الاثنين ٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم علي القاسمي

وطني، يا مرفأ الأحزان!

قال لي أبي وهو يودّعني في مطار بيروت:

 " ستعبر إلى الضفة الأخرى، يا بُنيّ..."

ثم سكت فجأة وأشاح بوجهه بعيداً عني، مصوّباً نظره إلى الشمس الغاربة وراء المطار وكأنّه يحاول أن يدفن دمعة مكابرة في الأفق النائي، أو يلقي بها في أعماق البحر السحيقة دون أن ألحظ ذلك. وبعد هنيهة عادت نظرته من السماء إلى الأرض مثل قوس قزح واستقرّت عليّ، واستأنف كلامه قائلاً:

 " ستعبر، يا بُنيّ، إلى الضفة الأخرى، وسترى وجوهاً جديدة، وأشجاراً مورقة، وستناديك أصوات متنوّعة. ولكن، ولكن لا تنسَ أهلكَ ونخيلك على شاطئ الفرات. لتبقَ ظلال سعف النخيل على عينيك كأهدابك، ولتبقَ أهازيجنا على شفتيك كريقك. واعلمْ أنّنا سنظلّ نناديك على البُعد، وسنذكرك كلّ يوم عند انبلاج الفجر، وابتسام الصباح، وضحكة الشمس، وزغردة الطيور الطليقة. سنذكرك كلّما استمرأنا طعاماً واستسغنا شراباً. سنذكرك مع الشمس الغاربة والنجمات الطالعة، وسنرى صورتك في وجنة القمر. سنحمّل النسيم سلاماً إليك. سنردد اسمكَ في صلواتنا داعين الله أن يحفظك ويردّك إلينا سالماً..."

وقطع كلامه مرة أخرى وأشاح بوجهه عني نحو الأفق البعيد، ثم اختنقت الكلمات، ولم يسعفه صوته، فضمّني إلى صدره.

لم أفُه بكلمة، لم أنظر في عينيه، بل أخذتُ كفّه اليمنى بين يديّ، وضعتها على موضع القلب منّي، ثم مرّرتها على وجهي، قرّبتُها من فمي، لثمتُ أصابعها واحدة واحدة، نفذت رائحةُ المسك منها إلى رئتيّ. ما أطيب رائحتك يا أبي، وما أطيبك. كنتَ تحنو عليّ طفلاً، فأحببتُك. وعلّمتني وناظرتني فتىً فاحترمتُك. كيف أنسى يا أبي تُربة أهلي، وماء الفرات، ونخلة أُمّي. فقد تشرّبت بها روحي، وسرتْ في دمي، ونبضَ بها قلبي. وهل يحيا المرء بلا قلب؟ كيف أنسى يا أبي وطني، ليتني كنتُ أستطيع ذلك لحظة واحدة لأستريح، فهو يسكن كياني، ويملأ أحلامي.

ألا تعلم، يا أبي أنّني، منذ ذلك الفجر الذي احترفتُ فيه الرحيل، والشمس تشرق كلّ صباح في عيني من العراق، وتغيب كلّ أصيل في العراق، وأنّ ساعتي أدمنت توقيتَ بغداد، أينما ذهبتُ، لأنّ هذه الساعة التي أهديتَها إليّ، ذات يوم، تعمل بالنبض، بنبض قلبي الذي تجسّه في معصمي. وقلبي ينبض بحبّ الوطن.

تخشى، يا أبي، أَنني قد أنسى وطني حينما أعبر إلى الضفة الأخرى، وأنتَ على يقين، يا أبي، أنّني في أيّ المحيطات أبحرتُ، وفي أيّ البحار نشرتُ أشرعتي، فإنّ بوصلة القلب ستبقى متجهةً دائماًً نحو منائر وطني، وأنّ سارية الروح ستظل أبداً ملفّعة بشال أُمّي وضفائر أختي. وسأستنشق عبير بستاننا في نسيم البحر. وسوف يغتسل طيف بلادي في مجرى مركبي، وأرى خيال أعناق نخلاتنا في الغمائم فوق السفن. وسيجري ماء الفرات، على الدوام، في عروقي وأوردتي وشراييني ودمعي. وسألبثُ صادياً ظمآنَ لن أرتوي إلا ببلّ شفتيّ ببضع قطرات من ماء الفرات الفرات.

وطني هو ذلك النهر المنساب برقّة في أحضان قريتنا الوديعة. وطني هو النخلات التي تحنو على النهر ويتدلّى سعفها الطويل في مجراه، فتمتزج خضرتها بزرقة السماء على صفحة مائه. وطني هو سرب البجع الذي كان يسبح مع مجرى التيار قادماً من أعالي النهر، فكنت، في طفولتي، أعوم نحوه جذلاً، أُطلقُ صرخات الفرح، أطارده بمرح، ترفرف أجنحته، يرتفع طائراً على سطح الماء، فانبهر به.

وطني هو حكايات أُمّي والنعاس يداعب أجفاني في دفء فراشي في المساء. وهو قبلة أُمّي على جبيني وضمّة أُمّي إلى صدرها وهي توقظني في الصباح. وهو خلطة الحليب بالعسل التي كنتَ تسقيني في الفطور ، وهو جدائل أختي الكبرى المترنحة على كتفيها وهي تقودني إلى المدرسة.

وطني هو الراعية الصبيّة، عيدة، ذات الوجه الأسمر المليح المتناسق التقاطيع، والجسم الناحل الصغير، والذؤابتين المنفلتتين من عصابة رأسها السوداء. عيدة التي كنت، في صغري، أجري خلفها وهي مسرعة إلى عملها في المروج، وأنا أنادي: " عيدة، عيدة" فتلتفت إليّ، ملوحة بعصاها مهدّدة، وهي تقول: " وجعة شديدة، وأيش تريد من عيدة؟" فكنتُ أضحك للهجتها البدويّة، وللحزم البادي على وجهها الأسمر.

هل كنتُ أعبث، يا عيدة، حين كنتِ تعملين بجدّ، فاستحققتُ لعنتكِ؟ إذن، الآن وقد أدركتُ معنى العمل بعد هذا العمر، أعذركِ واطلب منكِ العفو. أتدرين، يا عيدة، أنّ ذاكرتي ظلتْ موشومة بملامحكِ التي لوحتها شمس بابل بسحرها، موشومة بعينيك اللامعتين مثل نجمتين، بشفتيك المكتنزتين اللتين قبّلتهما عشتار، وببريق أسنانك اللؤلؤية. ما تذكرتُ طفولتي، يا عيدة، إلا وكنتِ أنتِ تركضين في مروجها الخضراء بهمّة وحزم، تردّين نعجة شاردة إلى القطيع، أو تنحنين لتحتضني حَملاً صغيراً لم يستطع مجاراة القطيع، أو تعدّين غنمك بالعصا قبل العودة إلى المَراح، وتركضين وتركضين وكلبك يجري خلفك دوماً كما لو كان مشدوداً بخيط إلى أذيال ردائك ذي القبّ المطرّز والسلهام الطويل.

ولكنْ، قولي لي، يا عيدة، أين أمسيتِ اليوم؟ هل عدا عليك الزمن الذي لا يرحم كما عدا عليّ؟ هل غزا الشيب مفرقك؟ هل أقعدتك الشيخوخية فلا تستطيعين المشي، بله الركض؟ أم أنّ يد الموت قطفتك قبل الأوان كما كنا نقطف التفاح في بستاننا؟ وكيف مرّت حياتك؟ هل كنتِ سعيدة؟ أم أنّ الناس في القرى والأرياف لا يعرفون معنى السعادة؟ حسناً، هل تزوجتِ؟ وهل كان زوجك رجلاً طيّباً؟ هل عاملكِ برفق؟ هل أنجبتِ أطفالاً بمثل ملاحتك، وسمرتك، وحدّة لسانك؟ وأين هم الآن؟ هل أُتيحِت لهم فرصة التعلّم في المدرسة؟ هل مارسوا أعمالاً أقل عنتاً من الفِلاحة والرعي؟ أم التهمتهم نيران الحروب التي دمّرت وطني؟

أتذكرك، يا عيدة، فأضحك من أعماقي. أنا الذي نسيت طعم الضحك في فمي منذ سنوات. أضحكُ من كلماتكِ التي كنتِ تنطقينها بنبرة حادّة: " وجعة شديدة، وأيش تريد من عيدة؟" هل كنتِ تعدّينني طفلاً شقيّاً يبتغي إضاعة وقتك فتردعيني بأقسى الكلام، وبتلويح من عصاك الطويلة؟

أتذكّر أنّ أمي ذات يوم طلبت من قارئةِ كفّ ألمّت بقريتنا أن تقرأ كفي وكنتُ يومها صبيّاً. أخذت المرأة كفّي، بسطتها بين راحتيها، أطالت النظر إليها، ثم تحوّل نظرها تحديقاً، اكفهرّ وجهها، زمّت شفتيها، لوت عنقها، أدارت وجهها نحو اليمين ونحو الشمال، كأنّها تبحث عن مهرب. لم تُرِد أن تنطق بما رأت، لم تشأ أن تصدم أُمّي. تُرى هل رأت تلك المرأة فعلاً دمي يُسفَح في غربتي؟ أم بلغت أُذنيها صدى بكائياتي السومريّة.

رفعتُ رأسي لأنظر في وجه أَبي. لمحتُ احمراراً في عينيه. قرأتُ فيهما غضباً يُخفيه مثل جَمر تحت الرماد، أحسستُ أنّه يدثّر قلقاً عميقا بكبرياء جريحة، كما يقلق أَسد مكبّل في قفص وهم يقتادون شبله بعيداً عنه، لا يدري إلى أين. بدت على ملامحِ وجهه تلك الهيئة التي استحوذت عليها يوم أخبروه باستشهاد ابنه البِكر أحمد في معركة جنين في فلسطين.

ولكي أغيّر الموضوع، سألته:

 " وكيف خلّفتَ أُمّي وراءك، يا أبي؟ّ

قال بإباء:

 " كم كانت تودّ مرافقتي لرؤيتكَ. ولكنّني كنت أعلم أنّ قلبها لا يحتمل ساعة الوداع فأقنعتُها بالبقاء."

تمنيتُ في تلك اللحظة أن أعود إلي قريتي وأن لا أسافر إلى أمريكا. تمنيتُ أن أعود وأُلقي ببقايا روحي المبعثرة في أحضان أمي، أطوّق عنقها بيديّ، أقبّل وجنتيها، وألثم يديها، وأشمّ رائحة الحناء في ذوائبها البدويّة. ولكنّني غادرت البلد مُكرَها نزولاً عند رغبة أبي وإلحاح أمي وحثّ الرفاق لي. وجئت إلى بيروت مع رفيق لي حفاظاً على حياتنا. ولكن ما معنى حياتي وأنا بعيد عن أهلي ونهري وبستاني ونخلاتي وجوادي ومروجي الخضراء. وهل يبقى معنى لذاتي مجرّدة من أحاسيسي ؟ كلّ الكائنات في قريتي تتشبث بجذورها شامخةً حتى الموت، فأشجار النخيل في بستاننا تموت وهي واقفة؛ وأسراب البلابل تموت وهي محلِّقة؛ إلا أنا، فها أنا ذا أسير، بخنوع مطأطئ الرأس، أبحث عن منفى موحش الدرب لأدفن فيه خوفي وجُبني.

لم أحمل معي شيئاً يُذكَر من قريتي، مجرّد أشياء صغيرة ليست ذات شأن ولكنّها كانت تعني لي الكثير الكثير. وضعتُ في حقيبتي حفنة تراب من بستاننا، وخوصة خضراء انتزعتها من إحدى سعفات نخلتنا برفق وبيد مرتعشة وشفتين واجفتين كأنني أعتذر لها عمّا أفعل أو أتلو عليها بكائيات الوداع، وريشة من ريشات بطتي الأثيرة كانت ملقاة على حافة الحوض في حديقة المنزل، وشالاً أسود لأُمّي أخذته من صندوق ملابسها دون أن أخبرها، طويتُ فيه نايي وخبأته وسط ملابسي في الحقيبة. ولكنّ قصدي الحقيقيّ منه أن ألفَّ به رأسي إذا ما داهمتني الحمّى يوماً ما لعلّ رائحة أُمّي العالقة به تُشفيني مثل تميمة أو بلسم سحريّ. وارتديتُ بذلتي السوداء كما لو كان لون الفراق أسود. وعبرت باحة الدار في اتجاه الباب، ولكنني توقفتُ في وسط الباحة عند البئر. رفعت الغطاء عنها، نظرتُ إليها، حدّقتُ فيها، رأيتُ القمر منعكساً في مائها العميقة، وعادت إليّ القصة التي سمعتها عن بئري هذه، رمز الحياة والموت لي ولأمي.

(فقرات من رواية للكاتب عنوانها " مرافئ الأحزان" ستصدر عن دار الآداب في بيروت)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى