتظمة، متماسكة،متمكنة من نفسها، لكنها تنساب كانسيـاب منحدرات "دار مورسيا" و"جبل درسة" و"البولبـورين". وكتبت ثانية: «قـلم حورية ينساب». وفي ثواني ناصعة اسـتهوتني مـتعة الـتجريب وأحسست كأني طائر يحلق فوق "تطوان" البيضاء من هذا العلو المرتفع فرحت أدون لاشعوريا كلمات تواردت على الخاطر. واستشرفت نفسي وأنا أجيب في امتحانات الإجازة بهذا القلم الوديع القصير الذيل كالعصفور، وتمثلتني مرة أخرى قادرا على التفوق في كل مباريات العالم. حتى على طلبة إنكلترا وأمريكا الشقر النابهي الذكاء. وكان لابد أن تميس في ذهني صورة حورية الصامتة فاضطررت إلى استرجاع بعض ذكرياتي معها وهي ترافق أنيسة في حديقة الكلية الخضراء أو في الحافلة المزدحمة، ثم وهي تبتعد عنا بعض الابتعاد لتترك لنا فرصة الحديث الحميم، قانعة بنظرات منكسرة تسرقها منا بين الفينة والفينة كنظرات قطة عليلة. كانت حورية موجودة وغير موجودة. تختار الظل وتكتفي بما قل من الكلمات. لكن صورتها الآن ثارت طفرة واحدة فاحتلت موقع الصدارة. وأحسست في داخلي بالحماس القوي لكي أضع من جديد تحت المجهر حركاتها ونظراتها أثناء الحفل. هدوء ورقة وسكون غامض لم أعره قط أدنى اهتمام طوال سنوات الكلية الأربع. ثم حار عقلي الفتي متسائلا:

« - لماذا تثير حـورية الآن اهتمامي أكثر من أية فتاة أخرى؟. أنيسة دائما في الوجدان، ولكن في صاحبتها غموض ناعـم كان يجب أن أفهمه مـنذ القديم، أن أبالي به وأحاول سبر أغواره. ثم ما لغز ابتسامتها الباردة؟ أنيسة ذكرت لي أكثر من مرة أن السكينة وقلة الكلام ليستا تصنعا من صديقتها بل هما سمتان متأصلتان في طبيعتها بدليل أنها نادرا ما حدثتها عن أصلها وعائلتها. ولقد أكدت لي الأيام ذلك. ولكن الآن...الآن بالذات أضحى من اللازم أن أفهم... إن دوافع مبهمة تلح علي لكي أفهم...».

وانتبهت إلى اشتداد خلوة المكان رغم خيوط الضوء الباهتة الصادرة من آخر المنازل، بينما الأنوار تتلألأ قبالتي. وحاولت أن أنتشل ذاكرتي من دائرة المبهم لكن من دون أن أتمكن من الهروب منها:

« - لا شك أن صورة حورية ستبدأ منذ الآن في منافسة صورة أنيسة في تفكيري. إنها لن تستطـيع زحزحة مكانة بنت الجيران ؛ إلا أنها ستتمكـن حتما من أن تتـناوب معها وستحفزني على كد الذهن المتردد لإدراك كنهها مدة لا أعرف مقدارها...».

وبثت فكرة التناوب في كياني خيطا رفيعا من الخوف. خوف ضعيف قد أستطيع قهره في المستقبل الذي يـنتظرني. هكذا أملت. لكن الآن ليس لي قِبل بلجة الافتراضات الصلدة كالخرسانة التي لم تسمح لعقلي الفتي بمزيد من متعتي الهدايا والخلوة، لذا أضحى الرجوع إلى الدار شرا لا بد منه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى