الأحد ٢٠ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

شعرية العرض المسرحي ومكوناته الجمالية

تمهيــــــد:

من يتصفح كتابات النقد المسرحي سواء في الغرب أم في العالم العربي فإنه بدون شك سيجد أن أغلب النقاد ركزوا اهتمامهم أثناء تعاملهم مع الظاهرة المسرحية على مقاربات خارجية في مدارسة الإبداع المسرحي فهما وتفسيرا، وذلك بالاعتماد على الشروط الواقعية والمقومات المادية واستنطاق الأوضاع التاريخية والسياسية والاقتصادية واستقراء الأبعاد النفسية الشعورية واللاشعورية. وهناك من اختار مجابهة الفعل الدرامي انطلاقا من مستندات نصية داخلية كالبنيوية والسيميائيات تفكيكا وتركيبا، بل هناك من اختار زاوية القارئ معتمدا على جماليات نظرية التلقي والتقبل. ويعني هذا أن النقد الأدبي في عمومه كان ينبش في المضمون الدلالي واستقراء الأبعاد المرجعية الواقعية والإيديولوجية للنص المسرحي على حساب العرض الدراماتورجي، وبذلك كان يغض الطرف عما هو فني وجمالي وإستيتيقي في الإبداع المسرحي.

وقد عرف النقد المسرحي في مساره الوصفي والتحليلي أربع محطات كبرى وهي: محطة المؤلف و محطة النص الدرامي ومحطة الراصد (المتفرج) و محطة العرض الدراماتورجي.

وسنركز في دراستنا المتواضعة على شعرية العرض المسرحي وطرائق تركيبه فنيا واستيتيقيا وتجليات جماليته.

أ- عناصر التركيب الجمالي:

بدأ الاهتمام بجماليات العرض الدرامي كما أشرنا إلى ذلك سابقا بعد أن انتقل الباحثون من المضامين الإيديولوجية والبحث عما هو مرجعي وخارجي في النصوص المسرحية إلى العرض الفرجوي لمساءلته فنيا وجماليا وتقنيا. وساهم تطور الدرس الأكاديمي والنقد الجامعي في إثراء المقاربات الدراماتورجية التي تركز على مقاربة العرض و"شعرنة"جمالياته الفنية والتقنية. كما كان لظهور المناهج الوصفية المعاصرة أثر كبير في تطوير دراماتورجية العرض المسرحي وإغناء الدرس الدرامي الغربي والعربي في شكل دراسات نظرية ونقدية وأبحاث مخبرية تبحث في خاصية التمسرح ودرامية العرض. كما ساهمت نظريات التلقي والتقبل مع إيزر ويوس ورولان بارت وإمبرطو إيكو في تعميق المنحى الجمالي في العرض المسرحي بالإضافة إلى التخصص في مواد الصنعة المسرحية جماليا وتقنيا والذي دفع كثيرا من حرفيي المسرح إلى الاهتمام بالعرض على حساب النص، دون أن ننسى أهمية ظهور المخرج إلى ساحة الوجود الذي حوّل النص المسرحي ومضامينه النصية الداخلية والخارجية إلى عرض بصري مشفر بتقنيات مهارية وصنعة جمالية حرفية وتركيب فني هرموني الذي من خلاله يقدم المؤلف والمخرج إلى المتلقي الراصد رؤيتهما الشاملة إلى العالم. ومن هنا، أصبح السؤال الجوهري ليس هو ماذا يقول العرض المسرحي؟ وما هي أبعاده القريبة ومقاصده البعيدة؟ وإنما السؤال شكلي بحت يتمثل في: كيف يصنع العرض فرجته الدرامية والجمالية؟

وعليه، سنركز في موضوعنا المتواضع هذا على مجموعة من العناصر البنيوية التي تشكل شعرية العرض المسرحي و تكوّن جماليته الفنية، وهي: الفضاء المسرحي وتقنيات التشغيل الجمالي والتمثيل والكتابة الدرامية.

1- جمالية الفضاء المسرحي:

إن أول ما يرصده الباحث - وهو يفكر في جمالية العرض المسرحي -مكون الفضاء الذي يشكل الإطار الجوهري للركح الدرامي؛ لأن الفضاء المسرحي هو أول عنصر يواجهه المتلقي، وبالتالي، فهو الذي يؤثث الفرجة ويبلورها فنيا ويشكلها جماليا. و نعني بالفضاء كل ما يؤطر الخشبة المسرحية من سينوغرافيا وجداريات وديكور وأجواء وظلال فنية وعلامات سيميائية وإشارات بصرية ولغوية يتذيل بها العرض الدرامي.
ومن جهة أخرى، فالفضاء أكثر اتساعا من مفهوم المكان الذي يحيلنا على الجانب المادي أو العلبة الإيطالية أو الفضاء المحدود سواء أكان منغلقا أم منفتحا أو كان ذلك الفضاء في حلبة داخلية أو ممتدا في رقعة خارجية.

وهناك مجموعة من الطرائق الفنية والجمالية في تفضية العرض المسرحي منها:

• الفضاء الفارغ: يقابل هذا الفضاء ما يسمى بالفضاء المؤثث، وليس من الضروري أن يحيل هذا الفضاء على العدم؛ لأن الفضاء الفارغ يشكل رؤية المؤلف والمخرج على حد سواء، ويعكس لنا فلسفتهما في الوجود ورؤيتهما إلى العالم. ويصيغ – بالتالي- إشكاليات أنطولوجية عويصة من خلال الارتكاز على العبث السديمي والاغتراب الذاتي والمكاني، وۥيخرج العرض من الامتلاء والوجود والإثبات إلى عالم الصمت والفراغ والتجريد والخواء الجسدي والروحي. ويعتبر بيتر بروك من أهم المنظرين للمساحة الفارغة وفضاء الفراغ في الكثير من دراساته وكتبه النظرية حول المسرح، كما اشتغل أنطوان أرتو وگوردون گريگ على هذا النوع من الفضاء المفرغ من الإكسسوارات وكل اللوازم المتعلقة بالديكور والسينوغرافيا المؤثثة.

• الفضاء التجريدي: يعتمد هذا الفضاء على تجريد العرض وتحويله إلى علامات سيميائية غامضة بعيدة عمّاهو حسي وملموس، ويرتكز كذلك على خلق المفارقات بين الدوال التي يصعب تفكيكها أو تأويلها إلا بمشقة الأنفس، ويصبح هذا الفضاء الفرجوي تشكيلا بصريا يذكرنا بالتجريد السريالي لسلفادور دالي أو التجريد التكعيبي للفنان الإسباني بيكاسو وخوان گريس وليجر وبراگ... ومن ثم، يتسم هذا الفضاء بالتغريب والانزياح وتجاوز نطاق العقل والحس إلى ماهو خيالي وماهو غير عقلاني. وتندرج المسرحيات الأمازيغية التي أخرجها شعيب المسعودي (" ثمورغي /الجراد"، "أربع أوجنا إيوظاد/ ربع السماء أوشك على السقوط " ضمن هذا الفضاء التجريدي.

• الفضاء الفانطاستيكي: وهو ذلك الفضاء الذي يعتمد على الخارق والعجيب والغريب واستخدام الفانتطازيا والگروتيسك الكاريكاتوري والمقنع والانتقال من عالم العقل إلى عالم اللاعقل والثورة على قواعد المنطق والعقل. ويدين هذا الفضاء فوضى الواقع ومواضعاته المتردية وأعرافه المهترئة. ومن أهم المسرحيات التي تمثل هذا الفضاء مسرحية" ثشومعات/الشمعة للمخرج الأمازيغي عبد الواحد الزوكي)

• الفضاء الشاعري: ويقوم على الإيحاء الشاعري والصور البصرية الموحية والظلال البلاغية والصور الفنية المثيرة مشابهة ومجاورة ورؤيا. ويستخدم هذا الفضاء كذلك جداريات شاعرية رمزية مليئة بالانطباعية والتضمين وتجاوز التقرير والتعيين، وهنا تحضر الإضاءة بتموجاتها الشاعرية وبرناتها الإيقاعية المعبرة لتخلق لنا عالما يتقاطع فيه ماهو بصري تشكيلي وماهو وجداني شعوري.

• الفضاء الباروكي: وهو فضاء درامي يستعمل الزخرفة الباروكية والتأثيث المبرجز والصيغ الفسيفسائية والمنمنمات الجميلة والديكور الفخم والسينوغرافيا الممتلئة بالأشياء والقطع الأثرية المترفة كما هو حال العروض في العصور الوسطى.

• الفضاء الكوليغرافي: يعتمد هذا الفضاء على الجسد وتلويناته في تقديم الفرجة الدرامية وتشكيل النص بصريا ورؤيويا عبر استخدام الحركات الصامتة ورقصات الباليه والميم والبانتوميم والبيوميكانيك في انسجام تام مع الإضاءة وتغير رنات الإيقاع كمسرحية "نتات/هي" لفرقة محترف ويمرز بتزنيت التي اشتغلت على الفضاء الكوليغرافي من بداية المسرحية حتى نهايتها.

• الفضاء التراثي: يستند العرض إلى توظيف السينوغرافية التراثية وتقنياتها الإحالية ومكوناتها الجمالية و الاستعانة بالمستنسخات التناصية التي ترجعنا إلى أجواء الماضي في تقاطعاتها مع الحاضر والمستقبل. وتحضر الذاكرة بأشكالها الفطرية وظواهرها الدرامية واللعبية التي تشكل ماقبل المسرح لتؤشر على التواصل بين الأجيال الغابرة والأجيال الحاضرة. ومن أهم المسرحيات التي توظف هذا النوع من الفضاء مسرحيات الطيب الصديقي ومسرحيات عبد الكريم برشيد...

• الفضاء المرجعي: هو ذلك الفضاء الذي يحاكي فيه المخرج الفضاء الخارجي محاكاة حرفية أو فنية كالفضاء الواقعي بكل مكوناته التصويرية القائمة على الانعكاس المباشر في التقاط تفاصيل الواقع، والفضاء الطبيعي بكل عريه المفضوح وتناقضاته الصارخة ومواضعاته الحيوانية البشعة. ويمكن تسمية هذا النوع من الفضاء الذي يتكئ على المحاكاة بالفضاء التقليدي أو فضاء المحاكاة أو الفضاء الكلاسيكي الذي يتم فيه نقل المرجع الإحالي بكل أبعاده الواقعية والطبيعية بصورة فنية قائمة على التمويه الواقعي أو التصوير الطبيعي للموضوع المطروح على الخشبة المسرحية. وأغلب المسرحيات الواقعية والطبيعية والتاريخية توظف هذا النوع من الفضاء المسرحي.

2- تشغيل التقنيات الجمالية:

يعتمد تركيب العرض المسرحي فنيا على مجموعة من المكونات والتقنيات الجمالية الأساسية كالديكور والأزياء والإضاءة والموسيقا والأشياء والماكياج والسينوغرافيا.

• الإضاءة:

ليست الإضاءة مكونا سينوغرافيا زائدا، بل هي لغة معبرة وخطاب بصري يتوازى مع الخطابات السيميائية الفرجوية الأخرى التي تساهم كلها في خلق فرجة درامية ركحية منسجمة هرمونيا ودلاليا وفنيا وجماليا. و لقد اهتم كثير من المخرجين بالإضاءة نظرا لأهميتها في تشكيل العرض الدرامي وإيصاله إلى الجمهور. ومن هنا، فالإضاءة خطاب بصري وظيفي يقوم بدور هام في تفضية الخشبة وتبئير الأحداث والممثلين والفصل بين المشاهد والفصول. ومن المخرجين الرواد الذين اهتموا بالإضاءة نذكر بالخصوص المخرج السويسري أدولف آپيا.

ومن أهم أنواع الإضاءة المسرحية والسينوغرافية نذكر: الإضاءة الأفقية والإضاءة العمودية والإضاءة المتموجة والإضاءة المتناوبة والإضاءة المتوازية والإضاءة المركزة والإضاءة الشاملة، و من ناحية أخرى يمكن الحديث عن إضاءة أرضية وإضاءة علوية.

هذا، وتساهم الإضاءة في خلق الإيحاء وتشكيل خطاب التضمين وإثراء شاعرية الأجواء والظلال، كما تتخذ الإضاءة دلالات سياقية نصية ودراماتورجية في تلويناتها وانعكاساتها الهندسية وتقوم بتأشير الممثلين وتعيينهم باعتبارهم كتلا جامدة أو متحركة حركيا وجسديا وحصرهم مكانيا وتبئيرهم دراميا و التركيز عليهم تشخيصا وتواصلا.

• الأزياء:

تعبر الأزياء عن وضعية الممثلين وتقدم لنا معلومات عن سنهم وطبيعة طبقاتهم الاجتماعية ووظائفهم وأدوارهم في المجتمع ونمط تفكيرهم. وقد تمتاز الأزياء بالأصالة أو المعاصرة وبالحرفية والرمزية.

ومن ثم، يمكن الحديث عن أزياء تاريخية وأزياء مفارقة وأزياء العري الجسدي وأزياء واقعية طبيعية تحاكي المرجع الخارجي في حرفيته أو فنيته، وهناك أزياء فانطاستيكية گروتسكية تعتمد على الإغراب الكاريكاتوري والخرق المنطقي والإدهاش المثير. وتؤشر ألوان الأزياء أيضا على جدلية القيم والأهواء والتناقضات فوق خشبة الركح الدرامي وخشبة الواقع الاجتماعي.

• الموسيقا:

تعد الموسيقا من أهم المكونات الأساسية في تفعيل العرض المسرحي وخلق توتره الدرامي وكشف صراعه وتوضيح تمسرحه الدرامي. وتساهم الموسيقا كثيرا في خلق تواصل حميمي فني وجمالي ونفسي بين العارض والراصد المشاهد. وغالبا ما تستفتح المسرحية ببرولوگ يكون بمثابة "جنيريك" جمالي تمهيدي يؤشر على بداية العرض المسرحي، أوقد تتخلل الموسيقا مشاهد المسرحية وفصولها وحواراتها، أو تكون في خاتمة العرض لتعلن تراجيديتها أو كوميديتها أو الخلط بينهما.

وتحضر الموسيقا في شكل مؤثرات اصطناعية أو أصوات طبيعية محاكية أو موسيقا ملحنة على ضوء قواعد موسيقية مدروسة أو أغان مهجنة بلغات مختلفة وحركات ورقصات معبرات، و تحضر أيضا في العرض بمثابة أصوات خلفية بشرية أو آلية. ويلاحظ كذلك أن الموسيقا قد تكون من أداء الممثلين مباشرة أو تكون صدى خلفيا من وراء شاشة الكواليس.

• الماكياج:

ليس الماكياج فعلا زائدا نستعمله من أجل الحفاظ على وجوهنا أو نستعمله وقاء من أشعة الكاميرا أو العاكسات الضوئية الأرضية أو العلوية، بل الماكياج تقنية وظيفية تساهم في إغناء العرض المسرحي وإثرائه وظيفيا و فرجويا. ويعكس الماكياج طبيعة الشخصية وقناعها الدرامي ووظيفتها داخل المسرحية و يستقرىء كل الأبعاد الرمزية والمرجعية التي يحيل عليها العرض المسرحي. وقد يكون الماكياج جزئيا أو كليا، طبيعيا أو اصطناعيا، وقد يكون لغويا أو بصريا.

ومن هنا نقول: إن الماكياج هو الذي يؤطر الشخصية ويشكلها بصريا وسيميائيا ويعبر عن الأحوال النفسية التي يكون عليها الممثل وطبيعة الأدوار التي يؤديها فوق الخشبة الركحية.

ومن المعروف أن الماكياج أهم ميسم في مسرح النو والكابوكي اليابانيين، ومسرح الكاطاكالي الهندي و أوپرا بكين الصينية...

ويعد المخرج الروسي تايروڤ من أهم المخرجين الذين اهتموا كثيرا بخاصية الماكياج المسرحي إذ جعل" ممثليه يستخدمون ماكياجا عجيبا مفرطا في الغرابة ليكون على يقين من أنهم لن يشبهوا أي أحد من الحياة الواقعية، وبهذا يصبحون أشخاصا متفردين في عيون النظارة". [1]

• الأشياء:

قد تبدو الأشياء أنها من المكونات المسرحية التافهة وأنها من المكملات الزائدة التي لاقيمة لها في إنجاز الفرجة الدرامية، بل يمكن القول بأن الأشياء في بعض الأحيان تتحول إلى أهم مكون في المسرحية نظرا لأهميتها السينوغرافية والدلالية في تشكيل الفرجة باعتبارها محورا بؤريا ومؤشرا فنيا وجماليا يشكل العرض ويؤطره سيميائيا. فإذا أخذنا المسرحية الأمازيغية"ّ ثشومعات/ الشمعة" لعبد الواحد الزوكي من المغرب فقد اشتغلت على الشمعة باعتبارها مكونا شيئيا يحمل دلالات إحالية ورمزية. إذ تقوم الشمعة أولا بتنوير الظلمة وكشف دياجيها وتبيان سبل الانتقال فوق الخشبة وطرق الاتجاه، وثانيا تقوم بدور التوعية والتنوير وتعكس لنا مقصدية الانفتاح والوعي والنهوض من عالم الغفلة والنوم والسبات للانتقال إلى عالم العمل والاجتهاد والتمدن والسلام والحوار من أجل استقبال عالم أكثر رحابة وتوهجا. وتتحول الأحجار في المسرحية الأمازيغية الريفية "ثمورغي/ الجراد " التي ألفها أحمد زاهد وأخرجها شعيب المسعودي إلى أدوات إيقاعية ورمزية دالة على الصراخ والثورة والاحتجاج والرفض. وتزخر العصا في المسرح التجريبي الحسيمي بدلالات تجريبية ورمزية تحيل على الغرابة والتسلط والعنف كما تؤشر على غطرسة السلطة وجبروتها في تصديها للإثنية الأمازيغية المهمشة في المغرب الأقصى.

وهكذا يظهر لنا أن الأشياء متعددة الدلالات والوظائف والاستعمالات وأنها من العناصر السينوغرافية التي لايمكن الاستغناء عنها في العرض المسرحي.

• الديكور:

من المعروف أن الديكور من أهم المكونات التقنية التي تجعل العرض الدرامي غنيا بالفرجة الجمالية. وقد يكون الديكور وظيفيا عندما نحتويه ونشغله ونشتغل على ضوئه ونحركه ديناميكيا، وهناك ديكور صامت جامد غير وظيفي مقحم يخلو من الدلالات والمؤشرات الإيحائية والمقاصد الفنية والجمالية. وقد يمتاز الديكور بالفقر الناتج عن قلة الإمكانيات المادية وانعدام التقنيات البصرية وغياب المؤثرات الصوتية أو يتعمد المخرج في توظيفه بتلك الطريقة الحرفية؛ لأن عرضه السينوغرافي يحمل في دلالاته رمزية مقصودة، أو يكون الديكور مترفا يعبر عن الامتلاء والحشو والتبرجز الطبقي والرخاء الاجتماعي أو يدل على الباروكية الفخمة الزائدة.

ويتحول الديكور أيضا إلى فضاء تجردي أو فانطاستيكي أو فضاء كاريكاتوري ساخر.

و يلاحظ كذلك أن الديكور قد يكون جامدا ميتا أو متحركا ديناميا أو كوليغرافيا يعتمد على جسد الممثل وقواه البدنية. كما أن الديكور قد يكون ثابتا أو معلقا أو طائرا فوق خشبة الركح المسرحي.

• السينوغرافيا:

إذا كان الديكور مفهوما جزئيا فإن السينوغرافيا مفهوم عام يجمع بين الديكور وكل المكونات البصرية والسينمائية التي تعرض على خشبة العرض. ويعكس لنا المكون السينوغرافي نوع الرؤية الإخراجية وطبيعتها، كما يبين لنا الفضاء المؤثث ومكوناته التشييئية ودواله اللغوية والرؤيوية في علاقتها التفاعلية والتواصلية مع الجمهور. وقد تكون السينوغرافيا جامدة ساكنة لاحركة فيها ولا حياة مليئة بالحوارات السقراطية أو الحوارات الدرامية الجدلية التي تقتل شاعرية العرض بسبب الروتين والتكرار و الفعل الدائري، وسينوغرافيا متحركة شخوصيا أو آليا أو كوليغرافيا لخلق فرجة ديناميكية دالة.

3- جمالية الممثل:

من المعروف في العرض المسرحي أنه من الصعب الاستغناء عن الممثل لكونه عنصرا جماليا فاعلا في الفرجة الدرامية وعنصرا أساسيا في العرض السينوغرافي ومكونا جوهريا في عملية التواصل بين الركح والصالة.

وكانت للممثل عبر مسار تاريخ المسرح قيمة كبرى في منظور الجمهور و أهمية لايمكن تجاهلها أو الانتقاص منها في تحريك العرض وإغنائه، بل كان المسؤول الوحيد عن نجاح العرض أو فشله وخاصة مع الممثل النجم في عهد الرومانسية، إذ كان الجمهور يقدم إلى قاعة العرض من أجل أن يرى ممثلا معينا يتحرك فوق خشبة المسرح عارضا حواره وخطاباته اللغوية والبصرية بطريقة مفيدة وممتعة. لكن مع ظهور المخرج في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي ستتضاءل أهمية الممثل النجم ويصبح دمية منفذة ليس إلا.

وفي منحى آخر، ظهرت مجموعة من النظريات والتصورات حول الممثل وكيفية تدريبه وبناء شخصيته وإعداده إعدادا جيدا، و من أهمها: نظرية قسطنطين ستانسلافسكي الروسي الذي أسس مختبرا في موسكو من أجل تأهيل شخصية الممثل وتدريببها وتكوينها على ضوء أحدث التجارب العملية والنظرية، و كان ينطلق من المدرسة الطبيعية الواقعية في رسم مسار الممثل وإعداده ميدانيا. وتستند نظريته إلى مجموعة من الخطوات التي تتمثل في الاستيعاب النظري والتدريب والتمثيل.

يعتمد التمثيل الحقيقي عند ستانسلافسكي على التمثيل الارتجالي الطبيعي الذي يستند إلى الإيمان والصدق والمعايشة الطبيعية القائمة على التذكر الشخصي والارتخاء العضلي والتكيف مع المواقف الدرامية والانطلاق من الافتراضات المسرحية الممكنة لخلق الأدوار التي تتمثل في صيغتي لو وإذا. ويستعين ستانسلافسكي في تدريب ممثليه بالموسيقا والغناء والرقص والرياضة البدنية ولسانيات النطق و وعلم المعالجة الصوتية.

وبعد عملية التدريب على المواقف الدرامية في سياقها الافتراضي، يوزع ستانسلافسكي على الممثلين الأدوار التي ينبغي تمثيلها وقبل ذلك تقرأ المسرحية مرات متتالية لتشرح لغويا وتفسر كلماتها الغامضة، وبعد ذلك يفسر لهم المخرج دلالات المسرحية وسياقاتها المرجعية والإيديولوجية.

وعند الانتهاء من عملية القراءة والتفسير تحدد أفكار المسرحية في عناوين مصدرية وتحوّل مضامينها إلى أهداف سلوكية إجرائية وحركية بصيغة الفعل( يلعب، يخرج، يتنزه...)، و من جهة أخرى تقسم الأدوار على الممثلين ليفككوها إلى أفكار وأهداف بطريقة تجزيئية تنطلق من الكل إلى الجزء.

وبعد فهم الدور واستيعابه، تأتي عملية التمثيل التي تتكئ على المعايشة الحية للدور والاندماج فيه تقمصا وتذكرا اعتمادا على استحضار التجارب الشخصية الواقعية وارتجال مجموعة من المواقف والمشاهد وتوظيف الكوليغرافيا الجسدية لأداء الأدوار المناسبة في سياقاتها الزمنية والمكانية والحالية. أما الممثل القدير عند ستانسلافسكي فهو الذي يقنع الجمهور ويبهره بتشخيصه ويجذبه بالرسائل المقصدية التي يوصلها إليه.

وتتميز تصرفات ستانسلافسكي في علاقته بممثليه بالخاصية الإنسانية ودماثة الأخلاق والحوار البناء والصداقة الحميمية والإصغاء الحسن والمشاركة الديمقراطية في الخلق والإبداع.

ومن زاوية أخرى، فإن دروسه كانت تعتمد على شقين: الشق النظري في طرح المفاهيم والخطط الإستراتيجية وشرح مدونة مصطلحات العرض المسرحي، والشق التطبيقي الذي ينبني على التدريب والتمثيل.

وكان ستانسلافسكي يلتجئ في شرحه وتعليقه إلى لغة الحوار والجدل التوليدي وتشجيع الممثلين وتعليق الدروس والأهداف والتوجيهات والتعليمات والنصائح في مدخل المختبر التدريبي قصد استيعابها من قبل الممثلين وتمثلها إجرائيا وركحيا. كما كان يخرج مع ممثليه في رحلات ميدانية وفنية قصد مساعدتهم على معايشة الفضاء الواقعي عن قرب وتعرف سياقات الفعل المسرحي التي قد تؤهلهم في أداء أدوارهم المسرحية.

أما تلميذه مايرخولد فقد تبنى توجها شكلانيا وطريقة بيوميكانيكية في تأهيل الممثل لاغيا حصانة المؤلف. وتتميز معاملته في إعداد الممثل وتكوينه بشدة الصرامة وقسوة التدريب؛ لأنه كان ينظر إلى الممثل على أنه عبارة عن دمية ينبغي التحكم فيها لكي تلتزم بتوجيهات المخرج وخططه المحكمة.

وإذا انتقلنا إلى المخرج والمدرب الپولوني گروتوفسكي فقد بلور نظرية المسرح الفقير التي يقول فيها بأنه يمكن الاستغناء عن كل العناصر التي تساهم في إثراء الفرجة الدرامية كالماكياج والموسيقا والإضاءة والديكور والسينوغرافيا والتقنيات الآلية، ولكن لايمكن الاستغناء عن مقومين أساسيين وهما: الممثل والمتفرج، فبهما يكون المسرح ويحيا، فإذا غاب عنصر من هذين العنصرين يستحيل الحديث عن المسرح.

وإذا غابت الإمكانيات المادية وانعدمت الوسائل البصرية التي تتمثل في الديكور والسينوغرافيا وافتقدت المؤثرات الموسيقية والصوتية، فإن الممثل لابد أن يعجّن ويعصّر جيدا ليعوض هذا الخصاص التقني والبصري عن طريق حركاته وجسده وملفوظاته اللغوية والحوارية،ويجسد لنا، بالتالي، كوليغرافيا كل ما يستلزمه المسرح من مؤثرات بصرية وصوتية. ولابد أن يكون الممثل في هذه النظرية عضوا مؤهلا بشكل كبير و فاعلا متمكنا ومتدربا أحسن تدريب صوتيا وبصريا.
وإذا انتقلنا إلى الكاتب الفرنسي ديدرو فإنه يرفض مفهوم الاندماج الأرسطي في كتابه "الممثل ومفارقاته" على غرار المخرج الألماني بريخت الذي كان يدعو إلى نظرية التغريب أو التباعد لفضح اللعبة المسرحية وكسر الإيهام بالواقعية، وسيثور بعد ذلك على المحاكاة الأرسطية وسيجعل من الممثل بطلا ملحميا يساهم في التغيير والتوعية وتنوير المتفرجين من خلال تكسير الجدار الرابع.

وإذا كان الممثل عند گوردون گريگ قد تحول إلى دمية يمكن تعليبها وتوسيع ملامحها كما يحلو للمخرج مادام أنه المسؤول عن العرض سينوغرافيا. فإن أنطوان أرتو كان يعطي لممثليه الحرية الكاملة في التصرف والاجتهاد والإبداع وخلق المواقف الشخصية والخروج على النص إن أمكن ذلك ضمن إخراج إبداعي خلاق.

ويمكن للمثل الذي يؤدي دوره المسرحي أن يصبح كائنا بشريا ساميا أو منحطا أو عاملا من العوامل السيميائية على مستوى التواصل اللفظي وغير اللفظي أو يتحول إلى كائن فانطاستيكي أو صورة كاريكاتورية أو شكلا من الأشكال البنيوية البيوميكانيكية أو أداة آلية معلبة أو مستلبة أو دمية كدمى مسرح النو و الكابوكي والكاتاكالي وأوبرا بكين... أو قناعا من الأقنعة المعبرة بصريا وسيميائيا. ويمكن أن يكون الممثل أيضا بمثابة سينوغرافيا متحركة أو صامتة مادام هو الكائن الوحيد فوق خشبة العرض يحمل بين طياته لغة الحوار وخطاب الحركة.

4- الكتابة الدرامية:

تعتبر الكتابة الدرامية من أهم الوسائل الجمالية التي تساهم في إثراء الفرجة الدرامية. وتتخذ الكتابة الدرامية عدة أنماط من بينها: التأليف والاقتباس والترجمة والتوليف والاستنبات والتكييف.

فإذا تحثنا عن المسرح العربي، فهناك من يعتمد على تأليف مسرحية انطلاقا من حبكة مسرحية حبّكت أصلا لتتحول إلى عرض مسرحي، وهناك من يعتمد على الرواية والشعر والقصة القصيرة أوعلى حدث مأخوذ من قصاصة جريدة أو مجلة أو فكرة رائجة فيتم نقلها إلى فرجة درامية عن طريق البحث عن خاصيتها الدرامية التي تتمثل في التمسرح والمعالجة الدراماتورجية، أو يسعى المؤلف أو المخرج إلى الاقتباس والاستنبات والترجمة مغربة أو تمصيرا أو تونسة أو جزأرة أو لوبنة أو تمزيغا... وقد يعمد المؤلف أو المخرج إلى الإلصاق أو التوليف أو الكولاج للجمع بين الخطابات والنصوص في شكل إطار مسرحي بوليفوني مهجّن دراميا.

5- متى يكون العرض المسرحي جميلا؟

يكون العرض المسرحي جميلا [2] عندما يخلق المخرج عرضا جماليا متكاملا متناغما تنسجم فيه جميع العناصر والمكونات داخل هرمونية فنية متناسقة. ويكون العرض جميلا كذلك عندما يترك وقعا جماليا على المتفرج بمفهوم يوس وإيزر، ويحقق لذة ومتعة أثناء التفاعل التواصلي على حد مفهوم رولان بارت، أو يكون العرض المسرحي نصا مفتوحا زاخرا بالدلالات والحمولات التناصية والمستنسخات الذهنية والجمالية بمفهوم أمبرطو إيكو. ويكون العرض خطابا جماليا عندما يستجيب لأفق انتظار الراصد (القارئ) إبهارا وإمتاعا وتكيفا، أو يخيب أفق انتظاره عن طريق الانزياح والإغراب والإدهاش، أو يؤسس ذوقه من جديد من خلال تمثل مسافة جمالية جديدة ذات وقع جمالي آخر غير معهود من قبل.

ويختلف التقبل الجمالي من راصد إلى آخر ومن زمان إلى آخر ومن مكان إلى آخر، وهذا الاختلاف هو الذي يغني العرض الدرامي ويثريه بالحيوية ودينامكية التأويل والملء الدلالي والمرجعي.

خاتمة:

يتبين لنا - مما سبق ذكره- أنه آن الأوان لمقاربة الظواهر المسرحية جماليا وفنيا وإستيتيقيا باحثين عن المكونات البنيوية والشروط الجمالية لشعرية الصنعة المسرحية مبتعدين قدر الإمكان عن المساءلة المضمونية والإيديولوجية حتى وإن كانت مساءلة مهمة ومشروعة، إذ لا ينبغي أن يكون ماهو إيديولوجي ومرجعي هو المهيمن على قراءاتنا وتصوراتنا النظرية والمنهجية. لأن المسرح في جوهره الحقيقي هو قبل كل شيء عرض درامي ممتع و فرجة لسانية وحركية متناغمة ومشاهد كوليغرافية متناسقة يتداخل فيها ماهو سمعي وماهو بصري، وفي نفس الوقت يهدف هذا المسرح إلى الإمتاع والإفادة وتغيير المتلقي المتفرج وصناعة فن جمالي جذاب.

وعلى العموم، يتكون العرض المسرحي جماليا من النص الدرامي الذي ينبغي أن يشغّل في فضاء ركحي جميل يؤثثه الممثل المقتدر الكفء حواريا وحركيا من خلال الاشتغال على تقنيات جمالية ممتعة ووظيفية.

تنبيه:

هذه المقالة توسيع وتمطيط لمحاضرة مفيدة كان قد ألقاها أستاذي الدكتور عبد المجيد شكير يوم السبت 12 أيار(مايو) 2007م في مهرجان المسرح الأمازيغي الاحترافي بالدار البيضاء الذي نظمته جمعية تافوگت.


[1أحمد زكي: عبقرية الإخراج المسرحي، الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة، ط1، 1989م ص:75؛

[2انظر: د عبد المجيد شكير: الجماليات المسرحية،الطبعة الأولى 2005م، دمشق، سوريا؛ وانظر كذلك كتابه القيم: الجماليات، دار الطليعة الجديدة، الطبعة الأولى سنة 2004م، دمشق، سوريا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى