الخميس ٧ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم كمال الرياحي

روما محرقة الهويّات

قراءة في فضاءات الآخر في رواية الجزائري عمارة لخوص
هي ذي أرض العذاب
لا غد آت و لا ريح تضيء
أي صوت سيجيء
يا أحبّائي في أرض الغياب
أدونيس

تمثّل رواية عمارة لخوص "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضّك؟" [1] رواية نموذجية لمقاربة صورة الهوية و تحوّلاتها ,فقد قدّم الروائي الجزائري سؤال الهوية الثقافية في مواجهتها للآخر في نصّ سردي متميّز .و يكتسب هذا النصّ تميّزه من أنسنة السؤال : سؤال الهوية ,فلم يعالجه الروائي من خلال تيمة شرق/ غرب ,و التي سبقه إليها عدد من الروائيين المعاصرين و غير المعاصرين : الطيب صالح ( موسم الهجرة إلى الشمال) و سهيل إدريس ( الحي اللاتيني)....بل تناول السؤال من خلال ثنائية أخرى أصبحت أكثرا إلحاحا في واقع العولمة الذي أنتج خطاباته الخاصة ,هذه الثنائية هي : شمال /جنوب ,فاتسعت بذلك فضاءات السؤال و امتدت شواطئ الطرح . يجمل بنا في البداية أن نضع حدودا لبحثنا و أفقا مرتجى له ,إنه – البحث- لا يطمح إلى تقصّي هويّة الخطاب الروائي ,لأنّ ذلك مبحث آخر لا ندّعيه و قد التفت إليه عدد من الباحثين و النقّاد الذين انشغلوا بأشكال تأصيل الرواية العربية ....إنما ينحصر بحثنا في تحسّس صورة الهوية و تحوّلاتها كما قدّمتها رواية عمارة لخوص "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضّك؟" ,و لأنّه يحلو لي دائما دخول الكتاب من عتباته.ليس تيمّنا بالمثل العربي "البيوت تدخل من أبوابها" إنما استجابة لأدبيات النقد الأدبي المعاصر و الإنشائية تحديدا و التي تولي تلك المصاحبات النصّية اهتماما كبيرا [2] فقد لفتت انتباهنا بعض الإشارات التي رأينا أنه لا بدّ من مساءلتها و الانطلاق منها باعتبارها مفاتيح ممكنة لدخول هذا النصّ الروائي و مقاربته من الزاوية التي حدّدناها سلفا: الهوية و الفضاء ,و كان ذلك الاختيار نتيجة لما وجدناه في هذه الرواية من سندات ترشّحها إلى هذه المقاربة .

سؤال الهوية و العتبات

جاء العنوان في صيغة سؤال انكاري. يعلن عن علاقة عاطفية مستحيلة بين طرفين ,يمثّل الطرف الأول الذئب/المؤنّث (الذئبة) بكلّ ما تستدعيه كلمة ذئب من دلالات الذكاء /الدهاء و الافتراس و العدوانية و الانقضاض و الغدر ....كما تشي حالة الذئبة المرضعة بترفها من ناحية و بخطرها من ناحية أخرى ,إذ المعروف عن الحيوان المفترس أنّه يشتد عدوانية في حالة الأمومة

أما الطرف الآخر فمجهول يمثّله ضمير المخاطب (أنت) و يشي الفعل الثلاثي المجرّد الذي أسند له في المضارع (ترضع) بهشاشته فالرضاعة دالة على ضعف الكائن /الرضيع ,و عدم اكتمال نموّه و قد يوحي التجاء هذا الرضيع إلى ضرع الذئبة بيتمه أو ضياعه أو ب"يقظانية" جديدة [ حي بن يقظان] ,ومن ثمّ فنحن أمام طرفي علاقة عجيبة :

1- ذئبة مرضعة شرسة

2- رضيع مجهول ضعيف تائه ...

إن قراءة هذا العنوان في ضوء النصّ الروائي تكشف لنا أن الذئبة ليست سوى روما التي يرمز إليها بتمثال الذئبة. [3]
أما ضمير أنت /الرضيع فهو المهاجر المنحدر من بلدان العالم الثالث دون تفرقة اثنية .
إن الالتفات إلى ظهر الغلاف و قراءة تعريف الكاتب يشي بارتباطه بهاجس الهوية فنقرأ الأسطر التالية :

" عمارة لخوص روائي و باحث جزائري مقيم بايطاليا صدر له " البق و القرصان" رواية باللغتين العربية و الايطالية .ناقش رسالة الماجستير حول إشكالية الهوية عند المهاجرين المسلمين"
تدفعنا هذه العتبة النصّية إلى السؤال:
لماذا كتب عمارة لخوص هذه الرواية ؟

هل كانت أطروحة إبداعية موازية تردّد ما توصّل إليه عمارة لخوص الباحث في بحثه العلمي ؟
أي صورة لهذه الهويات الجنوبية في فضاءات الشمال؟
هل ستكون الرواية ورقة إدانة لهشاشة العلاقة بين الأنا و الآخر ؟

هل ستكون بيانا لثقافة التسامح كما تشي بذلك العتبة النصّية الثالثة :الإهداء الذي خص به المؤلف صديقه الايطالي روبرتو دي أنجليس [4] ؟ أم هي نص ملتبس كما الحقيقة في العتبة النصّية الرابعة :التصديرات التي جاءت على ألسنة ثلاث هويات :واحدة عربية مشرقية يمثلها أمل دنقل و أخرى غربية ذات أصول عربية يمثلها ليوناردو شاشا( 1921-1989) و ثالثة عربية جزائرية يمثلها الفقيد الطاهر جاووت ؟! [5]

"إن الرواية هي أوّلا مجرّد شيء ,كتاب ,"كتاب" موضوع بين مكتبتنا,على طاولة ننقله لنضعه على سريرنا [مثلا] و عندما نفتحه و تتنقل نظراتنا بين الصفحات نعلق في الفخ فتنقلب الغرفة التي نحن فيها إلى مكان آخر .." [6]
هكذا يعرف لنا ميشال بيتور الرواية بصفتها سجّادا سحريا يحملنا ساعة القراءة من مكان إلى مكان فنغادر أمكنتنا الخاصة و الحميمة نحو أمكنة أخرى يسكنها آخرون لا علاقة لنا بهم و لا بهواجسهم و مشاغلهم و نواياهم و معتقداتهم و تفاصيل حيواتهم .إن عملية القراءة إذن تؤمّن لنا رحلة في المكان و في الزمان نعيش مغامرتها و لا نعود منها إلا ساعة نغلق الكتاب و نفرغ من الحكاية /الرواية .
يشعر القارئ أن بعض الروايات تدور أحداثها في حارته أو شارعه أو بلده فتكون الرحلة عندها مجرّد تجوال يومي بينما تنقله روايات أخرى إلى أمكنة بعيدة لم يعرفها من قبل فتقطع له تلك الرواية تذكرة سفر مجانية لزيارتها .قد يكون لهذه الأمكنة مقابل في الواقع و يكون بعضها الآخر من صنع الخيال و لا نقصد هنا الأمكنة في الروايات العجائبية أو الذهنية أو روايات الخيال العلمي فقط بل قد تكون الرواية واقعية دون أن تكون أمكنتها واقعية .

فأين سترحل بنا رواية عمارة لخوص ؟

تحطّ رواية "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضّك؟" بالقارئ في قلب العاصمة الايطالية روما و تدعوه إلى الإقامة في عمارة السينيور كرنفالي مع حشد من الأجناس المختلفة توزّعت على جملة من المهاجرين المنحدرين من جنسيات شتّى (ايران ,بنغلادش ,الجزائر , ألمانيا , البيرو..)
السؤال الأول الذي يتملّك القارئ ساعة يتعرّف على سكان العمارة .كيف ستتعايش هذه الهويات المختلفة بعيدة عن أوطانها ؟
و إذا سلّمنا بما ذهب إليه يتين بليبر من أن "الهوية لا يمكن أن تكتسب سلميا: إنما تطرح كضمان في مواجهة خطر الإبادة أو الإلغاء من قبل هوية أخرى" [7] لنا أن نتساءل عندها كيف سيكون حال هذه الهويات في مواجهتها للآخر صاحب الأرض ؟ و كيف ستتعايش معه في فضاء ضيّق (عمارة) دون أن تصطدم به؟

روما مدينة العنصرية تغرق في عجينة البيتزا

هل يمكن أن ننطلق في تقصّي ملامح مدينة روما من عجينة البيتزا ؟!
نعم , هكذا خيّر الروائي الجزائري عمارة لخوص أن يدخل قارئه إلى مناخاته الروائية "الايطالية" من أكلتها الشهيرة . إن هذا الاختيار يجعلنا نقف للتساؤل :لماذا هذا المدخل ؟

لقد أثبتت الدراسات الاجتماعية و الفلسفية و الانتروبولوجية أن للطعام بعدا ثقافيا كبيرا ,فمن خلال نوعية الطعام يمكنك أن تكشف طريقة تفكير الآخر. و تقول الحكمة الإغريقية "قل لي ماذا تأكل أقل لك من أنت " و لعلّ هذا ما جعل الفلاسفة و الكتّاب يلتفتون إلى الغذاء و العادات الغذائية باعتبارها من المواضيع المهمّة التي علينا أن نجعل منها مدار تأمّلاتنا و يكفي أن نذكّر هنا بما كتبه نيتشه في هذا الموضوع في كتابه "هذا هو الإنسان" [8] إلى جانب ما كتبه الفيلسوف الفرنسي ميشيل اونفريه في كتابه "العقل الشره" و ما عرف عن الفيلسوف الكلبي ديوجين من حبه للحم النيئ.

ولمّا كانت الرواية أشبه ما تكون برحلة ينقلنا فيها السرد من بيوتنا و ينزلنا ضيوفا على الآخرين ,وجب أن يستقبلنا هذا الآخر بالطعام أولا و هي عادة تشترك فيها كل الشعوب على حد السواء ,ولكن كيف سيكون هذا المطبخ الايطالي الذي مدحه نيتشه بعد هجائه للمطبخ الألماني ؟ [9]
و لكن هل دخول روما من مطبخها سيمكّننا من معرفة وجهها الحقيقي ؟ يرسم عمارة لخوص وجه روما بريشة المفجوع في المدينة الأوربية /الحلم فحتّى ساحتها الشهيرة تحوّلت إلى ساحة للاعتقال و ساحة للبكاء و ساحة لخصي السلام و الحوار و التسامح .

كان بارويز الإيراني يلوذ بتلك الساحة ليبكي ساعة تنغلق في وجهه أبواب المدينة فيقول مثلا:

" عندما ذهبت إلى مركز الشرطة بشارع جنوفا لاستلام جواب اللجنة العليا للاّجئين ,صدمت بكلمات مفتّشة الشرطة "طلبك مرفوض و ما عليك إلا الاستئناف" ذهبت مباشرة إلى أوّل بار صادفته ,اشتريت زجاجات من "كيانتي" لا أذكر عددها ,قصدت ساحة سانتا ماريا ماجوري و جلست قرب النافورة كعادتي و رحت أشرب و أبكي "ص19 .
إن المنفي /اللاّجئ المفجوع في ذاته حوّل الساحة الكرنفالية إلى مبكى ,يبكي فيه حياة الشتات و التيه و انتكاسة الذات و هوان الهوية . و من ثمّ فقد انعكست مشاعر اليأس و الإحساس بالخصاء الذي يعيشه المنفي /المهاجر على المكان الذي تحول بدوره إلى ساحة للخصاء الرمزي من خلال حكاية الحمام الذي يعطونه قمحا يمنعه من التكاثر .

تكشف لنا حكاية الحمام المخصي حقيقة الآخر ,والوجه القبيح للصورة السياحية الجميلة التي يريد أن يظهر بها للعالم ,فجمال المشهد(الساحة) السياحي يخفي وراءه جريمة قذرة رمز إليها الروائي ب"خصي" الحمام" رمز السلام و التسامح و "شعار الأمم المتحدة"ص23
فهل يمكن لبلد ارتأى لنفسه الذئب شعارا- و مهما كان هذا الذئب مسالما-أن يحتفل بالحمام ؟

ألم يقل الراوي :"أنا لا أثق أبدا في أبناء الذئبة لأنهم حيوانات مفترسة متوحّشة .إنّ الحيلة الخبيثة هي وسيلتهم المفضّلة في استغلال عرق الآخرين" ص 85

إن الحاح بارويز الإيراني مثلا على صورة الايطالي المدمن على البيتزا رغم مخاطرها الصحّية رامز إلى تمسّك هذا الايطالي /الآخر بعاداته و سلوكاته رغم معرفته بمضارّها .كما يشي التعصّب للطعام (البيتزا) بعصبية في التفكير و في التعامل مع الآخر فالايطالي كما يقدّمه بارويز/الراوي ,يعيش في انغلاق و عزلة ثقافية و يحاول جهده أن يؤمّن ذلك الانغلاق من الاختراق ,بترشيحه لنوّاب و ساسة يعرفون بمعاداتهم للآخر و للمهاجرين تحديدا و نمثّل لهم ببارلسكوني و روبرتو بو سوسو "زعيم حزب الشمال الذي يعادي المهاجرين المسلمين"ص12
ان الايطالي ,في الرواية , يكره الآخر لمجرّد رفض هذا الآخر لطعامه و هذا ما سبب شقاء بارويز الذي ظل عاطلا لأنه لا يحب طهي البيتزا رغم أن بارويز يصرّ أن كرهه للبيتزا لا يعني كرهه للايطاليين:

" أنا اكره البيتزا كرها لا نظير له , لكن هذا لا يعني أنني أكره كل من يأكلها ,هذه الملاحظة في غاية الأهمية ,فلتكن الأمور واضحة منذ البداية ,أنا لا أكن أي عداء للايطاليين"ص10 و يضيف في موضع آخر "كرهي للبيتزا لا ينطوي على أي نوع من الحقد على الايطاليين"ص10
إن هذا الموقف يؤكّد أن بارويزلا يرفض الحوار مع الآخر و لكنه يطالب بحرّيته الشخصية و هذا ما يرفضه الآخر و يؤوّل موقفه من البيتزا على أنّه حـقد و كره و مؤشر للتطرّف .
و في الرواية مضارب كثيرة تتحدّث عن الأكل كمكوّن من مكوّنات الذاكرة الفردية و كمشكّل من مشكّلات الهويّة و نمثّل لذلك باستحضار أمديو لفيلم المخرج الايطالي سابندر "الآخرون ينادونه علي [10]

فضاءات الرواية : فضاءات الحنين /فضاءات الأنين

تتوزّع الفضاءات في الرواية بين نوعين فضاءات الآخـر و تمثّلها الشوارع و الساحات و أماكن العمل و عمارة السكنى و المصعد ....و تتصف بأنها أماكن المصادرة و أماكن الاستلاب. و فضاءات الذات /الأنا , و هي أماكن مجازية اجترحتها الشخصيات المنفية و المهاجرة لتحلب الذاكرة الجريحة في نوستالجيا مؤلمة و تتمثّل خاصة في المطبخ بالنسبة لبارويز الإيراني الذي يعود به طهي الطعام الإيراني إلى مدينته شيراز مثلما يفعل به الحلم ذلك أحيانا . و يمثل المرحاض فضاء للمكاشفة و لمواجهة الأنا الموشكة على الذوبان في قوانين الآخر و ضوابطه عند أحمد الجزائري .

فضاءات الحنين :

يمثّل المطبخ بالنسبة إلى بروزيز الإيراني فضاءا مركّبا و معقّدا تتصارع فيه الذات أو الهوية مع منتهكيها , ففي المطبخ الايطالي الذي امتدحه نيتشه يعيش بارويز مشاعر الاستلاب فتتقهقر الذات إلى دركها الأسفل لتتصاغر و تتقازم فيتحوّل من سيد (صاحب مطعم بشيراز) إلى عبد أجير في ايطاليا يقول :" لست غاسل صحون كما هو شائع عني في مطاعم روما , كنت املك مطعما جميلا في شيراز .لعن الله من كان وراء ضياعي "ص 17

إنّ هذه الانتكاسة للذات في فضاءات الآخر من موقع السيد إلى وضعية العبد أو الأجير جعلت الشخصية الروائية –بارويز- تحاول العيش على نحو استعاري فينزلق أحيانا من الواقع نحو الحلم يلتقي بذاته و ينشط هذا الانزلاق نحو الذاكرة خاصة عند انغلاق آفاق الواقع فتهرع الذات إلى الحلم بحثا عن الملجأ فعندما خاط بارويز فمه احتجاجا على قرار السلطات حرمانه في حق اللجوء السياسي رأى نفسه في إيران نائما قرب ضريح حافظ الشيرازي . يقول : " أغمضت عيني و خيّل إليّ أنّي نائم قرب ضريح حافظ في شيراز كما كنت أفعل عندما كنت صبيّا .."ص20
و لكن يبقى المتنفّس الأهمّ بالنسبة لشخصية بارويز هو المطبخ فمن خلاله يعود بارويز إلى شيراز و يلتقي بهويته الثقافية التي يصارع من أجلها , يرفع بارويز المطبخ باعتـباره فضاءا للراحة إلى مستوى المكان المقـدّس فيشبّـهه بالكنيسة و المعـبد و المسجد. [11]
و من ثمّ مثّل المطبخ الإيراني ملاذا للذات المنتكسة بحثا عن نفسها من خلال تلك الروائح و التوابل الخاصة التي تنشّط الذاكرة , و الروائح كما سبق أن بيّن لوبروتون منشّط أساسي للذاكرة لذلك كان أمديو يواسي صديقه أو يعالجه من أمراض الغربة بالمطبخ الإيراني , فيوفّر له ما يحتاجه لطهي أكلاته المفضّلة فينقلب بارويز من حالة الحزن و الإحباط إلى حالة الإنشاد و الرقص [12].

يقول أمديو متحدّثا عن علاقة بارويز بالطبخ الإيراني :" بالنسبة لبارويز الطبخ الإيراني بتوابله و روائحه هو ما تبقّى من الذّاكرة بل إنّها الذاكرة و الحنين , و رائحة الأحبة معا . هذا الطبخ هو الخيط الذي يربطه بشيراز التي لم يفارقها أبدا "ص 29
إذا كان هذا المطبخ ملاذ بارويز ينقذ ذاكرته من التحلل و ذاته من التفسّخ في عجينة روما ,فإلى أين يهرب أمديو . أو أحمد الجزائري الذي أفقدته روما حتّى اسمه الشخصي ؟؟!
مرحاض الذاكرة /يوميات المنفى

رغم أن شخصية بارويز تبدو أكثر درامية من غيرها في رواية عمارة لخوص بحكم صراعها المستمرّ من اجل المحافظة على ذاتها و هويتها الثقافية فإن شخصية أحمد الجزائري تمثّل الشخصية الرئيسة التي تجتمع فيها كل أمراض الغربة لأنها خيّرت رمي ذاكرتها في المرحاض.
"أكره الأماكن الضيّقة ماعدا هذا المرحاض , هذا عشّي . قرأت اليوم في مجلّة "فوكوس" مقالا عن الهدهد , يبدو أنّه الطائر الوحيد الذي ينجّس في عشّه ! هناك طائر آخر لا يقلّ غرابة عن الهدهد , إنّه الغراب الذي دلّ القاتل قابيل على كيفيّة التخلّص من جثّة أخيه هابيل . يقال إنّه القاتل الأوّل على الأرض , إذ الغراب هو أوّل خبير في دفن الأموات في التاريخ . أنا غراب من نوع خاص : مهمتي هي دفن الذكريات الملوّثة بالدّم " ص46

اتّخذ عمارة لخوص اليوميات [13] تقنية فنّية وإستراتيجية سردية في بناء روايته ليشكّل من خلالها الشخصيّة الروائية وقد انفرد بهذه اليوميات "أمديو"(أحمد)دون غيره فهو الشخصية الوحيدة التي لا تشارك في سرد الأحداث, التي هي مدارها, إلاّ من خلال هذه المقتطفات من اليوميات ,وإن كانت هذه اليوميات لا تتحدّث عن راويها بقدر ما تتحدّث عن الشخصيات الأخرى.

اختار أمديو تسجيل يومياته في فضاء غريب ,هو المرحاض فانقلب هذا الفضاء من حيّز مقترن بالنجاسة والقرف إلى فضاء للطهارة والتطهّر والاعتراف .,فضاء لمواجهة الذات المقنّعة والذاكرة المسلوبة وفضاء لممارسة العواء والتذكّر بحرية .

إن المتأمّل في زمن تدوين اليوميات يلاحظ أن أمديو كان يسجّلها بين الساعة العاشرة ليلا والساعة الصفر وهو زمن مناسب لانتهاء رحلة النهار وربّما الفراغ من المسؤوليات الزوجية مع الإيطالية التي اختار أن يعيش معها بلا ذاكرة واشترط عليها أن لا تنبش عنها حتّى تستمرّ حياتهما معا ,فيبقى أمديو لغزا وحقيقة تائهة ,حقيقة لعوب تخلع أثوابها أمام القارئ قطعة قطعة وعند لحظة اقتراب موعد اليقين تعود إلى التباسها وغموضها مؤكّدة عبارة ليوناردو شاشا في "يوم البومة" التي صدّر بها عمارة لخوص روايته:

"الحقيقة في أعماق بئر :تنظر في بئر فترى الشمس أو القمر لكنّك إذا ألقيت نفسك فيه ,فانّك لن تجد الشمس ولا القمر .هناك الحقيقة فحسب"(ص7)
لقد وزّع عمارة لخوص يوميات أمديو في الرواية بطريقة فنّية مركّبة فجاءت في شكل تعقيبات وهوامش لفصولها الرئيسية,تأتي اليوميات التي حملت اسم العواء لتفصل بين الفصول الرئيسية وتسخر من الحقائق التي تدّعيها بكشف حقائق أخرى تختلف جذريا عمّا روته الشخصيات , لذلك كان الترتيب الزمني لهذه الشذرات من اليوميات يخضع لتشكيل فنّي خاص قوامه التقطيع والتوليف فخصّص كل عواء لشخصية واحدة جمّع فيه نتف ما كتبه عنها على امتداد سنوات .

عمارة لخوص

يقيم لخوص منذ 1995 بروما بغرض الدراسة بعدما تخرج من قسم الفلسفة بجامعة الجزائر العام 1994، وفي جامعة روما نال سنة 2002 الماجستير في الأنثربولوجيا الثقافية، التي أهلته الآن لإعداد أطروحة دكتوراه حول وضع العرب المقيمين بإيطاليا• نشر لخوص روايته الأولى ’’البقّ والقرصان’’ باللغتين العربية والإيطالية العام 1999، ثم صدرت روايته الثانية ’’كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك’’ عن منشورات الإختلاف فيالجزائر عام 2003، وهي الرواية التي صدرت في بيروت أيضا• يكتب عمارة لخوص (36 سنة) بالعربية والإيطالية وسبق له أن فاز بعدة جوائز أوروبية. وينشط حاليا في عدد من المجالات بين إيطاليا والجزائر منها إلقاء المحاضرات، وتنشيط الندوات الثقافية السياسية، ونشر المقالات في صحف البلدين، وإنجاز عدة أعمال في الترجمة بين اللغتين، وغيرها من النشاطات ذات الطابع الثقافي والإعلامي والأكاديمي.

حازت الرواية موضوع البحث في نسختها الايطالية"صدام الحضارات لمصعد في بيازا فيتورو" على جوائز كثيرة في ايطاليا و هي بصدد التحويل الى شريط سنمائي و اعتبر المؤلف الجزائري لخوص من بين "العشرة الأوائل" الأكثر مبيعا في إيطاليا

قراءة في فضاءات الآخر في رواية الجزائري عمارة لخوص

[1عمارة لخوص - كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضّك ؟ منشورات الاختلاف, الجزائر 2000

[2لمزيد التعمّق يمكن الرجوع إلى كتاب عتبات للفرنسي جرار جينيت مثلا

[3يرمز إلى مدينة روما بالذئبة الضارية التي تبنت ريمو و رومولوس

[4إلى صديقي العزيز روبرتو دي أنجليس فائق المحبة و التقدير و الامتنان

[5التصديرات :

أ- " هل تريد قليلا من الصبر ؟
لا...
فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون
الذي لم يكنه
يشتهي أن يلاقي اثنين :
الحقيقة و الأوجه الغائبة .
(الجنوبي ) أمل دنقل (1940-1983)

ب- الحقيقة في أعماق بئر : تنظر في بئر فترى الشمس أو القمر لكنّك إذا ألقيت نفسك فيه, فإنّك لن تجد الشمس و لا القمر , هناك الحقيقة فحسب"
ليوناردو شاشا ( 1921- 1989)

ج- " الناس السعداء ليس لهم عمر و لا ذاكرة , فهم لا يحتاجون إلى الماضي" الطاهر جاووت ( 1954-1993)

[6ميشال بيتور , بحوث في الرواية الجديدة, ترجمة فريد أنطونيوس , منشورات عويدات , ط 2 لبنان 1982 ص 59

[7يتين بليبر , الثقافة و الهوية ( مدوّنة عمل) , ترجمة عبد الله الكندي , مجلة نزوى عدد 28 أكتوبر 2001 سلطنة عمان , ص76

[8فريدريك نيتشه, هذا هو الإنسان , دار الجمل ألمانيا

[99-انظر فريدريك نيتشه هذا هو الإنسان,أنظر كذلك مقال معدة الفيلسوف لسعيد فرحان جريدة الصفنة العدد الثاني 2004

[10"...شاهدنا فيلم " الآخرون ينادونه علي " . يروي هذا الفيلم قصّة المهاجر المغربي "الهادي" الذي ينادونه علي و زوجته الألمانية و هي في سنّ والدته , يعيش البطلان أنواعا مختلفة من الضغوط الناتجة عن عداء و تكبّر بعض من يحيط بهما : الجيران و زملاء العمل و عائلة المرأة على وجه الخصوص . يصوّر فاسبندر مأساة "علي" ببراعة إذ يتخبّط بين الحنين إلى الكسكس و سعيه الفاشل لنيل رضى الألمان"ص 102

[11يقو ل بارويز " لكل شخص مكان يرتاح فيه , هناك من يجد راحة البال في الكنيسة أو في المسجد أو في المعبد أو في السينما أو في الملعب أو في السوق , أمّا أنا فأرتاح في المطبخ , فلا غرابة في ذلك , فأنا طبّاخ ماهر ورثت أصول الطبخ أبا عن جدّ و لست غاسل صحون كما هو شائع عني في مطاعم روما "ص17

[12يقول بارويز :" يفتح لي أمديو باب المطبخ قائلا :" مرحبا بك في مملكتك يا ملك الفرس !" ثم يغلق الباب و يتركني وحدي ساعات طويلة . أشرع دون تأخير في تحضير أطباق ايرانية متنوّعة مثل غورمة سبزي و بره كباب و كشك بادمجال و بوراني كدو . الروائح التي تعمّ المطبخ تنسيني الواقع و مشاكله و أتخيّل نفسي في مطعمي في شيراز , في غضون دقيقة أو دقيقتين تتحوّل رائحة التوابل إلى بخور مما يدفعني إلى الرقص و الإنشاد كالدراويش : حي!حي! حي! هكذا ينقلب المطبخ في دقائق معدودة إلى حضرة صوفية ! .."ص 16

[13تمثّل اليوميات أهم الأجناس الأدبية التي كادت تصبح جزءا من لحم الرّواية لتواتر حضورها في النصوص المعاصرة ,فكثيرا ما توسّل بها الروائي العربي تحديدا لتنويع خطابه الرّوائي ساعة ولشحنه بمؤثّرات ذاتية ساعة أخرى ,ولنا في مؤلفات صنع الله إبراهيم و واسيني الأعرج وأمين معلوف أمثلة دالة على ذلك لكن كلّ واحد منهم وظّفها بشكل مختلف يتناغم مع عوالم الرواية التي يحبّرها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى