الأحد ٣ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم فؤاد أفراس

المتصوفة و الشعر

توطئة : إن التصوف موضوع يمكنه أن يغري أي دارس لغناه و تشعبه و امتداده، و كذا لما يحفل به من أسرار، فالتصوف _ حسب أدونيس_ مرتبط بما هو خفي، هذا الخفي لا يمكنه إلا أن يأسرنا لخفاه، و لا يمكن إلا أن يشوقنا لبعده و احتجابه، خصوصا إذا ما تم ربط هذا الخفي بخفي آخر، و هذا المحتجب البعيد بمحتجب بعيد آخر ألا وهو الشعر ..

بما أن المتصوفة هم أصحاب ذوق، يعيشون تجاربهم الوجدانية من خلال انفتاحهم على الفن من سماع و خط، فقد كان من البديهي أن يحتل الشعر الحيز الأكبر من هذا الانفتاح، فقد ( خبر الصوفية منذ وقت مبكر إمكانات الشعر لا في التعبير عن مواجدهم فحسب، بل و في إنتاج معرفة بالوجود و بالإنسان كذلك ) [1] ،ومن ثم حرصوا على الاتصال بالشعر، دون انتقاء موضوعات معينة،أو الاقتصار على شعراء بعينهم،أو على شعر مرحلة زمنية دون أخرى، فنحن ( نعثر في كتب الصوفية على أشعار امرئ القيس ولبيد وقيس ليلى و جميل بثينة و أبي نواس و أبي تمام و المتنبي و غيرهم.. ) [2] ، وهذا يوضح مدى متانة علاقة المتصوفة بالشعر ، (.. فهم بهذا أصحاب ذوق، و أهل شعر، يصعب عليهم أن يعيشوا تجاربهم الروحية، دون أن يكون للشعر نصيب في إحياء قلوبهم الظامئة، ونفوسهم المتعطشة، و أرواحهم التي تطرب لمعاني القصائد الرقيقة) [3] ، و هذا دأبهم في الاستماع إلى الشعر، و تنظيم مجالس خاصة به، و ذلك للوصول إلى حالة الوجد، ف ( حاجة التصوف إلى الشعر، جاءت تلبية لرغبات مجالس الصوفية التي تتخذ من السماع بابا من أبواب تحقيق اللحظة الصوفية ، التي ينسى فيها المريد مكانه و زمانه، و يندمج في الزمن الروحي الذي لا تقيده الدقائق و الساعات ، و ينخرط في حال الوجد و الهيام ) [4] ، وعلاقة ة المتصوفة بالشعر لم تقتصر على السماع و القراءة و الاستهلاك ، بل تعدته إلى الإبداع و الإنتاج ، فسجل لنا تاريخ التصوف متصوفة شعراء أبدعوا في الشعر بالقدر الذي أبدعوا في تصوفهم ، ف ( .. بعدما شاع التصوف وقويت شوكته، ظهر بين المتصوفة شعراء أخضعوا الشعر للتجربة الصوفية..) [5]و في هذا الباب يمكن أن نذكر أسماء شعراء كبار أمثال : الحلاج و ابن عربي و ابن الفارض و رابعة و غيرهم .

و الإنتاج الشعري الصوفي يمكن تقسيمه إلى المنظومات و الإلهيات ، و المعيار المعتمد في هذا التقسيم هو المعيار الفني ؛ فالمنظومات هي أقل فنية و شعرية من الإلهيات ، ف ( المنظومات الصوفية من حيث الخصيصة الفنية هي أقرب إلى النظم من الشعر ) [6] ، و ( قد استعان الصوفية بالنظم في مسعاهم التربوي لتعليم أبجديات التصوف للمريد و ظهر عندهم ما يسمى بالشعر التعليمي أو المنظومات الصوفية ) [7] ، و بالتالي فغلبة الجانب التعليمي على هذه المنظومات أفقدها روح الشعر و ماء الفن ، ( شأنها شأن النظم التعليمي الذي ظهر عند النحاة و اللغويين و اهل الفقه و الحديث ليساعد على حفظ القواعد و ذيوعها بين المتعلمين ) [8] ، و بالتالي ( فإننا يمكن اعتبارها الحدود السفلى للشعر الصوفي ) [9] ، أما موضوعات هذه المنظومات فقد توزعت بين القواعد الذكرية و القواعد الأخلاقية للتصوف ؛ مثل مفاهيم الاتصال بين الحق و الخلق ، و نظرية الوحدة ، و معنى الاتحاد ، و مفهوم الربوبية ، و مفهوم العبودية ، و حقيقة الأشياء ، و الحقيقة المحمدية ، و الحمد للذات الإلهية ، و كذا خصال المتصوف و صفاته في خلوته مع نفسه ، و في المجالس التي تجمعه مع أمثاله من المريدين ... إلخ .

أما القسم الثاني من الشعر الصوفي و هو الإلهيات ، فيعتبر أرقى ما خلفه و أبدعه المتصوفة من الشعر ، فهو على درجة كبيرة من الفنية و الجمالية ، و إن تحققات هذا الشعر تمت من داخل الوزن ومن خارجه ، بل إن المنثور من هذا الشعر هو أعلى قيمة من منظومه ، لغناه بالإشارة و الرمز و الإيحاء ،و انفتاحه على المتعدد من المعني و الصور ، و يتجلى ذلك بشكل خاص في كتابات النفري ( المواقف و المخاطبات ) و أبي حيان التوحيدي ( الإشارات الإلهية ) و البسطامي ( الشطحات )، و كثير من كتابات محيي الدين بن عربي و السهروردي .. ، و هذا القسم من الشعر الصوفي اجتذبته موضوعات الأحوال و الأسرار و الحب الإلهي . و إن سماته الفنية و الجمالية التي جعلته ينتسب إلى جنس الشعر _ دون احتساب خصيصة الوزن _ يمكن أن نجملها فيما يلي :

الخيال : فقد أولاه المتصوفة عناية خاصة ، و من هؤلاء ابن عربي الذي عرف الخيال على انه الحد الفاصل بين المعلوم و المجهول بين المحسوس و المعقول، و هذا الحد الفاصل يسميه ابن عربي بالبرزخ ،( ومن ثم كان تموقع الخيال في منطقة و سطى بين الحسي و العقلي، وهو ما يؤهله لالتقاط الحقائق بعيدا عن الفصل و بعيدا عن ضيق الثنائيات ) [10] ، فالخيال باعتباره أعظم ما أوجدته القدرة الإلهية، يكشف عن قصور العقل و محدوديته في إمكان الخيال الجمع بين الضدين، ووجود الجسم في مكانين، و التقاط الشئ في تبدله وتقلبه و غيرها من وظائف الخيال و ممكناته اللامحدودة ,و هذا يجعل الخيال ( ركنا مركزيا من أركان المعرفة لدى الشيخ الأكبر. ومن ثم فإن كل فصل لتصور ابن عربي للشعر عن تصوره للخيال ووظائفه يعد خللا منهجيا يحول دون الاقتراب من الموجهات المتحكمة في رهان الشيخ الأكبر على الشعر ) [11] ، و إن رهان ابن عربي على الشعر يتجلى في توسله بهذا الأخير في تفسير و تأويل العديد من القضايا الشائكة و ذلك بالإنصات إلى بيت شعري أو مقطع من قصيدة، و إلباسه من المعاني و الدلالات ما يجعله يخرج عن معناه الظاهر إلى معنى آخر مختلف و بعيد .

التكثيف : ويتجلى في كتابات المتصوفة في أدائهم للمعاني الكثيرة بألفاظ قليلة و موجزة، لا تخرج عن نطاق الجملة الواحدة أو الجملتين، و لجوء المتصوفة إلى التكثيف كان بضغط من المعاني الكبيرة و الرؤى العظيمة التي تصل بهم إلى حدود ما لا يقال،فهذا الضغط الذي تعيشه و تقاسيه روحهم، انعكس في لغتهم على شاكلة تلك العبارات القليلة و الموجزة، ف ( كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة ) حسب التعبير الشهير للنفري . فتكثيف العبارة و تضييقها، هو رد حتمي على عجز اللغة عن احتواء المعاني الكبيرة, و إيثار للصمت و فسح مجال أرحب للبياض لكي يختزن فيوضات المعنى و انهمارات الرؤى. و خاصية التكثيف نلمسها بشكل جلي في كتابات عبد الجبار النفري و بالأخص في ( كتاب المواقف و المخاطبات )، فاستشعارا منه بعجز اللغة، لجأ النفري إلى شكل كتابي سماه بالوقفة و ( اتسمت الوقفة في الممارسة النصية للنفري بالبداية التالية : أوقفني في ... و قال لي . و تمثل هذه البداية لازمة تفتتح بها كل و قفة . كما تتكون الوقفة من شذرات مكثفة يتم الانتقال فيها بعبارة و قال لي .و تظل التيمة التي تدور حولها الوقفة هي الوصل بين هذه الشذرات المكثفة ) [12] ، أما بنية المخاطبات فتقوم على هذه اللازمة ( يا عبد )، و هذا التكثيف و التشذير _ كما قلنا _ هو محاولة للتحرر من سلطة اللغة؛ فالحرف بالنسبة للنفري هو حجاب و سوى و عاجز عن أن يخبر حتى عن نفسه، فهو _ باختصار _ لا يعول عليه في بلوغ الحقائق المطلقة التي ينشدها الصوفي، لأن الوقفة لديه هي ( وراء ما يقال.. )


[1مدخل إلى العلاقة بين الشعر و التصوف ( خالد بلقاسم ) -مجلة البيت- ع:1 خريف 2000. ص: 77

[2المصدر السابق ص 74

[3الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر ( د.محمد بنعمارة) -شركة النشر و التوزيع المدارس ط:1 ص:349

[4المصدر السابق ص 350

[5المصدر السابق

[6الأثر الصوفي... م.س.ذ ص:113

[7مدخل إلى العلاقة... م.س.ذ ص:77

[8الأثر الصوفي ... م.س.ذ ص:113

[9مدخل إلى العلاقة ... م.س.ذ ص:77

[10الكتابة و التصوف عند ابن عربي - خالد بلقاسم - دار توبقال للنشر . ط :2004 . 1 ص: 149

[11المصدر السابق ص 148

[12المصدر السابق ص 204


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى