الأحد ٣ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم مصطفى نصر

انهيـــــــــــار

انطلق الدوى الهائل المصاحب للأتربة التى غطت مدخل الشارع الطويل حوالى التاسعة صباحا . العديد من الأسر كانت نائمة ، والكثير من النوافذ والشرفات كانت مغلقة .

أيقظ – ذلك الدوى الهائل – الجميع ، ماذا حدث ؟! . الواجهة المطلة على الداخل فى بيت الحاجة كريمة انهدمت .
الهدم كان متوقعا ؛ خاصة بعد هدم البيت المجاور له ؛ والذى يطل على الناصيتين ، هدمه كشف هذه الواجهة المتهالكة .

خاف العديد من سكان البيت على أنفسهم ؛ فتركوا البيت وحملوا أمتعتهم خشية أن تتحطم أو تضيع إذا أنهدم البيت فجأة . لكن أسرة الحاجة كريمة – صاحبة البيت ، والتى تسكن الدور الخامس والأخير – لم تبرحه .فأين يذهبون ؟ الحاجة ماتت منذ سنوات قليلة تاركة أسرتها الصغيرة: البنت منيرة التى فاتها قطار الزواج ، والابن الأبله الذى بلغ سن الشباب ومازال يتصرف كطفل صغير ، كانا يعيشان وحدهما فى الدور الأخير من البيت . الحاجة هى التى كانت تتصرف فى كل شئ . موتها جعل الولد والبنت لا يعرفان التصرف فى شئ ، حتى أجرة الشقق امتنع السكان عن سدادها لهما .

صرخت البنت منيرة وأسرعت ناحية الواجهة التى وقعت ، وقفت على حافتها نظرت إلى الأرض الفضاء التى خلفها هدم البيت المجاور الذى كان على الناصيتين ، بينما سمير يقف ببيجامته، لم يصرخ ، أراد أن ينظر إلى أسفل خلال الفراغ الذى أحدثه الهدم المفاجئ ، فشدته أخته ولامته .
وانطلقت صرخات أخرى من شقق الذين فضلوا البقاء رغم التحذيرات المتكررة من احتمال وقوع البيت فى أى وقت ؛ على أمل أن تعطيهم الحكومة سكنا بديلا. وتجمع الناس حول البيت . الواجهة التى وقعت أخذت معها سلم البيت . الموجودون فى البيت – الآن – لن يستطيعوا النزول منه .
أسرع الناس ، هرولوا : اتصلوا ببوليس النجدة .

وصرخت البنت منيرة ثانية ، ورآها الناس تشد أخاها إلى الداخل .

أقام رجال الدفاع المدنى سلمهم الطويل ، وأمالوه ناحية الفراغ الذى أحدثه هدم واجهة البيت ، واقترب الموجودون فى البيت من هذه الفتحة فى انتظار أن يحملهم جنود الدفاع المدنى وينزلونهم .

وقف سمير خلف أخته منيرة وهى مذعورة ، يرتسم الخوف على وجهها ، وتبدو العصبية فى حركاتها ، لكن سميرا بدا هادئا .
أصدر الضابط أوامره لرجاله ، والمساعد العجوز أبعد الناس عن السلم المائل .
جاءت مجموعات من أحياء مجاورة لمشاهدة ما يحدث ، فهم لا يرون هذا كثيرا ، رأوا بيوتا كثيرة تهدم ، لكنهم أول مرة يرون الجنود ينزلون السكان عبر السلم المتحرك .

حمل رجل الدفاع المدنى منيرة ، صرخت عندما اقترب الجندى منها ، لكنها لم تبتعد ، حملها فوق كتفه وهبط الدرجات بمهارة ، عندما استقرت فوق كتفه كفت عن الصراخ وحركت ذراعيها كأنها تسبح فى الماء .

وصعد الجندى الشاب ثانية ، كان هادئا وابتسامة صغيرة تعلو وجهه. وصل إلى الدور الأخير ، لكنه لم يجد سميرا . الولد أسرع إلى الداخل ، اختبأ تحت السرير . وقف الجندى الشاب فوق أعلى السلم فى مواجهة مدخل الشقة الذى أحدثه الهدم حائرا ، ثم نظر إلى أسفل متسائلا ، قال الضابط:

  دعه ، وانزل الآخرين .
  صرخت منيرة : أخى ، أخى .
قال الضابط الشاب:
  لا تخافى ، سنأتى به بعد إنزال باقى السكان الموجودين فى البيت .
نزل الجندى ، حاملا امرأة عجوز ، ساعدته ابنتها فى حملها ، وظلت منتظرة عودته ليحملها – هى الأخرى – ويهبط بها ، وانطلقت همهمات من الموجودين حول الضابط وجنوده والسلم المتحرك ، صاحوا وأشاروا إلى الدور الأخير . فنظر الضابط إلى ما أشاروا إليه ، فرأى سميرا ينظر من الفتحة ويمسك بحافة الجدار .
صرخت منيرة : أدخل يا سمير ، سيأتون لأخذك .
لكنه لم يدخل ، وقف الجندى الشاب أمام الضابط ، لقد انزل كل السكان الموجودين فى البيت ما عدا سمير ، كان الرجل يلهث .
أمسكت منيرة ذراع الضابط وتوسلت إليه :
  أرجوك .أخى سيقع ، أرجوك .
  لا تخافى ، لابد من إنزال كل الموجودين ، لقد جئنا من أجل ذلك .

قال رجل عجوز يسكن قريبا من البيت :
  قد ينهدم البيت فجأة ، فوقوع الواجهة إنذار لوقوعه فى القريب العاجل .
صعد الجندى ثانية، وسمير مازال يمسك بحافة الجدار المتآكل ويخرج ساقه إلى الهواء. لكن عندما وصل الجندى إليه ؛ أسرع إلى الداخل . نظر الجندى إلى أسفل ، فقال الضابط:
  أتبعه ، هاته .
دخل الجندى ، غاب قليلا عن مرأى العيون، ثم عاد بدونه ، وقف على حافة السلم . ربما لم يجده بالداخل، أو خاف من أن يهدم البيت فجأة ؛ فهو يقع على مراحل، وهناك فجوات عديدة متناثرة.
_ قالت امرأة تقف قريبا جدا من الضابط :
  حرام أن يضيع شاب مثل هذا من أجل ولد أبله .
شدتها منيرة من ذراعها فى عنف :
  تريدينهم أن يتركوه ؟!
وصاح رجل آخر يبدو أنه غريب عن الحى .
  السيدة عندها حق، الشاب سيموت من أجل ولد عبيط .
بكت منيرة وصرخت ونزل الجندى الشاب ، قبل وصوله إلى الأرض سمع صوت همهمات وصرخات من منيرة لأخيها :
  لا تخف يا سمير، لا تتحرك ، سيأتون لأخذك .

كان سمير يقف كما كان ، ممسكا بحافة الجدار ومحركا ساقه فى الهواء .
وعاود الجندى الصعود ، لكن عندما وصل الدور الأخير لم يجده . ضحك البعض من تصرفات سمير. قال رجل آخر :
  إنه روح يا جماعة ولابد من إنقاذه .
أكثر الموجودين يؤيدون نزول الجندى تاركا سميرا ؛ حفاظا على حياة الجندى الشاب . فقد يدخل الشقة ويجرى خلف سمير فيقع فى فجوة من الفجوات الكثيرة هناك . لكن سميرا اعتاد عليها ويعرف كيف يتفاداها .
أمسكت منيرة ملابس المرأة التى صرخت خائفة على حياة الجندى ، قالت لها :
  حرام عليك .
أرادت منيرة أن تخمش وجهها بأظافرها . حينذاك نزل الجندى واقترب من الضابط ونظر الجميع إلى سمير وهو يمسك الجدار بيديه ويحرك ساقه فى الهواء .
قبل أن يصدر الضابط أمرا جديدا للأتيان بسمير، فوجئوا بحمدى يسرع إلى السلم الخالى ويصعده ، قال الضابط :
  ماذا يفعل هذا المجنون ؟! أنزل . أنزل .
أم حمدى كانت موجودة ، صاحت فى ابنها وسبته . أراد الضابط أن يصيح فى جنوده ليعودوا به ، لكن شيئا خفيا منعه ، فهو لم يكن قد وجد طريقة لإنزال هذا الولد الأبله الذى يلاعبهم ويحاورهم ، ولا يمكن أن يذهب قبل إنقاذه . كما أنه لا يمكن أن يضحى بجندى من جنوده من أجله .

حمدى هذا ليس غريبا عن الحى ،هو كثير التردد على قسم الشرطة التابع للمنطقة. الضابط هناك يعرفه بالاسم . وكلما مر البوكس فورد ورآه واقفا فى الشارع يأخذه معه ؛ فمشاكله كثيرة، يتشاجر ويتدخل فيما لا يعنيه . آخر مرة حدث له هذا ؛ عندما طلب منه أحد معارفه أن يخدمه فى مشكلة له .
المشكلة هى أن ابن ذلك الرجل قد استأجر شقة فى عمارة جديدة ، لكن صاحبها أجرها لأكثر من ساكن ؛ واستطاع أحدهم أن يدخل الشقة ويشغلها هو وأسرته . والخدمة التى يريدها الرجل من حمدى أن يخيف شاغل الشقة ، يريه العين الحمراء ويجعله يتركها ليأخذها هو . فالشقة - فى هذه الحالة – من حق شاغلها .

أخذ حمدى صديقين له ، وصعدوا إلى الشقة المنشودة هددوا الرجل بأنهم سيقتلونه هو وأسرته إن لم يخلى الشقة الآن . خضع الرجل لهم وأرسل ابنه لإحضار سيارات لحمل الأثاث، وأجلسهم حوله ، وقدم إليهم الشاى والسجائر . وفجأة جاء الضابط ورجاله وأخذهم . فالولد بدلا من الذهاب لإحضار سيارات النقل ؛ ذهب لاستدعاء الشرطة للقبض عليهم .

تلك حكاية من حكايات حمدى العديدة التى جعلته معروفا فى الحى ، لكنه الآن وصل إلى الدور الأخير ، كان يصعد السلم المتحرك بساقيه ويديه . نظر حوله لم يجد سميرا ، فقد هرب ككل مرة . لكن حمدى لم يتركه . صاح الضابط فيه :
  انزل أنت ، أنزل .
وصاحت أمه فيه :
 ستقع يا حمدى ، انزل .

لكنه لم يهتم ودخل الشقة ، هو يعرفها جيدا ، فكثيرا ما جاءها وجالس الحاجة كريمة قبل أن تموت ، كانت تعطف عليه وتقدم الطعام إليه ، وكان يشترى لها لوازمها من السوق .

عاد حمدى بسمير، لم يحمله عنوة ، بل أمسكه من يده وسار به ، وهو يحدثه ، فسمير يطمئن إليه . جعله يضع قدميه فوق أول درجة من درجات السلم ، وحمله وهبط به وسط التصفيق والتهليل .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى