الجمعة ١١ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم عبد الله العبادي

وظيفة المدرسة والرأسمال الثقافي للطفل.

إن سؤال التربية المدرسية يبدأ مند العهد الإغريقي وبطريقة مرتبطة أكثر بالنظام السياسي للمدينة، لقد كان التعليم في العهد الوسيط من الاختصاصات الكبرى للكنيسة، وفي نهاية القرن التاسع عشر بدأت تظهر بعض الانتقادات للنظام التعليمي القائم. وظهر جليا المطلب إلى تربية حديثة يكون فيها الطفل أكثر حرية وذلك بواسطة مناهج نشيطة للتربية. وكان ديوي ومونتسوري وكلاربيد ودكرولي وبينيت... من أكثر المعارضين، وبذلك أخذت التربية طريقا آخر، واعتبر القرن العشرين قرن الطفل كما عبر عن ذلك الين كيت في كتابه علاقة الطالب الأستاذ الصادر سنة 1901 : "إن جودة التعليم التي نريدها في حالة التعليم المعطى هي بدلالة منهاج محدد مستعمل من طرف أستاذ محدد لطلبة محددين من أجل هدف محدد".

ونصت وثيقة إعلان حقوق الإنسان الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة في 10 دجنبر 1948 على وجوب التعليم الابتدائي الإلزامي المجاني الذي يبدأ في سن السادسة من العمر، ولم تعد غاية التعليم الابتدائي قاصرة على محو الأمية أو على مجرد الإعداد لمرحلة التعلم التالية، بل هي تتضمن أيضا تزويد الأطفال بما يحتاجون إليه في الحياة من عناصر الثقافة الأولية، وتربية قوامهم البدنية والفكرية والخلقية وتنمية عواطفهم القومية، وبذلك كثر الحديث كما يرى جون بياجي عن كيفية تعلم المرء، وكذا تطلعات الآباء والمدرسين، والبحث عن الأساليب المفضية إلى إشباع الحاجة وحل المشكلة، ويضيف أن حقيقة التعلم ليس الخبرة فقط، وليس الذكاء فقط، وإنما هي من المؤكد الحياة.

إن الطفل حين يصل سن التمدرس، تكتسب المدرسة دورا هاما في حياته اذ يناط بها مسؤولية تلبية حاجياته الأساسية للتعرف والاكتشاف، كما تمارس دورها التعليمي من قراءة وكتابة، علاوة على أنها تقدم له الإجابات على تساؤلاته وتساعده على فهم الواقع الذي يحيط به فهما مقصودا، إلا أن كل ما تزوده به، وتشبع به حاجاته الذهنية ليس حياديا، بمعنى أنه ليس مجردا، بل متضمن لصور الجماعة ومواقفها، والقيم التي تؤمن بها، فتنقلها له عبر محتويات مواد الدراسة من ناحية وبواسطة العلاقات التي تباشرها معه وتشجعه على تبادلها مع الآخرين، وهي بذلك وبوصفها مؤسسة اجتماعية تقدم ما لم تستطع الأسرة تقديمه للطفل وتلبي حاجياته العلمية والمعرفية وتكتسب بالمقابل اعترافا بسلطتها عليه، ويصبح بذلك الطفل خاضعا لكل من الأسرة والمدرسة، ويبدو أن المدرسة أخدت دورا أوسع من التعليم وتجاوزت هذا المفهوم إلى مفهوم التربية الذي يهدف إلى بناء التلميذ معرفيا وثقافيا واجتماعيا وسلوكيا. فالمدرسة بذلك لا يمكن أن تنفصل عن المجتمع الذي توجد فيه، كما أنها لا يمكن إلا أن تتفاعل مع التغيرات الحادثة في هذا المجتمع ومع الثيارات التي ستحدث وإلا تخلفت عنه، إنها بوصفها مؤسسة اجتماعية أساسية تمثل جزءا هاما من المجتمع الذي نعيش فيه، تتأثر به وتؤثر فيه مستجيبة للمطالب التي تفرضها قيم الجماعة عليها، وتعد بذلك الناشئة وتشكلها للعيش في المجتمع والمساهمة فيه.

والمؤسسة المدرسية تتحدد أبعادها بأبعاد المجتمع الذي تخدمه، ولا يقتصر عمل المدرسة على إعداد الجيل الصغير للاشتراك في حياة الجماعة والتكيف معها. ولكن تضمن أيضا القدرة على تجديد هذه الحياة وعلى تطعيمها بالدم الجديد، الذي يبعث فيها الحركة والنمو، وعلى هذا الأساس تستجيب المدرسة لمطالب التغير الاجتماعي وتحدياته في المجتمع الذي تعيش فيه وتعمل في الوقت نفسه على أن تكون رائدة لهذا التغير ومبشرة به وموجهة إليه، طريق هذا الجيل الصغير الذي تعده وتشكله .
وللمدرسة وظيفتين اثنتين : الاستفادة من الإرث الماضي، وتحضير تحولات المستقبل، وليس صدفة كما يرى الان جيرار أن لا توجد تنظيمات للبحث والتي تولى جانبا من اهتماماتها إلى المشاكل الرئيسية الحالية للتعليم أو تكوين المهنيين. وظلت بذلك المدرسة بعيدة عن النقد لمدة طويلة لكونها مؤسسة رسمية ترتبط بالنظام القائم فتراكمت الأخطاء وسيطرت البيروقراطية المريضة على الجهاز التربوي حتى تباطأ أداؤها بشكل لا يتفق مع إيقاع العصر وأثقل الكم مسيرة التربية. فبدأت تفقد قدرتها على تحقيق الكيف وانعزلت المدرسة عن المجتمع، وفشلت في استيعاب ثورة الاتصال وأصبح من الضروري إعادة النظر في الاستراتيجيات التربوية، وإحداث تغييرات جذرية في أداء المدرسة وعلاقتها بالمحيط.

ليست المشكلة أنه يجب على المدارس أن تسهم في تكوين المجتمع الجديد. ولكن المشكلة فيما إذا كان يجب على المدارس أن تقوم بهذا العمل وهي عمياء. أو أن تقوم به مع أكثر قدر ممكن من الذكاء الشجاع والمسؤولية ويضيف جون ديوي إن مواضيع الدراسة لن تكون سوى تغذية تؤهل الطفل لنمو حر. ويضيف أن المدرسة هدفها فقط خدمة الحياة الاجتماعية.

إلا أن التعليم يحدث بطريقة أفضل إذا كان مرتبطا بشكل حيوي بالثقافة السائدة، وعندما تؤدي التمزقات الاجتماعية إلى أن تصبح هذه الروابط صعبة التحقيق فإن التعليم تعترضه عقبات شديدة، وتؤثر بذلك على المردود التربوي. ويؤدي التقسيم غير المناسب إلى استئصال الأفراد ويفصلهم عن واقعهم المعاش ويمزق حياتهم إلى اثنين، ويخلق فواصل عميقة بين كل فرد وبيئته وكذا بين الآباء والأبناء، والطفل الذي ينتمي إلى عائلة تطبعها الأمية يشعر بهوة كبيرة بينه وبين المدرسة.

فالطفل دائما محور التربية من كلاربيد إلى جون ديوي وغيرهما...، والتربية اليوم يجب أن تهتم بالطفل أكثر مما تهتم بالمناهج التعليمية، تفاديا لخلق مقصيين من المدارس، قد يكرسون واقعا اجتماعيا أكثر إقصاءا وتهميشا لأن هؤلاء هم ضحايا وظيفة المدرسة أو لأنهم غير مؤهلين قبليا بسبب مواقعهم وانتماءاتهم الطبقية ومن الخطأ الاعتقاد اليوم بأن التربية تعيد إنتاج المجتمع، والتربية لم توجد من ذاتها ولأجل ذاتها كما يرى المثاليون ولكنها جزء من النضال الاجتماعي حيث تنعكس مميزاته، والتربية تبعا لذلك لا يمكن عزلها عن الجو العام السائد داخل المجتمع، سياسيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا.

... وهذا ما يفسره العدد المتزايد من الأطفال الذين يتركون المدرسة سنويا، وفي سن مبكرة والمنتمين في أغلب الحالات إن لم نقل جلها إلى الطبقات المهمشة والمحرومة يتحدث ماركس عن طفل إذا كان يعرف أنه إذا كان التكوين الاجتماعي لا يعيد إنتاج شروط الإنتاج في نفس الوقت الذي ينتج فيه التكوين الاجتماعي لا يمكنه متابعة مدة سنة، وكتب التوسير بأن الشروط الأخيرة للإنتاج هي إعادة إنتاج شروط الإنتاج التي هي في نفس الوقت إعادة إنتاج القوى المنتجة وإعادة إنتاج تقارير الإنتاج.

يرى جميل سالمي في كتابه أزمة التعليم وإعادة الإنتاج الاجتماعي بالمغرب أن عدم تكافئ الفرص بين الذكر والأنثى بين الحضري والريفي، وبين مختلف أبناء الفئات والشرائح الاجتماعية يعود هذا الوضع بالنسبة للمجتمع المغربي إلى عدة اعتبارات سياسية واقتصادية ترتبط بالتوجهات التنموية والاجتماعية العامة وبمواقفها وتصوراتها للحلول الملائمة لما يدعى بالمسألة الاجتماعية في مختلف أبعادها وجوانبها وهذا دليل على غياب الدمقرطة الشاملة للتربية والتعليم والتكوين . كما يلاحظ أيضا وبشكل كبير عدم التطابق والتكامل ببين النظام التعليمي وبين مختلف قطاعات المجتمع بشكل عام. بالإضافة إلى غياب سياسة تربوية واعية تأخذ بعين الاعتبار كل النواحي الاجتماعية للطفل، لتفعيل التواصل بين المدرسة والأسرة والمحيط الاجتماعي، وعملية التواصل هاته عملية معقدة تهدف إلى تحقيق التفاعل الاجتماعي بين أفراد المجتمع على اختلاف أعمارهم وفئاتهم وأدوارهم ومواقعهم والتفاعل الاجتماعي يعتمد على الاتصال حيث يحدث تأثير متبادل في السلوك ويتضمن التفاعل الاجتماعي عناصر ذات تنظيم نفسي واجتماعي لدى الأفراد والجماعات، وعملية معرفية متعددة كالإحساس والإدراك والتفكير وما يترتب على ذلك من تغيرات في سلوك الفرد والجماعة.وتشمل عملية الاتصال هاته علاقة الطفل بالأسرة وبالمدرسة وبالمحيط الذي ينتمي إليه.
إن الإشكالية التي تطرح نفسها وبإلحاح داخل حقل سوسيولوجية التربية بالمغرب اليوم، هي علاقة المؤسسة المدرسية بمحيطها السوسيو اقتصادي والثقافي للمجتمع، وكيف يمكن تحويلها من مجرد آلة لتكوين أطر الدولة وإعادة إنتاج ذاتها في الزمن، إلى مؤسسة تعليمية تعمل على إعداد أفراد فاعلين ومندمجين داخل المجتمع؟

إن علاقة المدرسة بالأسرة وبالمحيط أصبحت اليوم أكثر تعقيدا من ذي قبل، بسبب التحولات التي يشهدها المجتمع وبسبب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية فالأسرة المغربية تمر الآن بمرحلة تحول نحو النظام النووي جعلها أكثر تعرضا للانحلال والتفكك من أي وقت مضى، في ظل ظروف اقتصادية مزرية يشهدها المجتمع الحالي. وكذا الفقر والأمية حيث يعتبران سببا في الانحلالات الأسرية، وسببا في تفاقم المشاكل داخل البينية الأسرية، كما أن خروج المرأة إلى العمل وتحول موقعها داخل الأسرة، حيث تزايدت نسبة النساء العاملات الشيء الذي أدى إلى تضارب أدوارها في الأسرة، وتنافر القيم والعلاقات التي تربط أعضاءها، خصوصا وأن الكثير من النساء يعولن أسرا لانتشار البطالة بين الرجال وكذا الإقبال على تشغيل النساء لضعف أجورهن أدى إلى حالات شاذة داخل الأسرة كالطلاق وعدم الاستقرار والصراع الدائم، كما أن انشغال الآباء والأمهات ذوي الدخل المحدود بتحصيل لقمة العيش أدى إلى إهمال وتقصير في مراقبة دراسة أبنائهم، وحتى إذا ما أتيحت الفرصة لمراقبة واجبات التلميذ المدرسية، فإن أغلب الآباء والأمهات يكونون ضعيفي التكوين العلمي، ونادرا أيضا ما يحضر الآباء إلى المدرسة لمتابعة الأمور بها.

ففي غالب الأحيان يلقون على عاتق المدرسة مسؤولية التعليم والتربية، ولا يحملون أيضا أي مشروع دراسي لأبنائهم، كما أن هناك أيضا أجواء أسرية لا تسمح ولا تضمن شروط وأجواء الدراسة. كما أن ضعف الإمكانيات الاقتصادية للأسرة لتلبية حاجيات الطفولة يفضي إلى الاستغناء عن المدرسة قبل ولوجها أو تركها مبكرا، تؤدي بالأطفال إلى البحث عن مدخول إضافي لإعانة العائلة أو تدبير الأمور الشخصية، والحالة التي وصلت إليها المؤسسة التعليمية وكذا طوابير الخريجين العاطلين انعكس سلبا على تحفيز أطفال الطبقات الدنيا إلى الدراسة، بحيث أصبحت المدرسة في نظر الكثير منهم، مضيعة للوقت لوجود سواء إخوة لهم أو جيران موجزون عاطلون، إن وجود الأعداد الضخمة من الخريجين العاطلين، أعطى للمدرسة صورة فضيعة في أعين الأطفال الصغار، وخصوصا عندما تكون الظروف الاجتماعية والاقتصادية للأسرة لا تسمح بشكل كاف لمتابعة الدراسة في ظروف أفضل حيث يضطر الأطفال إلى تفضيل العمل أو الصنعة، كما يفضلون تسميتها، في سن مبكرة بدلا من ضياع الوقت في المدرسة التي لم تعد تنتج في نظرهم إلا البطالة، ووجود البطالة لدى حاملي الشهادات وبنسبة كبيرة أدى إلى تغيير نظرة الآباء إلى المدرسة، لقد أصبحت تمثل شبحا مخيفا للأسر ذات الدخل المحدود.

مما جعل الآباء يترددون الآن حين يسألون عن دور المدرسة، فهم يتحدثون عن واقع معاش مر، وعن مستقبل أسوأ، ويرون في تعلم الصنعة كمنقذ من الوقوع في شباك البطالة، إن أغلب العائلات التي ضحت من أجل تعليم أطفالها تتحدث اليوم عن كونها أضاعت الكثير مما تملك من الجهد والوقت والمال، ولا نتيجة لذلك، فلماذا تعاد الكرة من جديد، فالهدف بالنسبة للآباء من الطبقات الدنيا، اليوم هو تعليم أطفالهم إلى حدود الابتدائية فقط، إنهم يقولون هذا يكفي لكي لا يبقى الطفل أميا وبعد ذلك عليه أن يبحث لنفسه عن طريق آخر، قبل فوات الأوان، مما يضع المدرسة مرة أخرى في مأزق، لقد أكدت الأبحاث أن اهتمام الآباء من الطبقة الوسطى بصيرورة العمل داخل المدرسة يعطي حافزا للأبناء للحصول على نتائج جيدة، فبالأحرى الطبقات الغنية، وهذا دليل على حضور الوضعية الاجتماعية والثقافية داخل المدرسة وترجمتها إلى استحقاقات فردية ومواهب شخصية عكس الأطفال المنحدرين من طبقات دنيا الذين لا يجدون أي توافق بين ثقافة المدرسة والأسرة والمحيط الذي يعيشون فيه، فلا يستطيع أن يصل منهم إلى نهاية المسار إلا القليل، وهو ما جعل المدرسة في علاقة غير متكاملة مع المحيط الاجتماعي، وبدت أكثر حاجة إلى إعادة النظر في ذاتها لتجاوز التفاوتات بين التلاميذ بسبب الإرث الثقافي.

إن مجمل هاته الأوضاع والتغيرات التي مست الأسرة والمدرسة، كانت سببا وراء تأزم الفوارق الاجتماعية وتكريس سلطة الفقر والتهميش، والاستغلال البشع لأجساد فتية ضحايا الإقصاء المدني أو ظروف اجتماعية قاسية منعتهم من ولوج المدرسة، والمجتمع لا يستطيع إلا أن يطرح أسئلة تثقل رؤوس زهور لم تنفتح بعد، وتتطلع إلى حلول وأجوبة بعيون ذات نظرة بريئة وناقمة في نفس الوقت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى