السبت ١٩ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم سمية البوغافرية

شطارة...

صراخ حاد هز في الظهيرة أرجاء مقهى حارتنا وانطفأ.. دب القلق في الأعماق.. فغرت الأفواه.. تجمدت الأشداق على ابتلاع الرشفات الباردة.. اشرأبت الأعناق.. استدارت العيون في المحاجر ثم تسمرت جاحظة بالركن الأيمن.. احتد الفضول.. تعددت التأويلات واللغز واحد لتستقر على الإرهاب السري.. هتف أحد الرواد.. لعنة العصر حلت بدربنا الموغل في الانغلاق.. تبا للإرهابيين وما تسول لهم أنفسهم.. اللعنة على مصاصي الدماء.. اللعنة على خفافيش الظلام.. تأهبت بعض الأقدام للفرار وتأهبت الأخرى للإنقاذ.. وبينما المقهى تفور وتغلي، هبت قهقهات مدوية من الركن الأيسر حيث يقبع دائما حمدون، صاحب المقهى، يخطط ويعد ويقيم... فعصفت القهقهات بالتوقعات وبددت القلق في النفوس فانقلبت عقارب البوصلات لتستدير الأعناق تبتسم مع حمدون وزبانيته المنهارين بالضحك..

هدأت النفوس وارتسمت البسمات على الشفاه، لكن الفضول احتد في العيون حدة شمس زوال ذلك النهار..

ها هو العم سعدون يخترق العيون الجاحظة.. يدب من بوابة حمام المقهى منطفئا، حافي القدمين وهو يشد بأسنانه الصدئة على طرف عباءته المرقعة.. يتعثر في مشيته.. يئن بصوت خافت كجرو يطرق بوابة الحياة.. يرتجف وينكمش على نفسه كمن يقاوم قشعريرة برد صقيعي.. ظهره المنجلي يغطي شكل جسده النحيف.. ركبتاه العظميان بارزتان وساقاه النحيفتان المكسوتان بجلد ذو طعم داكن لا تسعفاه على الركض.. والنادل فتحي يسرع الخطى.. يركض وراءه بشكل كاريكاتوري ليمكنه ما تركه في الحمام من شدة ما حل به: سروال عريض لا لون له وحذاء لم يبق إلا رسمه. ورواد المقهى القابعون على كراسيها المتململة، يكبحون الضحك.. يتساءلون.. يتهامسون..يستغربون المشهد اللغز الذي يعاينونه بلذة واستغراب.. يفتقرون إلى التعبير عن فصوله الكوميدية للتلذذ وقتل الوقت ولنسج حدوتة يروونها للغائبين..

العم سعدون غارق في مأساته.. شكله شكل طفل هزيل استفاق من عملية ختان أشرف عليها حجام مغمور.. يركض كالمخمور إلى بيته عله ينقذ ما يمكن إنقاذه.. تارة ينفث بفمه على ما تحت حزامه.. تارة يرفع إحدى رجليه ويطفئ حرقته بطرف عباءته.. وتارة أخرى ينط مثل جرو جارتنا العنيد الذي تعلقت بذيله يوما جمرة ملتهبة فطار من شدة الألم إلى سطح منزلنا ينبح ويعوي ، فبدا في الظلام كنجم لامع يدور في فلك بيتنا والرياح تزيده لمعانا. وكم تمنيت لحظته لو ينزل لأخمد جمرته برشة ماء، أما نار العم سعدون فلا تقوى على إخمادها حتى خراطيم مياه رجال المطافئ...

كعادته كل يوم جمعة، يستيقظ العم سعدون باكرا، يتطهر ويتعطر ثم يلبس جلبابه الوحيد المرقع الذي لا يملك سواه، وقد ورثه عن جده من أمه الذي مات من شدة لهفه عن أكل اللحم. يغطي صلعته بقبعة حمراء متلاشية الأطراف بعد تطهيرها من الغبار والبعوض. فيبدو آدميا بسحنته، طهورا محترما وقورا في شكله، كما يقطع عادة قضاء حاجته في مقهى حمدون. يلم جيرانه ونساء دربه لأداء صلاة الجمعة التي لا يؤدي صلاة غيرها. فيبدو وسط رفاقه قزما أنيقا، أقصرهم قامة، أقلهم وزنا، أخفهم دما وأكثرهم حركة و ثرثرة.

حكاياته السندبادية الهزلية ومغامراته الإبليسية وحركاته الميكانيكية الآلية جعلت منه نجم الحارة. وإذا حدث أن تغيب عن مجالس رفاقه يوما، تلهفت إليه النفوس وهرولت أقدام الصغار والكبار لتقتفي أثره.. كان العم سعدون محبوبا لدى الجميع رغم تطاول الألسنة عليه استهزاء وسخرية. قال له يوما الحاج مختار ضاحكا: "إني أراك يا سعدون الميمون تختزل الصلوات في صلاة الجمعة، وفي بقية أيام الأسبوع يتولاك الله برحمته" فرد عليه متحسسا بيده اليمنى رأسه الصلعاء:"دعنا من هذا الكلام الذي لا يجدي وإلا..." قاطعه الحاج مختار مبتسما:" وإلا تركت صلاة الجمعة أيضا."

لكن اليوم، اختفى العم سعدون عن الأنظار، وغاب عن الرفاق، واحتجب عن النساء، وصد باب بيته الذي لا يغلق عادة إلا في وقت متأخر من الليل. ولولا بعض الملابس المتلاشية، المنشورة قرب بابه، لحق القول أن داره مهجورة منذ زمن طويل.

بعد صلاة الجمعة، تقدم رفاقه إلى بيته وهم يتهامسون، يتنابزون.. قال الحاج مختار الذي لا يكف عن الاستهزاء به وإثارة أعصابه: "يبدو أن الجزارين والخضارين وبائعي السمك قد هاجموا بهرواتهم عمنا سعدون لينالوا منه حق ما اختلسه منهم بعدما عجزوا عن نيله بحجة الكلام، وأشك في أن يفتح لنا الباب.." ثم صرخ ضاحكا حينما تذكر ذلك الصباح الذي اشتكى له من الحرب التي نشبت بينه وبين الناموس والباعوض والبق... فاستشاره بجديته النادرة في طريقة الاستفادة من تلك الحشرات الضارة التي تؤذيه في جسده وتفسد طعامه وتؤرق نومه وتقلق راحته. فنصحه يومئذ الحاج مختار بأن يلم جمعا منها ويرحيها مؤكدا له بأن لحمها يقال عنه في بلاد الصين أنه ألذ من لحم الطير، ثم غادره يقهقه كالأبله تاركا إياه غارقا في البحث عن الوسيلة التي تمكنه من تحقيق هذه الفائدة ، وهو يتساءل محتارا إن كان سيتولى الجزار مسعود رحيها بعد جمعها دون أن يطالبه بالمقابل أو يشج صلعته بعظم آخر كما فعل معه سابقا حينما أمسك به يختلس اللحم من المفرمة...

اقتحم الرفاق عليه زنزانة "الغرفة" فوجدوا رفيقهم مستلقيا على ظهره، متوسدا وسادتين، عيناه شبه نائمتين، ساقاه متورمتان وركبتاه منتصبتان، ووجهه البني القاتم أضحى قمحيا من شدة ما حل به. سكنت حركاته وهاجرته ثرثرته المعهودة وانطفأت ابتسامته التي كانت لا تفارق شفتيه فدب القلق في أعماق رفاقه وخشوا أن ينطفئ كلية. حاولوا عبثا استنباط سر علته، لكن العم سعدون قطع أنينه برفع يده اليمنى إلى السماء في إشارة إلى قدر الله. في حين قالت زوجته زبيدة التي تكفكف دمعها وتخفف درجة حرارته بمناديل تبللها من فينة لأخرى وتضعها على جبهته: "بعلي كان سليما عندما ذهب إلى المقهى كعادته، لكن حمدون الرجيم..." انحبس الكلام في حلقها فانصرفت وهي تجهش بالبكاء.

كانت يدا العم سعدون تطولان كل شيء تلتقطه عيناه.. يدفع ثمن رطل واحد من الخضر أو الفواكه أو السمك... ويتحايل على دفع سعر أرطال منها. وحينما ينصحه رفاقه بأن يكف عن عادته هذه التي تصغره في عيونهم يجيب مفتخرا بنفسه: هي مسألة شطارة وحذلقة وليست سرقة..." وقد حاول مرارا أن يستخدم دهاءه للتحايل على أداء ثمن كوب من الشاي أو فنجان قهوة، لكن حمدون كان يقف له بالمرصاد ويحرمه حتى من الاقتراب من مقهاه أو الجلوس على كرسي من كراسيها قبل أن يطلب شرابا ويدفع ثمنه مسبقا.. كان يذكره باستمرار وبقسوة: "إنه مالي الخاص كونته بعرق جبيني.. إياك ثم إياك أن تقترب من المقهى لتصنع شيئا مما تحدثك به نفسك ". لكن العم سعدون، الذي لا يرضى بالهزيمة ولا تعوزه الوسيلة اهتدى إلى استغلال مرحاض الحمام.. يؤمه متى استغفل حمدون.. يقضي حاجته.. يتوضأ.. أحيانا يستحم ثم يخرج مزهوا بنفسه ليحكي لرفاقه كيف انتقم لنفسه ممن يعتبرونه أبطش منه.

تفطن حمدون لفعلة العم سعدون وتكرارها فنبهه سرا إلى مدى الخسارة التي يلحقها به بسبب ما يهدره من المياه. لكن العم سعدون لا يصغي إلا إلى نزعته الداخلية.. يستغفل حمدون.. يدخل الحمام.. يتوضأ وأحيانا يستحم ويخرج كعادته مزهوا فخورا بانتصاره ويبرر فعلته بأن الحمام مجانا.. لم يتمالك حمدون أعصابه فأسرع إليه يوما وأمسكه من رقبته القصبية ورفعه كالريشة وتركه معلقا بين السماء والأرض حتى كاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، قائلا له بصوت حاد:"إذا كان الفأر شاطرا فالقط أشطر منه." ثم خبطه مع الأرض. لم العم سعدون أشلاءه بحذر مصطنع.. نفض ما تعلق بلباسه من غبار.. استرجع أنفاسه وازدرد ريقه ثم هز رأسه متحديا حمدون وشرارة عينيه فأطلق ساقيه للريح تاركا حمدون يغلي بداخله ويشحذ أسلحته...

يومها لم يتردد حمدون في نزع حنفية الحمام ووضع محلها سطلا متوسط الحجم يملأه من حين لآخر بلتر أو لترين من الماء.. وإذا حدث أن رأى سعدون يحوم حول مقهاه أو حاول الاقتراب منها توعده شرا بلسانه وعينيه وبالهراوة التي لا تفارق يده. ومع ذلك تهجم العم سعدون في أكثر من مرة على الحمام وقضى غرضه وخرج منه سالما معافى. ولم يرتدع حتى اليوم الذي أقدم فيه حمدون على صب كمية هائلة من الماء القاطع في سطل المرحاض ثم انزوى يترقب مجيء صيده.

يومه، قدم العم سعدون حذرا كعادته، التفت إلي يمينه ثم إلى شماله، وتسرب متخفيا إلى المرحاض. قضى حاجته ثم شرع يتوضأ.. وبعد هنيهة أطلق صراخه الذي اهتزت له أرجاء المقهى.. فخرج حمدون من مخبئه يفتل أطراف شنبه الكثيف المنتفضة بلذة ونشوة وهو يعقب فريسته، التي تتخبط في خطواتها كفأرة مسمومة تصارع الموت، وتقدم يبتسم وعلامات المكر بادية على وجهه، إلى زبانيته التي تتزلزل أجسادهم بالضحك فقال لهم مقهقها قولته المشهورة:"القاطع لمن لا يقطع عادته!..."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى